مركز "تكوين" والتنوير الانتقائي المستأجر
لم يكن من حديثٍ في المجال العام المصري والعربي منذ أسبوع، سوى عن مركز تم الإعلان عنه في المتحف المصري. لا يحتاج الناظر للمشهد لكثير من البحث، فالناظر لمجلس أمنائه سيعرف الكثير.
وقد كان من أولى الملاحظات التي رأيناها، أنَّ معظم من تصدروا للكيان، حرصوا على تخفيف أسلوبهم في الحديث، والذي كان من قبل صادمًا وفجًا، وفي أحيان أخرى متطاولًا على المخالف، برغم تجنّيهم على القضايا المتناولة، وعدم تخصّصهم فيها، فكانوا يوارون ذلك بالأسلوب الفجّ، والتطاول، والإسراع باتهام المخالف بالظلاميّة، والعداء للتجديد.
ولذا بادروا بالتساؤل: لماذا لا تتحاورون مع أفكارنا، ولماذا الإنكار، ولم تروا حصاد مركزنا بعد؟! وبالطبع فإنّ الناس لديهم رصيد من التجارب مع الوجوه التي تصدّرت لهذا الكيان، فليست بحاجة للتعرف على نتاجهم، بل الذي يحتاج لإعادة تقديم نفسه، وإعادة إنتاجه مرة أخرى، هم أنفسهم من أسّسوا هذا الكيان (تكوين)، والناس لا تلام مطلقًا على سوء ظنها بهم، لأنها رأت من قبل مواقفهم.
فرق بين تكوين وتكوين
علمًا بأن هناك مركزًا يحمل نفس الاسم، له جهد متميز ومشكور، فهناك مركز "تكوين"، قام على الرد على الإلحاد وشبهاته، وأصدر عدة كتب في غاية الأهمية، تعالج قضايا الإلحاد والشبهات المثارة حول الإسلام، بمنهج علمي معاصر، سواء اختلفت معهم في بعض التفاصيل أم اتفقت، لكنه مركز له نشاط ملموس منذ سنوات، وسد ثغرة مهمة في هذا الجانب، فلا ندري لماذا تم اختيار نفس الاسم، ولو أنهم كلفوا أنفسهم عناء البحث في مواقع البحث، لوجدوا الموقع والمركز ونشاطه.
فأما تكوين الجديد ومتصدروه، فهم يقدمون التنوير المستأجر والمنتقى، وليس التنوير المنهجي القائم على التجديد الحقيقي لكل قضايا التجديد، والانتقائيةُ في قضاياهم بيّنة واضحة، لا تحتاج لعناء بحث وتدليل، فانتقاؤهم على عدة مستويات، فعلى مستوى القضايا، والتوجهات، والأديان، والمجالات الفكرية، والأشخاص، هم انتقائيّون وإقصائيّون كذلك.
انتقائية الرموز في مراحل محددة من تاريخها
وأولى علامات الانتقاء والإقصائية: ما يتم من تعاملهم مع رموز النهضة والتنوير في مصر والعالم العربي، فقد كان مؤتمرهم عن الدكتور طه حسين – وهو قامة فكرية وعلمية معروفة – انتقائيًا من تجربته الفكرية، بشكل غير علمي، فهم ينتقون طه حسين صاحب: (في الشعر الجاهلي)، و(مستقبل الثقافة في مصر)، ويقصون طه حسين الذي قام بمراجعات شاملة لفكره الأول، والذي يكاد يكون قد تراجع عن كثير منه، وأجرى مراجعات في غاية الأهمية، يدركها كل من درس شخصية طه حسين.
فمن يقرأ موقف طه حسين من الثوابت، فسيجد أنه بعد تجربته الأولى في كتابه: (في الشعر الجاهلي) – وقد كان شابًا وقتها – بدأ ينضج ويركّز على الطرح المنهجي، بعيدًا عن التشنّج، أو الإثارة، فرأينا في آخر ما أصدر الرجل، وهو كتابه: "مرآة الإسلام"، ما يعد مراجعة لكل مواقفه السابقة من الثوابت الدينية، والتاريخية، والثقافية.
وفي تعاملهم مع الشيخ علي عبد الرازق، فهم ينتقون علي عبد الرازق صاحب: (الإسلام وأصول الحكم)، ويقفون عند هذه المرحلة، ويقصون عبد الرازق الذي راجع طرحه، وبدأ يتريث فيه، بعيدًا عن تجاذبات السياسة وقت كتابة كتابه، ومبتعدًا عما أضافه صديقه في مسوّدة كتابه، عن الحكم في الإسلام، وقد ذهب إلى أن الإسلام لا وجود للدولة فيه، وأنه رسالة روحية.
فبعد سنوات من كتابه، تقريبًا ربع قرن، عام 1951م، كتب عبد الرازق مقالًا نَفِيسًا ومهمًا، بعنوان: (الاجتهاد في الإسلام)، يرد على مقال بنفس العنوان للأستاذ أحمد أمين، والذي ذكر بفكرته القديمة ممتدحًا لها، فإذ بعبد الرازق يعلن كتابةً، وليس شفاهةً في مقاله: (أنه كلمة أجراها الشيطان على لسانه، وما أكثر ما يجري الشيطان من كلمات على الألسن)، وانتهى الحال به بكتابة كتاب مهم بعنوان: (الإجماع)، لم يخرج فيه عن أقوال جمهور الأصوليين والفقهاء، ورفضَ إعادة طبع كتابه الذي أثار الجدل، حتى قُبيل وفاته، رغم محاولة جهات عدة طبعه، كان جلّها من اليساريين والشيوعيين.
وما يقال عن انتقائيتهم مع طه حسين، وعلي عبد الرازق، يقال عن خالد محمد خالد كذلك الذي تراجع تمامًا عن كتابه: (من هنا نبدأ) وكتب كتابًا كاملًا بعنوان: (الدولة في الإسلام)، فيسعى مدّعو التنوير وكذبته، إلى انتقاء مرحلة معينة من مراحل هؤلاء المفكرين، والوقوف عندها، واختصار حياتهم فيها، متجاهلين ما تم من مسيرتهم الفكرية، ومراجعاتهم العلمية التي لا تنفكّ عن مسيرتهم.
الانتقائية في القضايا الدينية
وأما عن انتقائيتهم الدينية، فإن مجال حديثهم لا يدور إلا حول الإسلام فقط، رغم أنهم يرفعون لافتة التجديد الديني، أو الفكر العربي، وكأن ليس هناك مجال للتجديد المدعى سوى في الإسلام، رغم أن من يقلدونهم من أهل التنوير الغربي، قاموا بنقد الأديان جميعًا، وبدؤُوا بأديانهم، ثم ببقية الأديان.
وتراهم في نقد التراث الإسلامي، يقفون عند مراحل معينة، فهم يتناولون كل من في القبور، كل ميت، ومنزوع السلطة، أما من في يده السلطة، فلا يجرؤ أحدهم على نقد خطابه أو تجربته، فكتب أحدهم: رحلة الدم، متوقّفًا عند عصور الإسلام الأولى، ولو امتلك الشجاعة لأكمل الحديث عن رحلة الدم فيما عاصره الكاتب ورآه بأمّ عينه، بل كان أحد المحرّضين عليه.
إنهم يمتلكون الجرأة على نقد كل من في القبور فقط، أما من في القصور، فإنهم يجلّونهم ويَرهَبونهم، ويكفون ألسنتهم وأقلامهم عنهم؛ لأن نقد من في القبور لا ضريبة عليه، أما من في القصور فإن مجرد التلميح لهم، يكفي لسجنهم سنوات طويلة، حتى يخرجوا منها، إن خرجوا منها أحياء.
لا يجرؤون على نقد الخطاب الديني بوجه عام، بل هو مقتصر على الإسلامي فقط، قديمًا وحديثًا، فإنهم يعلمون ضريبة ذلك جيدًا، فإن نقد الخطاب الديني اليهودي، يخشون أن يشار إليهم بأنهم أعداء للسامية، وهو ما ينهي أحلام أحدهم حول حصوله على نوبل في الآداب، وينهي أحلام آخرين في مجالات يطمحون للعلو فيها، ولو نقدوا الخطاب الديني المسيحي، فهم يخشون فزّاعة: السعي للفتنة الطائفية، فأسهل نقد يكون للإسلام وخطابه قديمًا وحديثًا.
وعلى مستوى الموضوعات كذلك يتضح الانتقاء والاستئجار، فإنهم يتحدثون عن حقوق الإنسان من حيث حريته الدينية، من خلال نقد التراث الإسلامي والخطاب المعاصر، بينما يتركون الحديث عن الحريات في البلد الذي يعيشون فيه، فقد اختاروا ما أسميناه من قبل: النضال الطري، وهو نضالٌ بلا ضريبة، وبلا معاناة، سواء مع السلطة، أو مع الغرب، أو مع أصحاب التّمويل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.