حرب غزة وتغيّر المعادلات السياسية
من يومٍ إلى آخر، يختلف تقدير الموقف وموازين القوى، مع تصاعد مراحل الحرب في قطاع غزة. فمواقف الدول المعنية تختلف مع التطورات على الأرض، وتغير اتجاهات الرأي العام، مما يجعل تقدير الموقف السياسي عملية متجددة تتطلب مراجعة مستمرّة.
ولكن هناك سمات لم تتغير على مدار الحرب، إذ يمكن القول إن المقاومة احتفظت بزمام المبادرة طوال الوقت، وبقيت يدها هي العليا، متفوقة في الحرب البرية.
سمة أخرى لم تتغير، هي وجود مسارين منفصلين في هذه الحرب، أحدهما الحرب البرية بين المقاومة، والجيش الصهيوني، والثاني هو مسار حرب الإبادة الإنسانية التي يشنها جيش الاحتلال ضد المدنيين. هاتان حربان تسيران في مسارين متوازيين، وحرب الإبادة هي جريمة قائمة بذاتها، ولا صلة لها بالحرب التي تخوضها إسرائيل ضد المقاومة، ولا تحقق أيًا من أهدافها.
هذه الجريمة ضد الإنسانية، استفزت الضمير العالمي، فثار ضدها، كما أدت لزيادة تعاطف الرأي العام مع المقاومة والشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. واستمر هذا ثابتًا طوال الأشهر التسعة، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
أما المتغير الأبرز، فهو تبدل المواقف بين يوم وآخر. على سبيل المثال، خلال الأسبوع الأول من يوليو/تموز الجاري، توقف الحديث عن مفاوضات بين أميركا ومصر وقطر لمتابعة دفع اتفاق الهدنة المتعثر.
قبلها بأسبوع أو أكثر، كانت أميركا قد سحبت مشروعها لاتفاق الهدنة الذي حمل توقيع عدة دول، واتهمت حماس بأنها المسؤولة الوحيدة عن فشل ذلك الاتفاق، وبرأت نتنياهو من أي مسؤولية عن ذلك، وزعمت أنه كان موافقًا عليه.
والمفارقة، أن حماس كانت هي من وافقت علنًا ورسميًا على مشروع الاتفاق، فيما طلب نتنياهو إجراء تعديلات تعجيزية عليه، واستخدم التحفظ على تعديلاته حجة للانسحاب الصامت، وهو الذي لم يعلن أبدًا في أي لحظة أنه كان موافقًا على الاتفاق.
كان سحب أميركا مشروعها يعني إعفاء نتنياهو من أي ضغوط أميركية أو أوروبية تثنيه – ولو جزئيًا- عن قراره الثابت باستمرار الحرب حتى النهاية. وتحميل المسؤولية لحماس عن استمرار تلك الحرب. وبهذا حظي نتنياهو بالحسنيين، وهما: وقف الضغوط عليه لإيقاف الحرب، وإعفاؤه في نفس الوقت من أي مسؤولية عن استمرارها، وهذا هدفه الأسمى. وفيما كان بايدن منشغلًا بهزيمته في المناظرة أمام ترامب، مضى الجيش الصهيوني، بأوامر مباشرة من نتنياهو، مطلق اليد في حرب الإبادة ضد الإنسان والبيوت المأهولة، مركزًا على توسيع المجاعة، ووقف دخول المساعدات في حدها الأدنى.
لكن المفارقة اللافتة كانت قدرة المقاومة على تصعيد عملياتها، لتنزل خسائر فادحة بالجيش الصهيوني، ضباطًا وجنودًا ودبابات ومعدات، وكأنها عادت أقوى مما كانت عليه طوال تسعة أشهر.
لا ينشغل نتنياهو كثيرًا باحتساب خسائره في الميدان، سواء في غزة أو على الحدود مع لبنان، أو بسبب الحصار البحري الذي يقوده ضده الحوثيون. فأولويته هي البقاء في السلطة؛ خوفًا من الخروج منها إلى السجن إذا ما انتهت الحرب، وأهم ما يحرص عليه لتحقيق هذا الهدف هو الحفاظ على أغلبية أربعة أصوات في الكنيست ليبقى في السلطة، وهو ما يؤمنه له التحالف مع بن غفير، وسموتريتش.
كل التطورات التي حدثت منذ بدأت هذه الحرب كانت في غير مصلحة الكيان الصهيوني وجيشه، فهو يدفع فاتورة باهظة في الميدان العسكري سواء في غزة أو الميادين الأخرى المساندة للمقاومة، ويخسر معركة الرأي العام داخليًا وخارجيًا، وتتآكل مصداقيته السياسية والأخلاقية على المستوى العالمي.
بضعة أشهر من هذه الخسائر كانت كافية لاتخاذ قرار وقف العدوان، والاعتراف ولو ضمنيًا بالهزيمة، لكن ذلك لم يحدث بسبب حسابات لا علاقة لها بالحرب، ولا بأصول إدارة الصراع، وإنما إرضاء للغرور وشهوة الانتقام، والخوف من نتائج إعلان الهزيمة.
قبل أن ينتهي الأسبوع الأول من يوليو/تموز 2024، تقدّمت قيادة حماس، بتفاهم مع قيادة الفصائل المقاومة الأخرى في غزة، بمقترحات جديدة للخروج بمفاوضات الهدنة من مأزقها، فغيرت هذه المبادرة على الفور معادلة الحراك السياسي التي كانت دخلت مرحلة الاختناق.
والأهم أنها شكلت، إرباكًا للأميركيين الذين حاولوا إلقاء الكرة في ملعب حماس بتحميلها المسؤولية عن فشل المفاوضات ولنتنياهو الذي اطمأن إلى ذلك، فإذا بها تعيد الكرة إلى ملعبهم وتحملهم مسؤولية أفعالهم وقراراتهم.
أثبتت قيادة المقاومة في قطاع غزة، مهارة فائقة في إدارة الصراع السياسي، بقدر مهارتها في ميدان الحرب البرية، الذي حولته إلى شبكة من الأفخاخ تحيط بالجيش الصهيوني حيث ذهب، ولعله من غير المبالغة أن نقول إن ذكاءهم وتكتيكهم القتالي الدفاعي والهجومي، أضافا فصولًا جديدة إلى علم الحروب غير المتكافئة وقتال المدن.
وهكذا، بكلمة من حماس وقادة المقاومة، تغيّر المشهد الدولي في أقلَّ من 24 ساعة، وأصبحت العيون مشدودة إلى مفاوضات الدوحة، في انتظار ردّ نتنياهو ومَن وراءه، وعندها ستتغير المعادلة مرّة أخرى سلبًا أو إيجابًا. هذا التغيير من يوم إلى يوم، هو السمة التي رأيناها تتكرّر خلال الأشهر التسعة من الحرب في غزة.
تبقى ملحوظة أخيرة على هامش ما سبق، وهي أنّ نظرة متأنية إلى أحوال القيادة في أميركا والكيان الصهيوني والعالم الغربي عمومًا، تكشف أنها تتجه يومًا بعد يومٍ نحو مزيد من التدني والتراجع وانحطاط المستوى، وعلى العكس من ذلك، فلو نظرنا إلى مستوى قيادة المقاومة وجنودها لوجدناه يسير نحو النمو والازدهار.
نحن أمام وليدٍ ينمو ويشبّ ويزداد فتوة في ناحية، وشيخ هرم تزيده الأيام ضعفًا كلما مرّت.. وفي هذا وحده بابٌ للأمل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.