الحرب التي تصنع شهودها بقتلهم
حرب الإبادة على غزة، والتي تعكس طبيعة التوحش الإسرائيلي، هي حرب ضد أشياء كثيرة إلى جانب كونها حربًا تستهدف الفلسطينيين كجماعة وطنية. إذ يمكن وصف الحرب بأنها تستهدف الأطفال على وجه الخصوص كنتاج مرض نفسي وعقدة ديمغرافية مزمنة لدى هذا الصنف من الاحتلالات النادرة عبر التاريخ.
فعلاقة إسرائيل الزائفة بأرض فلسطين هي علاقة تتعرض لنقض ذاتي دومًا بعامل ديمغرافي كان عقدة الاحتلال منذ يومه الأول. منذ تلك المجازر التي اقترفها بحق قرى بأكملها في عام 1948؛ لتنفيذ إستراتيجية التهجير، للتخلص من النقيض الأساسي لرواية "أرض بلا شعب".
عقد نفسية مزمنة
استمرت هذه العقدة على مرّ السنين، وبرزت ملامحها في كل محطة من محطات الاعتداء. في غزة تحديدًا واجه الاحتلال مشكلة الخصوبة العالية للغزيين خلال احتلاله لها، وكان أن أمر الحاكم العسكري للقطاع خلال فترة الاحتلال في الانتفاضة الأولى برفع حظر التجول خلال فترات ما من الانتفاضة؛ بسبب تقارير إسرائيلية تحدثت عن ارتفاع نسبة الحوامل خلال فترات الحظر والإغلاق. ولك بعد هذا أن تتخيل عقلية هذا الصنف من المستوطنين.
في هذه الحرب تجلّت متلازمة المستشفيات، وكأنها عقدة أخرى لدى "إسرائيل". دخل جيش الاحتلال وكأنه في ثأر تاريخي مع هذه الصروح التي تستحق فلسطينيًا لقب "صروح". فرغم كل حالة الحصار والتجويع والاحتلال التي مورست من أجل تجهيل الفلسطينيين، أنجبت غزة شريحة من الأطباء الفلسطينيين المهرة، الذين ينتشرون في كل بلد أوروبي وأميركي، فضلًا عن الصامدين في القطاع، أو العائدين إليه بعد رحلة دراسة أو عمل.
تميّز القطاع الطبي في غزة بالكفاءة العالية لأطبائه قبل جودة خدماته كمستشفيات ومرافق. في السيرة الذاتية لكل طبيب في غزة أضعاف ما يمكن أن يباهي به أكبر طبيب في العالم، من حيث عدد العمليات الطبية والجراحية التي أجراها في مختلف الاختصاصات. كانت الانتفاضات والحروب المتوالية بمثابة جامعات مهنية وتدريبية مستمرة في هذا المجال.
مارسَ جيش الاحتلال توحشًا فريدًا ضد المستشفيات، وكان سلوكه الإجرامي يتجلى ضد الأطباء، والطاقم الطبي مع دخول كل مستشفى، ولا يزال أطباء كبار في الأسْر بتهمة طبيب. ضمن هذا الصنف البشري الفريد للمحتلّ الإسرائيلي المسكون بالغيرة الديمغرافية، يمكن فهم استهداف المستشفيات والأطفال في سياق اجتماعي تاريخي أعمق مما تعكسه المعطيات العملياتية على الأرض خلال هذه الحرب. وهو سياق سيستحق تقييمًا علميًا أعمق في وقت لاحق؛ لاستنتاج أسباب هذه العلاقة الثأرية بين الجندي المستوطن، بمقابل الطفل والمستشفى.
سياق استهداف المستشفيات، في شقّ منه فقط، يمكن أن يعالج فهمنا لإستراتيجية قتل الشهود، التي تجلّت منذ اليوم الأول كأسلوب حربي ملازم. فالمستشفيات هي مراكز الاستقبال النهائية لنتائج المعركة البشرية، حيث ينتهي لها الجرحى للعلاج، والشهداء قبل دفنهم. والمستشفيات بهذه العملية تتحول في جانب منها إلى أبرز الشهود على الجريمة، ومركز توثيق للضحايا.
إستراتيجية مشتركة
ويمكن تخيل عدد الجرحى والشهداء الذين سقطوا من التعداد والتوثيق منذ أن أُخرجت المستشفيات عن الخدمة. رأينا الأهالي يحملون جثث ذويهم إلى الدفن مباشرة، والجرحى الذين لا يجدون مكانًا، وتستقبلهم أرضيات المستشفيات الباردة، أو خيم مراكز الإيواء.
لا يمكن الاعتقاد أن عملية التوثيق الدقيقة للجريمة تسير وفق آليات مريحة خلال هذه الحرب، فوزارة الصحة الفلسطينية في غزة هي المصدر الرسمي للأرقام، والمستشفيات بدورها هي مصدر الوزارة الوحيد. وهنا تسعى بعض المؤسسات الحقوقية للاجتهاد من أجل توثيق أوسع للإبادة التي غاب عنها الشهود.
في هذا السياق أيضًا، كان ملاحظًا كيف مُنع الصحفيون الدوليون من الدخول إلى غزة من أجل تقديم تغطياتهم الإعلامية. وسيتسع المجال لاحقًا لدراسة خاصة وفريدة من نوعها لحجم الحصار الذي فُرض على الصحفيين الدوليين.
فمن لم تنجح وسيلته الإعلامية بمنعه بحجة رفض شركات التأمين تغطيته، تمّ منعه مباشرة تحت ضغط الانحياز الفاضح لرواية لا ترغب وسائل إعلام دولية، غربية بالأخص، رؤية خلافها وتقديم بديلٍ عنها. ومن نجح بالوصول رغم كل القيود، منعته السلطات التي تحفظ الحدود من الجانبين، ومن تجاوز الحدود، كانت بانتظاره آلة قتل ذات حصانة قانونية خاصة.
ثمّ برزت حرب استهداف الأونروا كمنظمة دولية شاهدة، لديها قدرة الوصول لكل بقاع قطاع غزة؛ بحكم وجودها القديم، وعملياتها المستمرة في دعم اللاجئين وما يرافق ذلك من توفر للمرافق والبنى اللوجستية.
كانت إستراتيجية قتل شهادة الأونروا مشتركة، تشبه تلك التي كانت ضد الإعلاميين الدوليين، تشترك فيها سلطات القتل الإسرائيلية على الأرض، وتساندها مجموعة دولية، كانت منذ البداية جاهزة لدعم كل إجراءات الإبادة وتمريرها دون عقاب. فوقف التمويل بحق الأونروا من قبل الغرب، يأتي في سياق قتل الشهادة إن لم ينجح قتل الشاهد. فالإجراءات هي رسالة للأونروا بالتزام حدود معينة، ورسم لخطوط حمراء على الوكالة الدولية الالتزام بها، وإلا.
لا يمكن فصل مقتل طاقم المطبخ العالمي من الجنسيات الدولية في قصف دقيق استهدفهم في دير البلح، عن إستراتيجية قتل الشهود التي رافقت هذه الحرب. ولا يمكن الاعتقاد أن خطأ ما قد حدث في الاستهداف بحكم القواعد التي ترافق تنقل هؤلاء، وهي قواعد تعريفيّة متفق عليها من أجل تمييز هوياتهم وأدوارهم. قد يحقق الجيش الإسرائيلي شكليًا، وقد يعتذر عن الخطأ لاحقًا، لكن المهم أن يكون البريد قد وصل لكل من يريد المقامرة بحياته؛ من أجل تقديم شهادته على الإبادة القائمة في غزة.
صحوة متأخرة
سلوك الاحتلال تجاه المتضامنين الأجانب، بمن فيهم الغربيون، والمؤسسات الإنسانية الدولية يمتلك حصانة خاصة، واستمراره مفهوم بمقابل ردات الفعل التافهة التي تطلقها دول هؤلاء المتضامنين بالعادة. والسجل في هذا يطول، ليس أقلها التذكير بدهس الجرافة الإسرائيلية للمتضامنة الأميركية راشيل كوري خلال الانتفاضة الثانية في رفح عام 2003، وهي جريمة موثقة بالصور، وقد مرت دون محاسبة.
ما الذي يمنع هذا الصنف من الوحوش من قتل الشهود والأطفال وتدمير المستشفيات واغتيال طواقم الإغاثة الإنسانية، واستهداف المؤسسات الأممية، وغير ذلك من جرائم الحرب الموصوفة؟ لا شيء بالتأكيد، في ظل الحاضنة الدولية لماكينة القتل الإسرائيلي.
مع ذلك، لم يسبق لهذا الصراع، الذي تجلّت فيه سادية "إسرائيل" في كل محطة من محطاته، أن شهد مبالغة في التوحش والتجرؤ على الشرائح المدنية المحايدة بهذا الشكل. فقد حظي هذا الاحتلال بدعم دولي غربي منذ قيامه، وفي هذه الإبادة حظي بشراكة مباشرة من قبل حواضنه الغربية، التي بدأت تصحو على نفسها متأخرة جدًا، وبشكل خجول لا يلغي استمرار شراكتها، لكن بنمط مختلف فقط.
مع كل سوداوية ما سبق، إستراتيجية قتل الشهود لن تنجح في تغطية الجريمة. هذه جريمة نقلتها الكاميرا والشهادات الحية من الأفراد. جريمة نقلتها إستراتيجيات القاتل نفسه، فجدران مستشفى الشفاء ينبغي ألا تُرمم بعد هذه الحرب. بل إن جهدًا وطنيًا ينبغي أن ينصب على إعادة الإعمار بعد الحرب، تمامًا كما ينبغي أن ينصب على الحفاظ على مسارح الجريمة دون إعمار. ينبغي أن تبقى الشواهد حاضرة كمزارات إنسانية تشهد على الإبادة ومرتكبيها.
شهود الجريمة ليسوا بشرًا ومؤسسات فقط، فالسقوفُ المقصوفة، والبيوت المحروقة شهود أيضًا. الثقوب في جدران المستشفيات والمدارس شهود. وتصلح أرض غزة بحجرها وترابها لتكون شاهدة في كل شبر منها على مجرمين من طراز خاص، يشبهون القتلة المتسلسلين المدفوعين بساديات مرضيّة وأيديولوجية يقف أمامها صاغرًا كل فكر متطرف عرفته البشرية حتى اليوم. الفرق بينهم وبين القتلة المحترفين، أن هؤلاء يصنعون الشهود بقتلهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.