التجربة التونسية مع الحركة الإسلامية: 43 عامًا من التفاعل
بشيء من النوستالجيا وكثير من الهواجس أحيا أتباع وقيادات حركة النهضة التونسية الذكرى الثالثة والأربعين لتأسيس حركة الاتجاه الإسلامي. مناسبة حلّت والحزب يمرّ بظرف خاص، إذ يقبع بعض قياداته في السجن، على رأسها الزعيم التاريخي المؤسّس الشيخ راشد الغنوشي، كما يخضع الحزب لقرار قضائي بغلق مقراته كلها، بما فيها مقرّه المركزي.
رغم ذلك، يسجل الحزب وجوده كعمود فقري لجبهة الخلاص المعارضة للرئيس التونسي قيس سعيد، ذلك أن جماهير النهضويين تبقى الخزّان الأساسي للجبهة في كل التحرّكات التي دعت لها ونفذتها.
مفارقة
تشكّل معطيات المشهد التونسي الراهن ملامح لمرحلة غير مسبوقة في تاريخ الحركة الإسلامية في تونس عبر مكوّنها الأساسي، وهي النهضة المحسوبة على المرجعيّة الإخوانية. مرحلة يتمتع فيها حزب حركة النهضة بتأشيرة قانونية جعلت منه رقمًا أساسيًا في المعادلة التي حكمت تونس أثناء ما يعرف لدى بعض أطراف الساحة السياسية بعشرية الانتقال الديمقراطي، فيما يصرّ خصومها وخصومهم على وصفها بالعشرية السوداء، معتبرين ما أقدم عليه الرئيس سعيد من طي لتلك العشرية عملية تصحيح، وهي العملية التي يعتبرها حزب حركة النهضة انقلابًا على مسار ديمقراطي، وغدرًا بالثورة التونسية من قبل سعيد، ومن يقف وراءه.
أيًا يكن الحال، فقد أثقلت تلك العشرية النهضة ومنتسبيها بكثير من الضغوط والاتهامات التي بلغت ذروتها بتوجيه أصابع الاتهام لها بالوقوف وراء اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد، والقومي محمد البراهمي.
اعتبرت النهضة تلك الاتهامات مظهرًا لجهد منظم ومثابر قادته أطراف تصفها بالاستئصالية المتطرفة لأجل جرّها إلى مربع الملاحقات الأمنية؛ تمهيدًا لشطبها وتحقيق ما سعى إليه نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في إطار ما عرف بخطة "تجفيف المنابع".
وتقول النهضة إنّ جهات يسارية وقومية ودستورية متطرفة عقدت صفقة ضمنية مع نظامي الراحلين بورقيبة وبن علي، قامت بمقتضاها بملء الفراغ الأيديولوجي للسلطة في معركتها مع الإسلاميين، وهي السياسة التي انعكست على التعليم والإعلام والثقافة في تونس كرافعة لجهد أمني في الحرب على الإسلاميين، عرَّضتهم لما يصفونه بالمحن المتتالية، تلك التي شهدت مقتل العشرات منهم تحت التعذيب وحرمان عشرات الآلاف بينهم من حقوقهم المدنية، بل ومحاصرتهم في أقواتهم وأمن أسرهم.
خصوصية تونس
في نظر دول أوروبية تتقدمها فرنسا، مثلت البلاد نموذجًا لحركة التحديث في العالم العربي وَفق المعايير الغربية، بينما أفردت المنظمات الحقوقية الدولية لممارسات السلطة فيها مساحات واسعة من تقارير وثقت انتهاكات لحقوق الإنسان صنعت شيئًا فشيئًا سمعة أمنية سيئة قيل إن ثورة 2010 جاءت في العمق ردًا عليها.
وفي إشارة نادرة من الرئيس التونسي قيس سعيد إلى نظرته لهذا الملف، قال سعيد في لقاء حديث مع وزيرة العدل ليلى جفال: إنه لا مشكلة له مع حزبي النهضة والدستوري الحرّ.
إشارة وردت في شكل جملة اعتراضية داخل كلام أوسع في الواقع الحقوقي والقانوني في البلاد، جمعت في دلالاتها حزبين لدودين ضمن علاقة لا تخفي فيها زعيمة الدستوري الحر عبير موسي، السجينة بدورها، هدفها في إنهاء الوجود القانوني لحزب النهضة وملاحقة زعمائه وأتباعه وحسم هذا الملف نهائيًا.
كثيرة هي التفاصيل التي أشار إليها حزب النهضة بمناسبة ذكرى التأسيس، متحدثًا عن الافتخار بالماضي والاستعداد للقيام بمراجعات نقدية والتطلع إلى المستقبل مع ما يقتضيه ذلك من مواجهة لاستحقاقات الحاضر، بيد أن نظرة أعمّ تفرض زاوية تخرج بالمشهد إلى سياق إقليمي وعربي أوسع.
قدّمت تونس تجربة في التعامل مع الحركة الإسلاميّة، تطرح كثيرًا من الأسئلة التي تستحقّ وقفة تأمل، ذلك أنّ الدولة التونسية التي ورثت مفارقة بورقيبية تؤثّر فيها إلى يوم الناس هذا، تتمثل في الصراع مع المستعمر تحت عنوان "المجاهد الأكبر" بما يحمله من مضامين ودلالات إسلامية واضحة، وفي المقابل الإعجاب بثقافة المستعمر واعتبارها بوصلة في بناء الدولة الحديثة.
قادت هذه الروح التي سكنت دولة الاستقلال إلى تهميش واحد من أهمّ روافد الإسلام في البلاد، متمثلًا في جامع الزيتونة بوصفه مؤسسة تاريخية منتجة للعلم والعلماء، فتراجع دوره المعرفي والاجتماعي حتى بات جزءًا من فلكلور رسمي للدولة.
ومع أن دولة الاستقلال تلك كانت قد خاضت معارك شرسة مع الحركة اليوسفية القريبة من الناصرية، وكذلك ضدّ حركات يسارية في وقت لاحق، إلا أن معركتها الكبرى كانت مع الإسلاميين الذين غضت الطرف عنهم في بداية ظهورهم قبل أن تحسم أمرها في اتجاه تعامل أمني مع الملف أغلق الباب على أي إمكانية لاحتوائهم ومنحهم فرصة الاندماج في الدولة.
تجارب الجيران
رسمت السّياسة في التّعامل مع الإسلاميين مسافة مع تجارب أخرى قامت على جوار تونس القريب والبعيد، ففي الجزائر مثلًا شهدت البلاد ظهور وصعود تعبيرات مختلفة للحركة الإسلامية، ضمن علاقة متقلبة مأزومة وصلت حد المواجهة المسلحة بعد إلغاء المسار الانتخابي عام 1989. مع ذلك اختارت الجزائر الرسمية المراهنة على احتواء ما اعتبرته "الإسلام الحركي المعتدل" ممثلًا بالأساس في إخوان الجزائر الذي تمثل حركة "حمس" أهم تعبيراته.
ورغم أن العشرية الدموية كلفت الجزائر مئات الآلاف من القتلى والمفقودين، فإن تلك التجربة المفجعة لم تمنع من استمرار وجود قانوني للإسلاميين بل ومشاركتهم في مستويات من الحكم وصلت حد حمل حقائب وزارية.
وإلى جانب الجزائر انتهجت المملكة المغربية سياسة مماثلة قامت على احتواء الحركة الإسلامية، وهو الخيار الذي تم تبنيه بمستوى عالٍ إثر مظاهرات شهدها الشارع المغربي في سياق الربيع العربي.
في تلك الظرفية الحساسة منح النظام المغربي الإسلاميين فرصة تاريخية بتشكيل حكومة قادت البلاد لسنوات يختلف المغاربة في تقويم محصولها، غير أن أغلبيتهم الساحقة ترى في وجودها صمام أمان منع سقوط البلاد في احتراب داخلي لا تحمد عواقبه.
وفي كل من الجزائر والمغرب، أظهر النظامان فيهما قناعة بأن الإسلام أعمق في وجدان الشعبين من أن يتم الصدام مع تعبيرات حركية تتحدث باسمه، فتم تقبُّل ذلك مع التأكيد على ضرورة عدم احتكاره وتوفير أجواء للتعايش بينه وبين الإسلام الرسمي الذي ترعاه الدولة وتراه رأسَمالٍ رمزيًا لكل من الدولة والمجتمع.
ما يقال عن الجزائر والمغرب يمكن الذهاب به إلى دول عربية أخرى قدمت تجارب لمصالحات مع الإسلاميين كما هو الحال في الأردن ولبنان والعراق، وهو ما يثيرُ السؤال عن الوجهة التي تميل تونس نحوها هذه الأيام، وسط مؤشّرات على افتتان الرئيس سعيد بالتجرِبة المصرية المتهمة بكونها الأكثر دموية وقسوة في التعامل مع الإسلاميين فيها.
يلقي الرئيس التونسي بإشارات متضاربة على هذا الصعيد، فمن جهة تجده قد نصّ في الدستور الذي كتبه بنفسه على أن الإسلام دين الدولة وأن تونس جزء من الأمة الإسلامية، كما تجده قد حسم رسميًا جدل المساواة في الميراث معتبرًا أن الموضوع منتهٍ بنص قرآني غير قابل للمراجعة، لكنه في المقابل يستمر في مواجهة قضائية مع حزب حركة النهضة ورمزه التاريخي.
معارك وظيفية
جدير بالملاحظة في السياق التونسي أن أطرافًا وشخصيات وصفت طويلًا بالتقدمية والحداثة والتنوير سارعت بالاصطفاف مع الرئيس سعيّد، متجاهلة ما يشار إليه بأنّ لديه جانبًا محافظًا في شخصيّته وسياسته، في سبيل التنكيل بخصمهم الأيديولوجي اللدود ألا وهو الإسلاميون في تونس.
وليس خافيًا في نظر قراءات أن الرئيس سعيد أقام حكمه الراهن على اكتساح مساحات الثورة والدولة والمجتمع والإسلام، معتبرًا نفسه المعبر الأمثل عن كل ذلك والمخوّل بالحديث نيابة عن الشعب التونسي بشأنها.
وفي ظلّ الأزمة السياسية والاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، تثار الأسئلة عن النّموذج الذي يمكن للرئيس سعيد أن يقدمه على هذا الصعيد، وهل ذلك النموذج يحتمل وجودًا للإسلام السياسي، أم أنه على العكس من ذلك يقتضي نزع الشرعية القانونية عنه وتحويله مجددًا إلى ملفّ أمني يقدم إلى الغرب بوصفه معركة أساسية تتراجع معها المعايير الحقوقية والديمقراطية إلى مرتبة تالية.
مفترق طرق تحسبت له قيادة النهضة بإعلان مسبق لمسافة نقدية مع الإرث الإخواني، وتوجُّه أكثر نحو ما بات يعرف بالإسلام الديمقراطي، في محاولة لتأطير العلاقة الصعبة مع الدولة ضمن رؤية أنجلوسكسونية بدل الاستمرار داخل دائرة "فرنسية يعقوبية" شديدة التطرف في علمانيتها، أنتجت وفرضت نخبًا سياسية وفكرية وثقافية وإعلامية تدور في ذلك الفلك، اتهمت طويلًا بكونها تتعمّد الخلط بين الإسلام والإسلاميين فتأخذهم بجريرتهم، تمامًا كما خلطت بين الديمقراطية والأطراف التي يمكن أن تستفيد منها، فضحّت بالديمقراطية لأجل إقصاء الخصوم الإسلاميين، وهو ما فوّت على البلاد فرص الانتقال الديمقراطي، وبالتالي الاستقرار السياسي والاقتصادي.
أسئلة
تشير قراءات في تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس إلى تأثيرات استئصالية تقول إنها ضربت المسار الوليد والهشّ في مقتل، فبفعل رؤية استئصالية متطرفة تمت هندسة الواقع السياسي والإعلامي والثقافي بعد 2010، فكان "مجلس تحقيق أهداف الثورة" الذي قام في الحقيقة بوأد تلك الأهداف، وكان "قانون البقايا" الانتخابي الذي شكل تزويرًا لإرادة الناخب وموازين الشارع، وكان التعامل الحادّ المربك مع حكومات فقط لمشاركة الإسلاميين فيها بمقدار أو آخر.
تقول تلك القراءات إنه لم يكن مسموحًا بكل الطرق للإسلاميين في تونس أن يمارسوا الشراكة السياسية، ولا أن ينعموا بظرف عادي لتجربة حكم، فضلًا عن أن يتوصلوا إلى أي منجز كانوا قد وعدوا به التونسيين من خلال مرجعيتهم السياسية والفكرية وحملاتهم الانتخابية.
وإذا كانت هذه القراءات لا تقدم صكًا على بياض للإسلاميين في تصوراتهم وخياراتهم، إلا أنها تطرح السؤال:
- أي مبرر لاستمرار الرهان الاستئصالي تحت قصف مركّز بتهم الإرهاب والتطرف، وهو التوجه الذي لم تسر نحوه دول مجاورة شهدت أضعافًا مضاعفة لمخاطر الإرهاب؟
- وإلى متى سيبقى شطب الإسلاميين هدفًا حصريًا ووحيدًا لأطراف لم تقدم للتونسيين أكثر من جرّ البلاد إلى استقطاب صفري كلّفها أثمانًا اجتماعية وسياسية فادحة؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.