الضفة الغربية على شفا التحول التاريخي
بعيدًا عن تواضع الأداء المقاوم فيها حتى الآن، تبقى الضفة الغربية إحدى الساحات الفارقة في تحديد مآلات الحرب على غزة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إذ مهما بلغ أداء المقاومة في القطاع، فإنّ الاختراق الحقيقي وإحداث التوازن في الصراع، يبقى مرهونًا بمستوى انخراط الضفة الغربية فيه؛ إضافةً لباقي الساحات.
يسلط هذا المقال الضوءَ على واقع الجيل الجديد من المقاومين في الضفة الغربية، واستشراف آفاق تطوّر الحالة التي يقودها، لا سيما أنَ مستوى الخذلان الذي يحيط بغزة شعبًا ومقاومةً فاق كل التصورات.
يحاول البعض التهرب من هذا الاستحقاق بتعداد أعداد الشهداء الذين قدمتهم الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وكأنَ نجدة غزة بحاجة إلى أعداد أخرى من الشهداء في الضفة، بينما السؤال الحقيقي هو مستوى نجاعة أداء المقاومة في الضفة في مواجهة الاحتلال، فهذا ما تحتاجه غزة ومعركتها إذا أريد تسميتها معركة الكلّ الفلسطيني.
يبرز أمام هذه الحالة الجيل الجديد من المقاومين في الضفة الغربية، والذي يقدم تضحيات جسيمة وشجاعة قلَ نظيرها، لكنها شجاعة ينقصها العقلانية والإمكانات والتدريب الناجع والقيادة، فغياب هذه العناصر جعل الاستنزاف في صفوف المقاومة في الضفة مرتفعًا للغاية، ومستوى الخسائر التي تلحقها بالاحتلال متواضعًا.
أفرزت أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، مئات المطلوبين في الضفة الغربية، أعمارُ غالبيتهم بين 18-25 عامًا، والأكثرية دون العشرين. كثير منهم اشتروا سلاحا من مالهم الخاص، وبعضهم يتبعون تنظيمات ويتلقون دعمًا ماليًا جزئيًا أو كليًا من فصائل المقاومة في الخارج.
غالبية هذا الجيل الجديد غير مؤدلَج، وليست لديه انتماءات سياسية مسبقة، بقدر ما هو مؤمن بفكر المقاومة، ولا يشكلُ انتماؤه التنظيمي إلا وسيلةً للحصول على السلاح والموارد. تعتبر هذه ميزة فارقة هامة تختلف عن طبيعة تشكل مجموعات المقاومة تاريخيًا في فلسطين، لا يلغي ذلك وجود المقاومين ذوي الانتماءات السياسية والفكرية المختلفة للفصائل والقوى الفلسطينية، لكننا نتحدث عن السمة العامة لهذا الجيل.
يعبّر هذا الجيل عن رفضه الواقعَ من خلال المقاومة، هو رافض لكل ما يجري سواء في علاقته مع السلطة الفلسطينية، أو في علاقته مع الاحتلال، لكنه ضحية لحالة الإفراغ الوطني التي عمّت الضفة الغربية بعد الانقسام عام 2007، وبالتالي فإن ضعف أدائه نتاج ظروف كان هو ضحيتها، وبينما أريد لمرحلة ما بعد الانقسام وفق تصور الفاعلين الدوليين والإسرائيليين أن تنتج جيلًا استهلاكيًا بعيدًا كل البعد عن قيمه الوطنية، فإذا به يعود إلى الجذور بهزات ارتدادية لافتة ليؤكد مجددًا أنَ هذه القضية لا يمكن تصفيتها بالحلول الاقتصادية.
من حيث الجرأة والشجاعة لا يمكن المزايدة على هذا الجيل، فأنْ تجد شابًا في مقتبل العمر يحمل أداة حادة بسيطة، أو سلاحًا مصنعًا ضعيف الأداء ويهاجم ثكنة عسكرية بجسد عار، فهذه قمة الشجاعة، لكن مستوى التأثير أمر آخر.
هو جيل يفتقر إلى القيادة، يتحرك بدافع ذاتي، صحيح أنه يتلقى دعمًا ماليًا وعسكريًا -وإنْ كان دون المستوى المطلوب- بسبب التعقيدات الأمنية، لكنَه ميدانيًا يتحرك بشكل ارتجالي، فهو جيل التك توك والسوشيال ميديا؛ من المفارقة أحيانًا أنْ تجد مقاومًا من هؤلاء يطلق النار، وهو يبثّ بثًا مباشرًا على السوشيال ميديا دون تقدير أو وعي أمني، ما يجعله في كثير من الأحيان لقمة سائغة لجيش الاحتلال وأجهزته الاستخبارية والتجسسية بشكل مناقض تمامًا لمقاومي قطاع غزة ذوي المهارات القتالية والأمنية العالية.
ألحق هذا السلوك اللامبالي من الناحية الأمنية خسائر بشرية فادحة في صفوف الشبان المقاومين من هذا الجيل في الضفة الغربية، لكنَ اللافت أنه مع كل عملية اغتيال تنفذها قوات الاحتلال يزداد عدد المطلوبين ولا يتناقص، ولّدَ ذلك حالة جمعية من انغماس الشباب والفتية بفكر المقاومة والاستشهاد، ما جعلنا في مواجهة ظاهرة متنامية لا ينقصها سوى التأطير.
من ناحية نقدية، يمكن القول؛ إن هذا الجيل تجاوز كل عقد الانقسام السياسي في فلسطين، واستطاع أنْ يشكل حالة مبادرة لتغيير الواقع حتى مع السلطة الفلسطينية، وليس فقط مع الاحتلال بسرعة أكبر بكثير من قدرة الفصائل والقوى السياسية، بمن فيها فصائل المقاومة، على تجاوز الحالة وتقديم سياق عمل جادّ لواقع الضفة الغربية بالغ التعقيد.
تبرز، في هذا السياق، فجوة الأجيال، وفهم الواقع والقدرة على المبادرة؛ لتطوير نمط قيادي مرن يناسب حالة الضفة الغربية، ويستطيع في ذات الوقت التغلب على سياقات الحالة الأمنية التي لا يوجد لها مثيل في العالم في الضفة الغربية؛ إلى الآن يمكن القول وبكل موضوعية؛ إن تفكيك الحالة ما زال مستعصيًا على فصائل المقاومة، وما زال مشوارها طويلًا، رغم أنها تبذل جهودًا مضنية باتت ملاحظة ومتنامية، لاسيما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
شهدت أحداثُ ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول انغماسًا عدديًا غير مسبوق لهذا الجيل في الاندفاع نحو المقاومة، حتى إن بعض مظاهر الانغماس طالت أبناء هذا الجيل من عناصر الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، فعددٌ من العمليات شارك فيها أو نفّذها عناصر شابة في الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ويعتبر ذلك طبيعيًا؛ لأنه نفس الجيل الذي لم يعد قادرًا على التعايش مع هذه المرحلة، حيث تداخلت انتماءاته مع ذات المجموعات التي تضم عناصر من فصائل المقاومة في سياق وحدوي مقاوم.
هذا النموذج المستجد غير محبذ لجماعات المصالح في الضفة الغربية ولقيادات كثيرة في السلطة الفلسطينية؛ لأنه يؤسس لحالة جديدة وفكر جديد ستكون أول ضحية له هي كينونة السلطة الفلسطينية بشكلها الراهن.
يتنازع الضفة الغربية حاليًا صراع متعدد المسارات؛ صراع أجيال بين القديم والجديد، صراع اتجاهات بين من يريد خط المقاومة ومن يريد الحفاظ على تماسك السلطة الفلسطينية بشكلها الراهن، حتى ولو بقيت شكلًا بلا مضمون، ولو كان ثمنُ ذلك مزيدًا من الانغماس في التّنسيق مع الاحتلال.
صراع مصالح بين غالبية مسحوقة لم تعد قادرة على التعايش مع النمط الاقتصادي السائد بمن فيهم غالبية موظفي السلطة الفلسطينية الذين يمكن تصنيفهم اليوم ضمن فئة الناقمين، وبين أقلية أسست لمصالح اقتصادية يرتبط وجودها بوجود الاحتلال وتتشابك معه.
يواجه كلَّ ما سبق سيلٌ عارمٌ من جيل الشباب الجديد المقاوم الذي يوصف بأنه جيش بلا رأس، سيل بشري بلا قائد يسعى لتغيير الواقع سواء على المستوى الداخلي أو في العلاقة مع الاحتلال.
قصص وحكايات هذا الجيل المقاوم تقدِّم وجبات دسمة من اللعنة لقطاع عريض من النخبة الفلسطينية التقليدية التي أصبحت منعزلة عن الواقع وواجبة الاستبدال؛ فتى في السادسة عشرة من عمره يذهب لتنفيذ عمل مقاوم على نقطة عسكرية بآلة حادة في منطقة مكشوفة أمنيًا فقط؛ لأن ما استطاع أنْ يدخره من مصروفه الشخصي جعله يتدبر ثمن مواصلات التنقل لهذه النقطة، ولو تمكن من جمع ما يعادل خمسة دولارات لذهب إلى موقع آخر.
شاب مقاوم ينفذ هجومًا بعد أنْ استطاع ادخار مبلغ 700 دولار مكَنه منْ شراء سلاح ناري صُنع في ورشة حدادة محلية ما إنْ يطلق النار منه حتى تصاب الآلة بعطل فني، وفي المقابل نخب اقتصادية وسياسية وثقافية يتنازعها إما الارتهان لمكاسب مالية وامتيازات حصلت عليها وتحارب حتى الرمق الأخير للدفاع عنها، وإما نخبٌ ثورية مهمشة تحاول أنْ تستعيد مكانتها في واقع الضفة، سرعان ما تتلقفها سجون الاحتلال أو التهميش الداخلي.
إن الإشارة إلى التوصيف السابق لا تلغي أن مجموعات كثيرة من هؤلاء الشباب تتلقى الدعم المالي والعسكري من فصائل المقاومة بطرق مختلفة، والملاحظ أنَ هذا الدعم يتنامى بشكل كبير خاصة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ترافقه محاولات لدعم تقني ينعكس أحيانًا في تطور الأداء، كما أنه لا يقلل من الجهد المضني في إدخال المال والسلاح للضفة؛ استشعارًا لأهمية ساحة الضفة في حسم الصراع في هذه المعركة، فالضفة ليست أكثر من سجن كبير مقفل من كل الاتجاهات.
إن تحليل قوة هذا الجيل في التأثير ينبع أيضًا من أن المجتمع الفلسطيني مجتمع فتي، حيث إنَ (22%) من المجتمع الفلسطيني تتراوح أعمارهم بين 18-29 عامًا. ونحو (43.7%) أقل من 17 عامًا.
يعني ذلك أنَ هذا الجيل قادر على تشكيل حالة ثورية مفاجئة تقلب الأوضاع وتستسلم لها النخب إذا ما أتيحت له الإمكانات المناسبة، واستشعر اللحظة التاريخية؛ وهذه إحدى نقاط القوة التي أشعلت الثورات والانتفاضات سابقًا حتى بدون مقدمات موضوعية أحيانًا.
تقف الضفة الغربية اليوم بإرهاصاتها على شفا صناعة التحول التاريخي والولوج إلى حالة مغايرة تمامًا للسياق الراهن، لكنها تشهد حربًا شرسة لئلا يحدث ذلك.
يتطلب الأمر إعادة قراءة الاستحقاقات المطلوبة للمرحلة المقبلة من وجهة نظر هذا الجيل، وليس الأجيال التي يفترض بها أن تعطي وقتًا أطول للاستعداد لآخرتها، ويتوجب التعامل باحترام مع تطلعات هذا الجيل؛ لأنه إذا امتلك الأدوات والموارد المناسبة لمواجهة تحديات المرحلة فسيصنع التغيير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.