معركة "جناق قلعة" وعقدة العلمانيين الأتراك
أحيت تركيا الرسميّة والشعبية كعادتها سنويًا الذكرى الـ 109 لانتصار الجيش العثماني على قوات الحلفاء: إنجلترا، وفرنسا، ونيوزيلندا، وأستراليا، خلال الحرب العالميّة الأولى، في واحدة من أكثر معارك التاريخ عنفًا ودموية.
وهي المعركة المعروفة باسم "جناق قلعة"، التي استمرّت قرابة العام، إذ بدأت من مطلع أغسطس/ آب 1914 حتى الثامن عشر من مارس/ آذار 1915، ودارت تحديدًا للدفاع عن مدينة إسطنبول، عاصمة دولة الخلافة العثمانية، وصد محاولات اختراقها، ومنع سقوطها.
جناق قلعة بين الاحتفاء والتجاهل
وبينما احتفت بهذه المناسبة العظيمة، وسائل الإعلام التركية ذات التوجّه القومي والإسلامي، وأفردت لها مساحات كبيرة من ساعات بثّها على مدى الأيام الماضية، لوحظ غياب تام لنظيرتها اليسارية والعلمانية – وما أكثرها – عن الحدث، متجاهلة الحدث تمامًا، وكأنه لم يكن.
وذلك رغم الدور البطولي لمصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، فيها – حيث كان عليهم استغلاله، وتوظيفه لخدمتهم – خاصة أنه الدور الذي لا يستطيع منصف أن ينكره، أو يقلل من قيمته، حيث كان أتاتورك آنذاك برتبة نقيب، ويتولى قيادة الفرقة "التاسعة عشرة احتياط"، وهي الفرقة التي قادت المرحلة النهائية والحاسمة من المواجهة التاريخية لهذه الحرب، التي عرفت باسم "أنتفارتلار".
إذ تصدّرت صورته عقبها صدر الصحف التركيّة، التي أطلقت عليه لقبَي "حامي إسطنبول" و "بطل الدردنيل"، في أول ظهور له على الساحة السياسية والإعلامية، كما أقيم له تمثال كبير قرب تبّة "شونك بيري"، التي وقعت فيها آخر فصول هذه المعركة، وأول انتصارات أتاتورك العسكرية، وبداية مسيرته السياسية.
إضافة إلى أن معركة جناق قلعة – وهي مدينة تقع على مضيق الدردنيل الذي يقع بين البحر الأسود والبحر المتوسط – تُعد مصدرَ فخر لجميع الأتراك كإحدى أهم صفحات التاريخ المشرف للدولة، التي تبرز قدرتها على الصمود وتحقيق البطولات، وضمان حرية البلاد واستقلالها، وتعد نموذجًا مشرقًا لقوة الإرادة الوطنية في مواجهة العدوان عليها من جانب القوى الأجنبية التي احتشدت ضدها.
وأظهرت الإصرار وعدم التراجع عن تحقيق الهدف، رغم ارتفاع عدد الشهداء الذين قدموا أرواحهم فداءً لاستقلال المدينة، والبالغ عددهم مئتين وخمسين ألف جندي من مجموع ثلاثمئة وخمسة عشر ألف جندي، هم مجموع جيش الإمبراطورية العثمانية.
العرب سبب التجاهل
تجاهل الإعلام العلماني واليساري، وعزوفه عن المشاركة في إحياء ذكرى انتصار معركة جناق قلعة، يعود على الأغلب إلى سبب وحيد، ألا وهو أن معظم جنود الفرقة التاسعة عشرة التي كان يقودها أتاتورك كانوا من العرب، الذين جاؤوا من فلسطين، ولبنان، وسوريا، والعراق، ومصر، ومختلف بلدان العالم الإسلامي للدفاع عن عاصمة الخلافة الإسلامية، ورفع راية الإسلام، ومنع سقوطها تحت ضربات قوات الحلفاء.
حيث تولى أتاتورك مهمة تدريبهم وتأهيلهم للقتال حتى أصبحوا من خيرة المقاتلين، وأكثرهم تفوقًا وتميزًا، وساهموا بحق في تحقيق هذا الانتصار التاريخي على جحافل قوات الحلفاء الذين بلغ عددهم أربعمئة وتسعين ألف جندي؛ سعوا إلى احتلال المدينة، وإسقاطها؛ دعمًا للجيش الروسي الذي كان يتلقى ضربات موجعة من الأسطول العثماني في البحر الأسود.
ولولا الدور العظيم الذي قام به هؤلاء، وهم ملتفون حول السنجق الشريف (وهي الراية التي يشير عدد من الروايات التاريخية إلى رفعها خلال هذه الحرب، ويعتقد كثير من المؤرخين أنها استخدمت من جانب الرسول – صلى الله عليه وسلم – في المعارك التي خاضها)، وتصديهم بأسلحتهم وأجسادهم للدفاع عن المدينة، ووقف زحف قوات الحلفاء لخسرت الدولة العثمانية المعركة، ولتغير الكثير مما تحويه صفحات التاريخ، وما تخطه خرائط الجغرافيا اليوم من حدود.
فسقوط إسطنبول – التي كانت تعد المرجعية الدينية للإسلام، ورمز الحكم لشعوب العالم الإسلامي – سيعني آنذاك إلحاق هزيمة لن تمحى من تاريخ الأمة الإسلامية وحضارتها ككل.
فضل العرب وتضحياتهم
لا يريد العلمانيون الأتراك ولا الكماليون الاعتراف بأن للعرب فضلًا عليهم، وبأنهم كانوا يومًا ما شركاء معهم في هذا الوطن، يتقاسمون جغرافيته، وينعمون بخيراته، ويهبون للدفاع عنه وقت محنه وشدته، وبأنهم سطروا بدمائهم – التي اختلطت بدماء الأتراك أنفسهم، مع دماء الأكراد، والشركس، والهنود، وغيرهم من أبناء الأمة الإسلامية – صفحات مشرقة ومشرفة في تاريخ هذه الأمة.
يرفض هؤلاء تقبّل فكرة أن العرب بدعمهم للدولة العثمانية قد حفروا أسماءهم بأحرف من نور، ليس فقط على الأحجار المنتشرة في كل مكان شهد فصلًا من فصول هذه الملحمة العسكرية، بل وفي كل صفحات التاريخ على اختلاف توجهات مؤرّخيها.
أكذوبة الخيانة العربية
إنهم يستمتعون فقط بترويج أكذوبة أن العرب خانوا الدولة العثمانية، بل وكانوا السبب في انهيارها، ويسعون إلى محو أي علامة تؤكّد كذب هذا الادعاء، أو تشير إلى حقيقة أن العرب كانوا إحدى الركائز التي اعتمدت عليها الإمبراطورية العثمانية في مسيرتها السياسية، والاقتصادية، وانتصاراتها العسكرية.
حتى لو كان الثمن تجاهل الدور الذي قام به مرشدهم ومعلمهم الأول مصطفى كمال أتاتورك في تحقيق هذا الانتصار التاريخي، ومعه فرقته من العرب والمسلمين، حتى تم دحر قوات الحلفاء، وحماية إسطنبول من هزيمة تاريخية، وضياع هيبة الحضارة الإسلامية.
كيف لهم أن يعترفوا أو يتقبلوا أيًا من هذه الحقائق وهم لا يطيقون وجود العرب بينهم، ويلاحقون الأحرف العربية في كل مكان تتواجد فيه، ولو على لافتة لأحد المحال التجارية، ويرفضون سماع اللغة العربية تتداول على الألسنة، ويبدون تأففًا واضحًا لا تخطئه الأعين من جرسه، بل ويطلقون في كل مناسبة انتخابية الوعود لمؤيديهم بنيتهم طرد العرب من البلاد، وإعادتهم من حيث أتوا، ويعلنون دومًا – ودون مواربة أو حياء – حربَهم على كل ما يمتّ لهم بصلة من قريب أو بعيد.
سنبقى ليوم القيامة
ورغم التجاهل واللامبالاة التي يبديها هؤلاء تجاه معركة جناق قلعة، وما تحقق فيها من انتصار، هو آخر انتصار للجيش الإسلامي الموحد تحت راية الإسلام، وقيادة دولة واحدة ضد جحافل التحالف الصليبي، فإن هذه المعركة ستظل حية في أذهان العرب والمسلمين، ولن ننسى – نحن أو الأجيال المقبلة – أسماء العديد ممن شاركوا فيها، ودفعوا أرواحهم؛ ثمنًا لتحقيق هذا النصر العظيم، وسنظل نفخر دومًا بما قدموه دفاعًا عن عاصمة الخلافة الإسلامية.
وهل يستطيع أحدٌ أن ينسى مشاركة سعيد حليم باشا المصري الصدر الأعظم للدولة العثمانية عند بدايات هذه المعركة، أو ما قدّمه الأمير فهد بن فرحان الأطرش الذي دافع بشراسة عن موقعه في ناحية " دميرجي" الكائنة غرب تركيا، ودحره جميع محاولات اقتحامها، ليقضي بقية حياته في المنفى والملاحقة من جانب الإنجليز، بعد أن رفض التعاون معهم، وخيانة الدولة العثمانية.
وغيرهم الآلاف من الشهداء من أبناء أمتنا، الذين تحتفظ أحجار المدينة ونُصُبها التذكاري بأسمائهم، كما تجد أن أسماءهم خطت بعناية فائقة على شواهد القبور في مقابر الشهداء سواء الموجودة في جناق قلعة، أو شانلي أورفة، أو إسطنبول، مصحوبة بمعلومات وافية عن كل شهيد منهم، عن عائلته، والبلد الذي أتى منه وفق التقسيم الجغرافي الحالي لبلدان وطننا العربي والإسلامي. شواهد قبور شاهدة على ما قدمه العرب للإمبراطورية العثمانية، من بطولات وتضحيات رغم أنف المضللين.
ولعل جملة الرئيس أردوغان التي قالها أثناء أحد الاحتفالات بهذه المناسبة التاريخية: " نحن هنا منذ ألف عام، وسنبقى إلى يوم القيامة إن شاء الله"، هي الرد الأمثل على أمثال هؤلاء الكارهين، والمتجاهلين، واللامبالين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.