مراهنات خاسرة لفرض الوصاية على الفلسطينيين
يختلف قادة الاحتلال فيما بينهم، بين من يريد أن يتحكّم بالفلسطينيين عسكريًا في غزة، وبين من يريد أن يفرض حكمًا محليًا أو أجنبيًا عليهم، بدعم من الولايات المتحدة، وربما بتواطؤ البعض الذين عزف على نغمتهم رئيس السلطة الفلسطينية ليدين الطوفان!
غير أن أيًا ممن سبقوا لا يمكنهم أن يفرضوا ما لا يقبله الشعب الفلسطيني، ولا أن يقفزوا على جراحاته وآلامه، أو أن يستغلوها لفرض أجندات أقل ما يقال فيها أنها لا تتوافق مع تطلعات الشعب الفلسطيني، ولا تعالج حاجاته الماسّة في ظل حرب طاحنة أكلت أخضرهم ويابسهم!
فرض وصاية
أول ما يلفت الانتباه في الخلاف الإسرائيلي الذي تشارك فيه واشنطن لصالح أحد الأطراف، أنه يقوم على افتراض سحق المقاومة، وهذا ما لا يبدو أنه قابل للتحقق باعتراف الإسرائيليين أنفسهم وتقديرات أجهزة الاستخبارات الأميركية.
فإذا كان هدف نتنياهو بالاستمرار بحكم غزة لسنوات هو هدف غير واقعي وسيكلف الاحتلال الكثير من الخسائر، بما في ذلك التكلفة الاقتصادية الباهظة، في مواجهة مقاومة متجذرة في أرضها، فإن مخطط اليوم التالي الذي يراد له أن يقوم على أنقاض المقاومة أو حتى إضعافها هو غير واقعي أيضًا في ظل استمرار فاعلية المقاومة وتكبيدها الاحتلال خسائر فادحة، وضربها خططه في كل مناطق غزة.
غير أن الأخطر في الموضوع هو في محاولة فرض الوصاية السياسية على الشعب الفلسطيني، إما بالاحتلال المباشر أو بمحاولة استجماع حلف غربي تشارك فيه السلطة الفلسطينية، بعد إضعاف المقاومة!
لا يبدو أن المحتل يملك الأفضلية في هذا المخطط، إذ إنه ممزق في الداخل، والخلافات تعصف بحكومته، فيما يزداد الشرخ بينها وبين الجمهور على وقع فشلها في القضاء على المقاومة واسترجاع الأسرى.
إن انقسام الكيان، وعدم توحده على توجه محدد، يشكل أول عائق أمام تحقيق الانتصار في المعركة الحالية، فضلًا عن أن ذلك يشكل مصدر خلاف دائم مع الولايات المتحدة التي تشدد على ضرورة موافقة الاحتلال على خطة اليوم التالي
وعلى الرغم من توسيع العدوان، والتوغل أكثر في رفح جنوب غزة، فإن ذلك لم يجلب النصر الكامل الذي وعد به نتنياهو، ولا يؤهل حكومة المتشددين لتمهيد الأرض الفلسطينية لحكم عسكري يستمر شهورًا أو سنوات. فيما تستمر الخلافات بين أقطاب الحكومة، بما يهدد بقاءها أصلًا.
كما لا يملك الكيان فسحة الوقت في ضوء الضغوط الأميركية عليه، والانقلاب في المزاج الغربي، والمطالبة بوقف النار، ومع طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه غالانت، فضلًا عن احتمال إصدار محكمة العدل الدولية أمرًا بوقف إطلاق النار؛ لمنع استمرار ارتكاب جرائم ضد الإنسانيّة.
مراهنات.. ولكن؟
صحيح أن كلا الاحتمالين لا يزالان بعيدين عن التحقق، ويعبران عن عقلية استعمارية متجددة، فلنا أن نتساءل: أين هي المصلحة الفلسطينية أو العربية في التساوق مع المخطط الأميركي الذي يرتكز إلى هزيمة المقاومة التي هي بالنتيجة هزيمة للشعب الفلسطيني بأكمله؟
ونبدأ هنا بالسلطة الفلسطينية التي تعاني الويلات بعد أن ربطت نفسها بالاحتلال، فيما لم تتمكن بعد أكثر من 30 سنة على اتفاقياتها مع الكيان على تحصيل أيّ من الحقوق الفلسطينية، بل على العكس ساهمت في تكريس الاحتلال وتسريع الاستيطان، وتصاعد مخططات تهويد القدس، والتنكّر للحقوق الفلسطينية ورفض إعطاء الفلسطينيين أي شكل من أشكال السيادة على أرضهم، بما في ذلك رفض الدولة الفلسطينية منزوعة السيادة التي تكلم عنها الرئيس الأميركي جو بايدن!
فماذا ستستفيد هذه السلطة من خلال جريها وراء تمديد دورها إلى قطاع غزة، حتى ولو بعد انسحاب الاحتلال منه (لا يبدو أنه سيكون كاملًا بأحسن الأحوال)، وماذا ستستفيد من ضرب المقاومة والحلول محلّها؟ وهل سيحترمها أحد بعد أن تكون تآمرت على شعبها ومقاومته؟ وهل ستحصل على أيّ استحقاق لم تحصل عليه قبل ذلك؟
إنّ الشيء الوحيد الذي ستحصل عليه هو ضرب وحدة الشعب الفلسطيني وتعميق الشرخ فيه، وخسارة كل عناصر القوّة التي تحتاجها لانتزاع التنازلات من المحتل وتكريس تبعيتها للاحتلال دون التمكن من الحصول على استحقاق سياسيّ حقيقيّ، خصوصًا أن الكيان يتجه أكثر وأكثر نحو اليمينية، ورفض الحقوق الفلسطينية، ويرفض التجاوب مع المساعي السياسية الأميركية على الرغم من تهافتها!
أما بالنسبة للدول العربية، فقد استفاد بعضها من محاولة الولايات المتحدة التخفيف من وجودها في المنطقة، فحاولت هذه الدول إقامة علاقات مع الصين وروسيا بما يضمن لها مروحة من المصالح الإستراتيجية.
ولكن ما هي المصلحة من التجاوب مع محاولة هذه الإدارة إعادة الجميع إلى بيت الطاعة الأميركي، وتسييد الإسرائيلي أمنيًا وعسكريًا على المنطقة، على الرغم من التراجع المهم في المكانة الإستراتيجية لهذا الكيان!
إن حرص البعض على اتخاذ مواقف معينة، لتحصيل منافع اقتصادية وسياسية من الولايات المتحدة أو إسرائيل هو قصر نظر إستراتيجي، لأنه كلما حققت المقاومة انتصارات على المحتل، تراجعت مكانته في كافة المجالات، وزادت حاجة الإدارة الأميركية لهذه الدول، وتعززت مكانتها على حساب مكانة الكيان. بل إنها تستطيع الصمود أكثر في مواجهة ضغوط الولايات المتحدة، لأن مكانة واشنطن ستصبح أضعف مع استمرار فشلها مع الكيان في إخضاع قوة صغيرة في رقعة جغرافية مساحتها لا تزيد عن 360 كيلو مترًا مربعًا!!
أما في حالة هزيمة المقاومة – لا سمح الله – فإن الولايات المتحدة ستكرس نفسها أكثر وأكثر في المنطقة، وستكون قادرة على ممارسة ضغوط أكبر على الدول العربية لتطبيع العلاقات مع الكيان، حتى بدون أن تستمع لمطالب هذه الدول بمكافآت ومزايا كثمن لذلك.
هذا فضلًا عن أنه لا مصلحة للدول العربية في إفساح المجال للولايات المتحدة بإعادة ترتيب أوراقها والتفرغ لمواجهة التهديد الصيني والروسي، بما يضيق هامش المناورة أمام هذه الدول، ويضرب كل محاولاتها السابقة للاستفادة من تخفيف الولايات المتحدة وجودها في المنطقة.
حسابات البيدر
إن انقسام الكيان، وعدم توحده على توجه محدد، يشكل أول عائق أمام تحقيق الانتصار في المعركة الحالية، فضلًا عن أن ذلك يشكل مصدر خلاف دائم مع الولايات المتحدة التي تشدد على ضرورة موافقة الاحتلال على خطة اليوم التالي.
وحتى ولو افترضنا أن حكومة الكيان وافقت على هذه الخطة، أو تم تغيير هذه الحكومة لحكومة تتجاوب مع المطالب الأميركية، فإن تنفيذ هذه الخطة على أرض الواقع سيصطدم بصمود المقاومة، وما تملكه من حاضنة شعبية سترفض أي نوع من أنواع الوصاية، في ظل عدم امتلاك السلطة الفلسطينية، الشعبيةَ اللازمة لكي يقبل بها الفلسطينيون في غزة.
ويتذكر الطرف الأميركي الذي يسوق لخطة اليوم التالي أنه خطته في أفغانستان لتنصيب حكومة موالية له باءت بالفشل، حيث تمكنت طالبان من إسقاطها وطرد كل بقايا الوجود الأميركي هناك.
من المؤسف أن تكون السلطة الفلسطينية هي حصان طروادة للولايات المتّحدة ولبعض الأطراف الإسرائيلية في التآمر على المقاومة والقفز عن حقوق الشعب الفلسطيني والقبول بفتات الحلول من أجل أن تكرس مكانتها ووجود قياداتها التي ارتبطت ارتباطًا عضويًا بالاحتلال.
من هنا، فإن الأصل هو المراهنة على اتفاق الفلسطينيين على برنامج موحد يستند إلى المقاومة، وتعزيز عوامل الصمود الفلسطيني، واستمرار تمسك الدول العربية بالانسحاب الإسرائيلي من غزة، ودعم القرار الوطني الفلسطيني، والعمل على إعادة إعمار غزة بعيدًا عن أية وصاية دولية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.