إعادة الاعتبار لنظرية أربكان في الحكم
أحدثت نتائج الانتخابات المحلية التركية صدمة حقيقية وحالة من الدهشة والإرباك في صفوف جميع الأحزاب التركية، المنتصرة منها والخاسرة على حدّ سواء، وهي حالة ستستغرق الكثير من الوقت والجهد لدراستها، واستيعابها، واستخلاص الدروس والعبر منها.
صعود مفاجئ
وبعيدًا عن الأسباب التي تقف وراء انتصار المعارضة، أو إخفاق الحزب الحاكم، فإنّ من أكثر الظواهر الغريبة التي تمخضت عن هذه الانتخابات، ظاهرة تحول حزب الرفاه من جديد من حزب هامشي لا تأثير له، ولا خوف منه إلى صعوده وتبوُّئِه المركز الثالث لأكثر الأحزاب حصولًا على أصوات الناخبين بعد حزبَي الشعب الجمهوري، والعدالة والتنمية.
ونجاحه في انتزاع بلديتَي شانلي أورفة، ويوزغات من براثن حزب العدالة والتنمية، إلى جانب الفوز برئاسة سبعٍ وستين بلدية في أنحاء تركيا، متخطيًا بهذه النتيجة أحزابًا أكثر رسوخًا وانتشارًا وشعبية منه، بل وأقوى تأثيرًا على الساحة التركية كحزبَي الحركة القومية والجيد.
سبب حالة الدهشة من نتائج الرفاه من جديد كإحدى أبرز المفاجآت التي لم تكن متوقعة، أن الرهان دائمًا ما كان ينصبّ على حزبي المستقبل برئاسة أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء السابق، والتقدم والديمقراطية برئاسة علي باباجان، في حال أراد الإسلاميون والمحافظون الذين يمثلون القاعدة التصويتية للعدالة والتنمية معاقبة حزبهم، وتصويب مسيرته عبر "قرصة أذن" بسيطة تنبهه لتعديل المسار، والعودة إلى جادة الصواب.
ملف السياسة الخارجية
فإذا كان الخلاف يرتبط مباشرة بآليات تعاطي الحزب مع ملف السياسة الخارجية، في حال تعارضه مع ثوابتهم التي ترتكز على مبادئ الإسلام، فأحمد داود أوغلو وحزبه المستقبل كانا أولى بهذه الأصوات التي أحجمت عن التصويت للعدالة والتنمية، بحكم كونه واضعَ أسس السياسة الخارجية لتركيا، والداعم الأساسي للتقارب بين بلاده ودول العالم الإسلامي، والأكثر قدرة على تصويب المسار في هذا الملف، بما يكفل لتركيا العودة مجددًا للقيام بدور المدافع عن قضايا شعوب العالم الإسلامي، والمتحدثة باسمهم في المحافل الدولية، والسعي لإزالة أي خلافات من شأنها إعاقة قيامها بهذا الدور، الذي يمنحها مكانة إقليمية ودولية متميزة.
الأزمة الاقتصادية
أما إذا كانت المسألة ذات علاقة بالأزمة الاقتصادية، وحالة الغلاء غير المسبوق التي يرزح تحتها المواطن البسيط فإن علي باباجان وحزبه الديمقراطية والتقدم كانا الأجدرين باستقطاب أصوات الغاضبين من سياسات الحكومة الاقتصادية، خاصة أن باباجان هو مهندس السياسة الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية في بداية انطلاقه، الأمر الذي أحدث طفرة اقتصادية وحالة من الرخاء والاستقرار لم ينعم بها الأتراك على مدى عقود، بعد أن نجح في إحداث نقلة غير مسبوقة للاقتصاد التركي مكّنته من رفع متوسط دخل الفرد.
لكن بوصلة ناخبي العدالة والتنمية الذين قاموا بالإدلاء بأصواتهم لم تتجه لا لهذا ولا لذاك، إنما وجهوا أصواتهم لوجهة لم تكن مطروحة، ولم تخطر على بال أحد، حيث توجهوا صوب حزب الرفاه من جديد، وهو الحزب الذي أسسه فاتح أربكان نجل الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان، عام 2018 عقب انفصاله عن حزب السعادة، في إشارة يجب ألا يخطئها أولو الأمر المعنيون بوجه تركيا الإسلامي تحديدًا.
خارطة طريق للسياسيين
جاء هذا التصويت وكأنه يرسم الطريق مجددًا للسياسيين، ويوضح لهم شكل السلطة التي يرغب فيها الإسلاميون لإدارة البلاد سياسيًا واقتصاديًا، وهو الشكل الذي ينطلق من نظرية الراحل نجم الدين أربكان، ونهجه في إدارة البلاد داخليًا وخارجيًا على وجه التحديد، وليس وفق نهج غيره من السياسيين حتى وإن كانوا ممن تربوا على يديه، أو شبوا عن الطوق في حاضنة حزبه.
إشارة تبدو وكأنها رغبة حقيقية من جانب إسلاميي تركيا للعودة إلى المنابع الأولى التي ارتكزت عليها الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية في البلاد، وثوابتها التي تعتمد مبادئ الحق، والعدل، والمساواة، التي وضعها الراحل نجم الدين أربكان، ووجد الإسلاميون والمحافظون أنه لم يعد لها وجود حقيقي ملموس في ممارسات الأحزاب التي تمثلهم على الساحة على اختلاف أسمائها بعد أن أمضت أكثر من عشرين عامًا في السلطة.
وهو الأمر الذي فطن له فاتح أربكان، حيث عمل منذ تأسيس حزبه على تبني الرؤية الوطنية التي وضعها نجم الدين أربكان، والتي ترتكز في مجملها على عدة نقاط أساسية، مثلت المصدر الفكري لجميع الأحزاب التي شكلها أربكان نفسه، وهي ضرورة العمل على إحياء الحضارة الإسلامية، والسعي لإعادة وحدة العالم الإسلامي مجددًا، وتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي والفكري لتركيا، والابتعاد بها عن الهيمنة الغربية، معلنًا أن ركيزة حزبه الأساسية تعتمد على حركة "الملي جوروش" التي ينضوي تحتها جلّ الجماعات الإسلامية والطرق الصوفية المنتشرة بكثرة في المجتمع التركي.
تحقيق الرؤية الوطنية
ووَفق هذه الرؤية جاءت موافقة حزب الرفاه من جديد على الانضمام لتحالف الجمهور مع كل من أحزاب العدالة والتنمية، والحركة القومية، والاتحاد الكبير، وهدى بار، بعد أن وجد أن مرشح تحالف المعارضة للرئاسة كمال كليجدار أوغلو لا يجد غضاضة في التصريح بأن الشذوذ الجنسي لا يمثل تهديدًا للأسرة التركية، ولا ينذر بتفككها، وأنه لا يخفي دعمه لهذه الفئة من المنحرفين.
وهو التحالف الذي نجح من خلاله الحزب في حجز خمسة مقاعد له في البرلمان، في سابقة هي الأولى له منذ تأسيسه، لكنه وبعد مضي قرابة العشرة أشهر رفض دعوة الانضمام لتحالف الجمهور مرة أخرى لخوض الانتخابات المحلية.
قرار الرفض جاء بعد متابعة دقيقة للسياسات التي اعتمدتها الحكومة على صعيد علاقاتها السياسية والاقتصادية، وتعاطيها مع الشأن الداخلي، التي تخالف في مجملها الثوابت الفكرية التي ينطلق منها الحزب، وتبعد تمامًا عن نظرية الراحل أربكان في الحكم، والركائز التي يجب أن تنطلق منها ممارسات تركيا الداخلية، وعلاقاتها السياسية والاقتصادية، سواء مع محيطها الإقليمي، أو عند تعاطيها مع العالم الغربي.
لم يكتفِ رئيس حزب الرفاه برفض الانضمام للتحالف الانتخابي مع العدالة والتنمية، لكنه تعمّد في حملته الانتخابية توجيه أقسى الانتقادات للحكومة، وتعاطيها مع الملفات التي تهمّ العالم الإسلامي تحديدًا، والتي تخالف رؤية أربكان بشكل كبير.
حيث قام بمهاجمة العدالة والتنمية من خلال توظيف المعلومات التي تتردد حول استمرار التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل في الوقت الذي تشنّ فيه الأخيرة حرب إبادة ضد غزة، تارة بالعمليات العسكرية والتفجيرات واستهداف المستشفيات والمدارس والبنية التحتية، وتارة أخرى من خلال اعتماد سياسة الجوع لقتل المدنيين من سكان المدينة.
وهو واحد من الملفات التي تسبّبت في إحداث فجوة كبيرة بين العدالة والتنمية وقاعدته التصويتية، إلى جانب تعاطي الحزب مع مسألة انضمام السويد لحلف الناتو، وخضوعه لتلبية رغبة واشنطن على حساب أمن تركيا القومي، وممارساته فيما يخص ملف اللاجئين، إلى جانب إخفاقات سياساته الاقتصادية، وعدم قدرتها على تلبية طموح المواطنين، لذا امتنعت شريحة كبيرة منهم عن التصويت تمامًا في هذه الانتخابات، بلغت نسبتها حوالي 10%، بينما صوّت آخرون لصالح حزب الرفاه من جديد، الذي نجح في الحصول على أصوات 6.19% من أصوات الناخبين على مستوى تركيا.
فاتح أربكان الذي أعلن أن عدد مؤيدي حزبه زاد بنسبة 100% خلال هذه الانتخابات، أرجع هذا النجاح الذي حققه الحزب لسعيه الدؤوب من أجل إحياء الرؤية الوطنية التي وضعها الراحل نجم الدين أربكان، والعودة إلى المنبع الذي يجب أن تستقي منه الأحزاب ذات التوجه الإسلامي سياساتها؛ تحقيقًا لرغبة مؤيديها والمنتمين للتيار الإسلامي.. فهل من مجيب؟!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.