عرس الديمقراطية في السنغال .. ملاحظات وتحديات
من الجولة الأولى، وبفارق كبير عن مرشّح الحزب الحاكم، فاز باصيرو ديوماي فاي " الشاب الأربعيني" مرشح حزب "الوطنيون الأفارقة في السنغال من أجل الأخلاق والأخوّة" " باستيف" بالانتخابات الرئاسيّة التي شهدتها البلاد مؤخرًا، ليؤكّد التمايز الديمقراطي الفريد للسنغال في الديمقراطية في بيئة إقليمية مضطربة" غرب أفريقيا " اشتهرت بأنها حزام الانقلابات في القارّة.
هذه الانتخابات شهدت جدلًا كبيرًا سواء من حيث توقيت إجرائها بعد قرار الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال في فبراير/شباط الماضي، تأجيلها وتأييد البرلمان ذلك، مقابل رفض المجلس الدستوري القرار، والإصرار على إجرائها دون تأجيل، فضلًا عن وجود الرئيس الفائز بها داخل السجن بتهمة ازدراء القضاء قبل عام، لكن أطلق سراحه، هو ومعلمه وأستاذه عثمان سونكو رئيس حزب باستيف بموجب عفو رئاسي صدر قبل أيام قليلة من الانتخابات، وبالتالي خرج باصيرو من غيابات السجون إلى قصر الرئاسة في دكار.
لعبت البيئة الخارجية دورًا هامًا في تعزيز الرفض لفرنسا، خاصة في ضوء الانقلابات الأخيرة التي شهدتها النيجر ومالي وبوركينا فاسو ضد أنظمة كانت تابعة تقليدية لباريس
ملاحظات
وهنا يمكن إيراد العديد من الملاحظات على هذه الانتخابات " الاستثنائية" في القارة الأفريقية:
- أولًا: أن هذه هي الانتخابات الأولى التي لم يترشح فيها الرئيس المنتهية ولايته "ماكي سال"، إذ يحظر الدستور على الرئيس الترشح لأكثر من دورتين. وهنا احترم سال " ولو ظاهريًا " الدستور"، ولم يترشح للرئاسة، ورغم أنه أعلن عن ذلك الصيف الماضي، فإن قراره قبل أكثر من شهر بتأجيل الانتخابات بسبب طعن أحد المرشحين على بعض قضاة المجلس الدستوري، أثار الريبة في نفوس الكثير، خاصة من قوى المعارضة بشأن إمكانية أن يكون هو المستفيد من هذا التأجيل من أجل تمديد فترة بقائه في السلطة.
- ثانيًا: أن هذه هي الانتخابات الأولى أيضًا التي تحسمها المعارضة من الجولة الأولى في مواجهة المرشح الرئاسي، ففي انتخابات 2000، فاز عبد الله واد مرشح المعارضة في الجولة الثانية في مواجهة الرئيس عبدو ضيوف، وتكرَّر الأمر مرة ثانية في انتخابات 2012، عندما فاز مرشح المعارضة ماكي سال في مواجهة واد. وهو مؤشر على نزاهة الانتخابات التي تمت تحت إشراف إقليمي ودولي.
- ثالثًا: أن هذا الحسم من الجولة الأولى لمرشح المعارضة ربما تقف وراءه أسباب داخلية وأخرى خارجية:
فداخليًا: أدت حملات القمع ضد رموز المعارضة السياسية في السنوات الثلاث الأخيرة، خاصة ضد رئيس حزب باستيف عثمان سونكو، وأمينه العام باصيرو، إلى إحداث حالة من التنسيق بين قوى المعارضة من ناحية، فضلًا عن زيادة التعاطف الشعبي مع سونكو وباصيرو، خاصة بعد اعتقالهما، وحبسهما لأسباب سياسية، وليست قانونية، ناهيك عن تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد بصورة كبيرة خلال الآونة الأخيرة، فوَفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، تراجع معدل نموّ الناتج المحلي الإجمالي للسنغال من 5.5% إلى 4.2 % عام 2022، كما ارتفع متوسط معدل التضخم بصورة كبيرة ليصل إلى 9.6 % عام 2022 مقارنة بـ 2.2 %عام 2021، فضلًا عن وجود مجتمع مدني نشط جدًا مقارنة بغيره في الكثير من البلاد الأفريقية.
كل هذا دفع في اتجاه ضرورة التغيير، خاصة أن حزب باستيف رفع منذ بداية الأمر راية ضرورة التحرر من التبعية الفرنسية وإدارة الظهر لها، واتهم النظام الحاكم بالانبطاح لباريس التي تعتبر المتحكمة الفعلية في مقاليد الأمور، وأنها السبب فيما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد.
أما خارجيًا: فقد لعبت البيئة الخارجية دورًا هامًا في تعزيز هذا الرفض لفرنسا، خاصة في ضوء الانقلابات الأخيرة التي شهدتها النيجر ومالي وبوركينا فاسو ضد أنظمة كانت تابعة تقليدية لباريس.
- رابعًا: أن فوز مرشح باستيف دون غيره من باقي المرشحين الـ19، يعود إلى الأجندة السياسية للحزب، والذي رفع شعار محاربة الفساد بكل أنواعه السياسي، والاقتصادي، والإداري، والذي استشرى بصورة قوية في البلاد في عهد سال، فضلًا عن تبني فكرة "التغيير المنهجي"، والتجديد في أساليب الإدارة العامة، وإدخال تعديلات دستورية تنهي تركز السلطات في يد رئيس البلاد، مع إمكانية إقالته. واقتراحه إلغاء منصب رئيس الوزراء وإنشاء منصب نائب للرئيس، ناهيك عن أجندته لإصلاح القضاء الذي يعتبر من وجهة نظره سلاحًا " مسيسًا" ضد الخصوم، فضلًا عن إنشاء مكتب مدعٍ عام مالي وطني يتمتع بصلاحية ملاحقة الجرائم المتعلقة بالجنوح الخطير في المسائل الاقتصادية والمالية".
وربما هذا نابعٌ من كون كل من سونكو وباصيرو مفتشَي ضرائب بالأساس، حيث سمحت لهما الوظيفة الحكومية بالوقوف على كثير من ملفات الفساد.
- خامسًا: المشاركة الإيجابية والقوية للشباب في الانتخابات، والتصويت لصالح لمرشح حزب باستيف، وهو الحزب القائم على هذه القواعد الشبابية، وقد تأثر هؤلاء بخطاب الحزب فيما يتعلق بمواجهة البطالة، وضرورة وضع حد للنفوذ الفرنسي، مع ضرورة وجود عملة وطنية بديلة عن الفرنك الأفريقي "الفرنسي" الموحد لغرب أفريقيا، والذي تحتضن العاصمة دكار بنكه المركزيّ.
- سادسًا: عدم وقوع أعمال عنف أثناء الانتخابات، رغم أجواء التوتر التي كانت سائدة قبلها، ما يعني حياد الشرطة والجيش، وعدم الانصياع لتوجهات الحزب الحاكم، وهو ما دفع مرشحه للإعلان عن هزيمته وتهنئته لباصيرو حتى قبل الإعلان الرسمي عن النتائج، ليحسم الجدل الذي تشهده بعض الدول الأخرى من الطعن الدائم في النتائج سواء من قبل مرشح المعارضة، أو حتى المرشح الرئاسي في بعض الأحيان، والذي يرفض الاعتراف بالهزيمة، وما قد يترتب عليه من دخول البلاد في دوامة عنف كـ" حالتَي الرئيس كيباكي في كينيا 2007، وموغابي في زيمبابوي 2008″.
تحديات في مواجهة الرئيس الشاب
رغم هذا العرس الديمقراطيّ الذي شهدته السنغال في ظلّ بيئة إقليمية مضطربة، فإنّ الطريق ليس مفروشًا بالورود أمام الرئيس الشاب " مفتش الضرائب "، حيث تواجهه تحديات جمة.
- أولًا: قلة الخبرة السياسية، فهو لم يتقلد أيَّ منصب سياسي طيلة حياته، باستثناء كونه أحدَ المؤسسين لحزب باستيف، وشغله منصب أمينه العام، يضاف إلى ذلك، أنه لم يكن مرشحًا أساسيًا، وأن عثمان سونكو رئيس الحزب هو من دفعه للترشح، بعد تعذر ترشحه لصدور حكم قضائي ضده.. وبالتالي فإن الكثير من المصوتين قاموا بالتصويت لباصيرو باعتباره مرشح "سونكو"، وليس بصفته الشخصية، في ظل مبدأ الالتزام الحزبي بالتصويت، وهذه نقطة قد تسحب كثيرًا من رصيده في مواجهة سونكو، وسط مخاوف من أن يكون الأخير هو المتحكّم الفعلي في مقاليد الأمور، أو أن تشهد البلاد صراعًا بين الجانبين، قد يتم احتواؤه عبر تقاسم السلطة، أو قد يخرج الصراع للعلن، ليؤدي إلى بداية الانهيار من الداخل.
- ثانيًا: كيفية إرضاء شركائه في الائتلاف التصويتي، حيث إن الكثير من الأصوات، حصل عليها من معارضي سال، وممن انضموا إلى تحالف باستيف كتصويت عقابي، مثل رئيسة الوزراء السابقة أميناتا توري، وأنصار اللحظة الأخيرة مثل الحزب الديمقراطي السنغالي بقيادة كريم واد المرشح الرئاسي المستبعد؛ بسبب حصوله على الجنسية الفرنسية، وبالتالي كيف سيتم ضمان استمرار ولاء هؤلاء، وهل سيقوم بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة؛ لضمان حصول تحالفه على الأغلبية، بما يتيح له تنفيذ أجندته التي أوصلته لسدة الحكم؟.. " الدستور يجيز ذلك بعد مرور عامين على الانتخابات السابقة التي تمت في 2022 ".
- ثالثًا: كيفية تحقيق المصالحة الوطنية التي تحدث عنها في أول خطاب له بعد إعلان فوزه الفعلي في الانتخابات، وكيفية المواءمة بين هذه المصالحة، والقطيعة التي اعتبرها شعاره الانتخابي في مواجهة نظام سال المتغلغل في مفاصل البلاد. وإذا استخدم النهج الإقصائي ضد هؤلاء، هل سيستسلمون بسهولة، أم سيقودون ثورة مضادة ضده؟!
- رابعًا: موقفه من علمانية البلاد، خاصة أنه يوصف بأنه رجل " متدين"، وهناك من يقول؛ إن له توجهات "سلفية"، صحيح أنه حسم هذين الأمرين في تصريح سابق لصحيفة لوموند الفرنسية بقوله: إنه " لن يغير عباداته أو ممارساته "، مع التأكيد على التزامه بالطابع العلماني للبلاد، لكن يبقى الجانب العملي هو الأهم في هذا الشأن، خاصة أن هذا النهج العلماني كان أحد أسباب بروز الحركات الشبابية الجهادية ضد النظام.
- خامسًا: العلاقة مع الغرب، خاصة فرنسا، فضلًا عن روسيا، فهل سيستطيع فعليًا إدارة الظهر لفرنسا، والتخلي عن الفرنك الأفريقي، في مقابل عملة وطنية مستقلة من ناحية، فضلًا عن حديثه عن عملة أفريقية بديلة في إطار دول منظمة الإيكواس" الجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا وتضم حاليًا 12 دولة"، أم أنه سيدير العلاقات على أسس متكافئة كما صرح في خطابه الأول" ما نريده هو شراكة مربحة للجانبين"؟، وهل ستكون موسكو هي البديل عن فرنسا، كما حدث في بعض دول الإقليم التي شهدت انقلابات مؤخرًا، خاصة أنه لم يستبعد في تصريح سابق للوموند أيضًا إمكانية التعاون مع الروس؟
- سادسًا: العلاقة مع موريتانيا الجارة الشمالية، خاصة ما يتعلق بحقول الغاز المشتركة بين البلدين، حيث يرى حزبه أن الاتفاقيات الموقعة معها لم تكن شفافة ولم تراعِ المصالح الاقتصادية للسنغال بقدر ما تضمن الربح للشركات الغربية المعنية. وبالتالي يبقى السؤال، هل سيبقي على هذه العقود، أم سيقوم بإلغائها بصورة منفردة، أم سيتم إعادة التفاوض بشأنها؟
الخلاصة أثبتت تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إمكانية التغيير السلمي عبر صناديق الانتخابات من خلال وجود شعب واعٍ متمسك بحقوقه الدستورية، وأحزاب سياسية لا ترتبط بأجندات خارجية، تتقاطع مع مجتمع مدني نشط وفعّال، فضلًا عن حياد مؤسسات الدولة، وفوق هذا وذاك ضعف الدعم الخارجي للحزب الحاكم، أو لمرشّح بعينه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.