غناء الشعب الفلسطيني.. فن القتال بالكلمة واللحن
أدّى التراث الوطني الفلسطيني دورًا مهمًا في تعميق الانتماء للأرض والتاريخ، وأصبح أكثر ثراءً من التاريخ الرسمي في تسجيل النضال الفلسطيني المتواصل، وإبقاء الانتماء لفلسطين قائمًا، ولذا واجه محاولات إسرائيلية مستمرة لإيذائه، بإضعافه وتشويهه وتزويره ومحوه ومسحه وطمسه، بل وسرقته أو تهويده، لقطع الطريق على صلة الفلسطينيين بأرضهم وتاريخهم، أو منعهم من الاستفادة بالزخم القوي الذي يصنعه هذا الموروث الشعبي في إلهاب حماس الشعب الفلسطيني، وتسجيل صفحات كفاحه، وتثبيته أكثر حول قضيته العادلة.
إن هناك جنودًا لا يرتدون أزياء عسكرية، ولا يحملون أسلحة، "يقومون بعمل من نوع آخر، يحرفون كتابًا أو وثيقة، أو يطمسون حجة أوقاف، فيرتكبون بين السطور والكلمات والأختام، قتلًا من نوع مختلف، تزيد خطورته بالتأكيد طلقة البندقية، ودانة المدفع، وقنبلة الطائرة"، وفق الوصف الذي أورده إسماعيل شيخي شيخي أوسي، في دراسته المهمة بعنوان: "التراث الثقافي الفلسطيني بين الطمس والإحياء".
وقد استعملت إسرائيل وسائل عدة، لإفشال فاعلية هذا السلاح المعنوي، عبر الاستيلاء ووضع اليد على التراث الفلسطيني وسرقته، والتضييق على أصحابه وحصارهم، ومصادرة الوقف الذي يُنفق منه عليه، وتشويه بعض نصوصه، والتركيز على الهامشي والخرافي والمتصل بالإسرائيليات فيه.
وإذا كانت إسرائيل قد نالت من التراث المادي الفلسطيني، الثابت والمنقول، سواء كان فيها أو عنها ومنها ولها، من عمران مختلف الأشكال، ومتعدد الأدوار، وكذلك حرف يدوية وصناعات تقليدية وأزياء شعبية، فإنها لم تنجح بالقدر نفسه حيال التراث اللامادي- حيث الممارسات والطقوس والموارد الثقافية والمعارف والفنون والعادات والتقاليد- الذي حفظته الذاكرة، وحملته النفوس، وطورته العقول وأضافت إليه.
التراث الشفاهي
ومن بين أصناف الفلكلور الفلسطيني هناك نوع شفاهي، يتناسل باستمرار، ويتطور، وليس بوسع إسرائيل أن تخلعه من الذاكرة، أو تضع غيره على الألسنة، ألا وهو "الأغنية الشعبية"، التي واكبت كفاح الشعب الفلسطيني منذ البدايات، وحتى اللحظة الراهنة.
وأخذت الأغنية الشعبية الفلسطينية، في نظر ضرار أبو شعيرة – الذي جمعها في كتاب تحت عنوان: "دليل الأغنية الوطنية الفلسطينية.. فكر ومقاومة" – ثلاثةَ مسارات؛ الأول: هو ما يقوم بإلهاب حماس الجماهير وتثويرها، وهنا جاءت الأغنية أشبه ببيان أو نداء عالي النبرة، يخاطب المشاعر قبل العقول، فبدت حافلة بالصور الصارخة، التي تظهر معاناة الشعب، وتخاطب كل فئاته وشرائحه.
والثاني: هو الذي يواكب الواقع الجاري، أو التطور التاريخي لحركة التحرر الوطني، أو للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة؛ لتصبح الأغنية جانبًا مهمًا من المقاومة السلمية، وطرفًا في سجل النضال المتواصل، وهذا يجعلها متابعة للحدث، ومعبرة عن تفاصيله.
والثالث: هو المعبر عن القيم الأساسية للفعل المقاوم الذي يجب أن تلتزم به القوة الفاعلة في الساحة الفلسطينية، مثل: الحرية والشجاعة والبطولة والفداء والتضحية، ولهذا تنحو إلى التربية والوعظ الديني والسياسي.
والأغنية الشعبية الفلسطينية عبارة عن قصيدة يتداولها الناس، محافظين على كلماتها وإيقاعها، وهي تكرس مفاهيم أخلاقية ودينية، وتسجل بطولات الشعب، وتحضه على النضال والجسارة، وتحفظ ذاكرته حيَّة حيال الشعب والأرض والتاريخ، وهي تصاغ في قوالب لحنية عديدة مثل: العتابا، والدلعونا، والهجيني، والسامر، والترويدة، والحدادي الذي يُغنّى في المناسبات الاجتماعية والوطنية، بل إن هذه الأغنية رافقت مسار الكفاح الثوري الفلسطيني منذ البداية، حسبما يرصد رمضان عبدالهادي في كتابه: "الفلكلور الفلسطيني .. بصمة لتأصيل الهوية".
فمع "ثورة البراق" عام 1929 انطلقت الأغنية الشعبية لتسجل بطولة ثلاثة من الفدائيين؛ هم: حجازي وجمجوم والزير، وكانوا أوّل ثلاثة شهداء فلسطينيين، خلّد المُغنّي الشعبي واقعة إعدامهم في أغنية من "الدلعونا" تحمل معاني الاستنكار، وتطلب من الله- تعالى- الانتقام للمظلومين، حيث تقول:
"من سجن عكا وطلعت جنازة
محمد جمجوم وفؤاد حجازي
جازي عليهم يا رب جازي
المندوب السامي وربعة عمومًا".
ولهذه الواقعة أيضًا، غنت النساء فور رفع الأعلام السوداء على سجن عكا، الذي شهد شنق هؤلاء الفدائيين الثلاثة:
"هي ويا .. والمشنقة تاجك
هي ويا .. والقيد إلك خلخال
هي ويا .. وموتك عن بلادك عز
هي ويا .. زينة الرجال".
وحين اندلعت ثورة عام 1936، وهجم الثوار على مستعمرة كفر عصيون الإسرائيلية، انطلقت أغنية رددها الناس:
"على كفار عصيون صار المنادي
يوم عبوس يوم شر واستطاره
حسين عمر بنتخي مثل زيدان
صبيان لعب اليوم عجَّ الغبارة
والحاج ناجي بنتخي أول القوم
يوم عبوس يوم هذا النهاره".
وعندما انطلقت الثورة المسلحة عام 1965 رافقتها الأغاني الشعبية، في مقدمتها أغنية "العاصفة" التي تبدأ قائلة:
"باسم الله باسم الفتح.. باسم الثورة الشعبية
باسم الدم باسم الجرح .. اللي بينزف حرية".
وكذلك قصيدة "بلادي"، ومطلعها: "بلادي بلادي بلادي .. فتح ثورة على الأعادي"، و أغنية "طريق العزة" التي تبدأ: " أنا كسرت القيد قيد مذلتي .. وسحقت جلادي وصانع نكبتي".
ومع هزيمة 1967، التي زلزلت العرب أجمعين، غنى الشعب، في تغلبه على الهزيمة النفسية، العديد من الأغاني، منها هذه التي تبدأ بـ "طالع لك يا عدوي طالع .. من كل بيت وحارة وشارع" ، ومنها أيضًا تلك التي يقول مطلعها:
"طل سلاحي من جراحي .. يا ثورتنا طل سلاحي
ولا يمكن قوة في الدنيا .. تنزع من إيدي سلاحي".
لكن الفلسطينيين لم يستسلموا للهزيمة، شأنهم شأن المصريين، فخاضوا "معركة الكرامة" عام 1970، التي حققوا فيها أول انتصار لهم على الجيش الإسرائيلي، لتُخلّد الأغنية الشعبية بطولتهم قائلة:
"وحدنا الدم يا كرامة .. وحدنا الدم
والشمل التم يا كرامة .. والشمل التم
في حبال النار فدائية .. بين الأغوار فدائية
عاجبين الأرض العربية .. وحدنا الدم
لحرب التحرير الشعبية .. وحدنا الدم."
دور المرأة
ومارست المرأة الفلسطينية دورًا مهمًا في مسار الغناء الشعبي، لتشجع المقاومين على مواصلة العمل، مثل هذه الأغنية التي تقول:
"هالفدائي يا محلاه
دخلك ياما اعطيني إياه
في أيدي باروده
وفي أيده باروده
وع الحدود أنا وياه".
أو تلك التي تقول:
"بإيدي رشاشي .. فرشتي ولحافي
وأرضنا المحتلة .. ما بترجع بلاشي".
وفي مسار الكفاح المسلح يغني الفلسطينيون أيضًا:
"والله لاحمل ديكتريوف .. وقلوبنا ما تحمل خوف
تحت حماية جرينوف .. ما بنهاب الطيارة
ولا بنخاف الفارة .. وإن متنا مش خسارة
هذه ثورة شعبية".
أو تلك الأغنية التي تشد على يد أم الشهيد، وتربط على قلبها، فتقول:
"يا أم الشهيد وقدمني للثورة ولادك .. إحنا ولادك يامَّا وإحنا رجالك".
في الشتات
ليس هذا فحسب، بل إن الهتافات التي تعلو في المظاهرات والاحتجاجات تعتمد على الأغاني الشعبية ومختلف أنواعها، بحيث تتحول المظاهرة إلى ما يشبه الزفة، لنجد أغاني من قبيل: "يا صهيوني صبرك صبرك/ في رام الله نحفر قبرك" و"يا أمتنا الوطنية/ بدنا أكثر جدية" و "جابوا الشهيد جابوه/ وبعلم الثورة لفوه/ أنا أمه/ يا فرحة أمه في عرسه/ في ليلة دمه/ يا أخوانه للثورة انضموا/ زغرودة ياللا حيوه".
ولأن فكرة العودة باتت جزءًا أصيلًا من الثقافة السياسية الفلسطينية، يغني الفلسطينيون في الشتات للرجوع إلى بلادهم، كي تنتهي غربتهم الطويلة، مثل تلك الأغنية التي تقول: "روح الغايب على بلده/ وانجمع شمله على ولده"، أو هذه التي تقول:
"يا طير يا غريب يا مروح .. خدني معاك لانوح
غريب ومسافر ع بلادي .. وأنا غيرك حبيبي ما أنادي".
وبالأغنية الشعبية يرسم الفلسطينيون الحدود الجغرافية لبلدهم، الذي طُرد منه بعضهم إلى الشتات، وهناك من يرزحون تحت الاحتلال في الضفة الغربية وغزة، ويوجد من يعانون من التمييز من الفلسطينيين الذين أجبروا على حمل الجنسية الإسرائيلية. وفي هذا المضمار تقول هذه الأغنية:
"قلبي يا أربع وديان .. سواقي تقلب ع ميَّه
أولهم يا نهر العوجا .. من بعيد تسمع دويه
ثانيهم يا نهر روبين .. ياما زاروك الزوارة
ثالثهم يا وادي غزة .. ياما زروك الزوراة".
الأغاني الشعبية
وعلاوة على الأغاني التي تنتجها قرائح الناس، ومخيلتهم الجمعية، وترددها الألسن بشكل عفوي، وتتناسل في الأمكنة، وتمتد عبر السنين، شكل الفلسطينيون فرقًا تلتقط بعض هذه الأغاني وتنظمها، أو تؤلف على منوالها أخرى، لتقوم "تغذية مرتدة" بين ما يبدعه الناس، وما يبدعه الشعراء الشعبيون.
وحسبما أوردت منال محمود في تحقيق صحفي مهم بعنوان: "كيف أثرت الأغاني الشعبية في المقاومة الفلسطينية؟"، أسس الفلسطينيون العديد من الفرق الشعبية. ففي نهاية سبعينيات القرن العشرين، تأسست فرقة "العاشقين" تحت إشراف منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، وقدمت أعمالًا فنية مهمة حول الوطن والكفاح في سبيل استرداد الأرض السليبة، وتحرير الشعب المحتل. بعدها جاءت فرقة "بيسان" التي تكونت عام 1979، لتحافظ على التراث الموجود بالغناء للأرض والفدائيين والشهداء.
وفي مطلع الثمانينيات نشأت فرقة "أجراس العودة"، ودارت أغانيها عن السجن والغربة واللجوء والبطولة والحنين للوطن. وقبيل انتفاضة الحجارة التي اندلعت عام 1987، انطلقت فرقة "العودة"، وجعلت مهمتها توظيف التراث في صناعة الفن المقاوم، ودعوة من في الشتات إلى العودة. وبعد ثلاثة أعوام، وفي يوم الأرض، انطلقت "فرقة القدس" التي تغنت بهذه المدينة المقدسة وأهميتها.
وفي عام 1999 تأسست فرقة "شهداء جباليا"، التي دعت أغانيها إلى النضال في سبيل تحرير الأرض. ومع انتفاضة الأقصى نشأت فرقتان، الأولى هي فرقة "محمد الدرة"، وهي فرقة مستقلة تعبئ الجماهير حول المقاومة، وتعرفهم بالقضية الوطنية. والثانية هي فرقة "الاعتصام" التي هدفت أغانيها إلى رفع الروح المعنوية للمنتفضين ضد الاحتلال. وبعد عام تأسست فرقة "زغاريد الوطن"، لتعبر عن الهم الوطني بطريقة خاصة. وهناك أيضًا فرقة "ناجي العلي" التي وضعت جهدها الفني في خدمة قضية التحرير.
وقد أورد "ضرار أبو شعيرة" في كتابه "دليل الأغنية الشعبية الفلسطينية" ثمانين أغنية، تتسم بالتنوع في الأغراض والموضوعات والمجازات والموسيقى والبنية الفنية، لعل أكثرها قوة، سواء على المستوى الفني، أو للمعاني التي تحملها عن شعب لن يتنازل عن حقوقه، ولن ينكسر أبدًا، مهما كان حجم الألم والتضحيات، تلك الأغنية التي تقول:
"سنوا عضامي سنوها سيوف
وعيوني عيوني قنبلة مولوتوف
أنا شعب بدمه يشق الليل
ويصنع من لحمه قنابل
ويقاتل ويظل يقاتل
ومن جرحه يسحب سكين
وبصدر العريان يقاتل
دوريات المحتلين
أنا هذا الشعب اللي ما بهدا
وباستشهاده هزم الخوف
أنا شعب شد الأرض بسنانه من قدم الغاصب
ولا يمكن حقي يضيع وأنا دمي وراه مطالب".
لقد أضاف الشعب الفلسطيني اللون الأحمر إلى أزيائه علامة على دمه الذي يُراق في سبيل الوطن، وتنطوي الكثير من أساطيره وخرافاته وحكاياته الشعبية على قيم ومعانٍ دالة على مكانة أرضه وهويته وتاريخه من نفسه، لذا كان من الطبيعي أن تأتي أغانيه الشعبية لتصوغَ كل هذا في كلمات وألحان، تشكل نوعًا من المقاومة المدنية السلمية، وتدعو في الوقت نفسه إلى المقاومة المسلحة وتُلهب حماس القائمين بها، وتبرر مسلكهم، لتبقى جانبًا نابضًا بحياة الفلسطينيين معبرًا عن وجدانهم الكلي، وعقلهم الجمعي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.