توفيق الحكيم ومختاراته من تفسير القرطبي
عُرِف الأديبُ الكبير توفيق الحكيم بكتاباته الأدبية، والروايات التي خطا في مجالها خطوات كبيرة، وغدا من أشهر كتّابها في عالم العرب، ولم تخلُ كتاباته من جوانب سياسية وفكرية، ما بين الجِد والسخرية، وما بين النقد السياسي والفكري لأوضاعنا.
ولقد كان لمعظم أدباء مصر الكبار، إطلالة واطّلاع على القرآن الكريم، وعلى تفسيره، ولهم نظرات وتأملات، وكان مجال كتابتهم المحبب لهم: السيرة النبوية، حيث إنه حديث عن قصص، ويسهل فيه إطلاق عنان قلمهم، وخيالهم الأدبي، في كيفية عرض الحدث من السيرة، وإن لم يخلُ كثير منهم من الكتابة في القرآن الكريم، وتأملاتهم في موضوعات قرآنية، كما رأينا عند عباس العقاد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم من أشهر الأدباء.
يرى الحكيم أن عقوبات الإسلام البدنية، خاصة الإعدام، أنه يبقى ولا يلغى، فهي عقوبة عادلة تتعلق بحق المجتمع، ولا يرى الحكيم رجل القانون أن عقوبة الحبس عقوبة مناسبة أو مفيدة
ولتوفيق الحكيم، مختارات انتقاها من تفسير الإمام القرطبي، أسماها الحكيم: (مختار تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن)، وتفسيره ليس تفسيرًا عاديًا، ولا مخصصًا للعامة من القرّاء، بل الكتاب مختصّ جدًا، فصاحبه مفسّر وفقيه ولغوي من الأئمة القدامى، وإقدام الحكيم على هذه الخطوة، ينمّ عن رغبة ملحة لديه، واطّلاع واسع على تفسير القرطبي، فإن من يقوم بالانتقاء لمواضع من تفسير معين، لا شكّ أنه مرّ عليه كله، وحار كثيرًا فيما يدع ويختار.
دوافع الحكيم لمختارات القرطبي
كانت دوافع الحكيم وراء هذا العمل، دافعان مهمان ذكرهما؛ الأول: أنه رأى الإمام الرازي صاحب كتاب (مختار الصحاح)، قد قام باختصار عمل كبير جدًا، في مجلد واحد، يسهل على الناس الرجوع إليه، في يسر وسهولة، واختصار مفيد، ومن أراد المطولات ذهب إليها، فقد اختصره من عمل مطول للإمام الجوهري، وقد أراد الحكيم أن يحذو حذوه في ذلك، فيختصر القرطبي اختصارًا ينفع العامة، ويفيد الخاصة، ويقرب الكتاب للناس، حيث يحتوي فوائد هائلة، لا يستغني عنها طالب علم، ولا محبّ للتفسير.
ودافعه الثاني: أنه رأى إقبالًا على قراءة الكتب الدينية، وقد نشر الكتاب سنة 1977م، وهو ما كان يسمى بفترة الصحوة الإسلامية، وانتشار الكتب الإسلامية، والتي كانت أكثر الكتب مبيعًا، وكان الإقبال عليها منقطع النظير، حسب إحصاءات كل معارض الكتب في مصر والعالم العربي والإسلامي، فرأى الحكيم أن يقدم كتابًا يسهم في توعية القرّاء لكتاب الله تعالى.
لماذا اختار الحكيم تفسير القرطبي؟
بيّن الحكيم عن سرّ اختياره تفسيرَ القرطبي من بين بقية التفاسير، وذلك لما رآه من خلو هذا التفسير من الخرافات والأوهام، التي لم تخلُ منها بعض التفاسير الأخرى، والحكيم محقّ في ذلك، فالقرطبي من أبعد التفاسير عن الإسرائيليات، وهو معني بقضايا أخرى يركز في تناولها، وليس مغرمًا بالغرائب التي وجدت في تفاسير سابقة ولاحقة عليه.
ولكنّ سببًا ثالثًا لم يذكره الحكيم، عن سر اختياره تفسير القرطبي، وهو سبب راجع لميول الحكيم الأدبية والعلمية، فهو يلتقي مع القرطبي في المسلك الفكري في مساحات لا يدركها إلا من يدقق في السيرة والمسيرة العلمية والفكرية للقرطبي والحكيم، فالقرطبي لغوي وفقيه كبير، وعالم قراءات كذلك، وهذا المسلك يلتقي مع توفيق الحكيم في ميوله الأدبية واللغوية، والتي برع فيها الحكيم في كل كتاباته، فهو عندما يكتب في السياسة يكتب بلغة أدبية كذلك، وليس فقط في الروايات الأدبية والقصصية.
كما أن القرطبي عُنِي بالفقه والأحكام، ولذا كان عنوان كتابه: الجامع لأحكام القرآن، وهذا مسلك علمي، يلتقي مع مسلك الحكيم، والذي درس الحقوق، وكان قد عمل في أول حياته بالنيابة والتحقيق في الجرائم، ولذا كانت من أولى رواياته: "يوميات نائب في الأرياف"، تتحدث عن الريف وحياته ونمطه الاجتماعي، والجريمة فيه، ولذا نجد بصمات الحكيم القانونية تتضح وتبرز في كتابه: (مختار تفسير القرطبي).
رأي الحكيم في عقوبات الإسلام البدنية
ولأن الاختيارات التي انتقاها الحكيم، لا يعلق فيها بأي تعليق يدون فيها رأيه، فقد وضع في مقدمته التي كتبها، موقفه الفقهي والتشريعي من قضايا تناولها التفسير، وهي قضية جديرة بالتسجيل عن الحكيم؛ لأنها تمثل موقفًا لفقيه قانوني بالمعنى القانوني المعاصر، وذلك في موقفه من العقوبات في الإسلام، وبخاصة العقوبات التي تتعلق بالعقوبات البدنية، والتي يتم فيها جلد المذنب، أو المجرم.
فيرى الحكيم أن عقوبات الإسلام البدنية، خاصة الإعدام، أنه يبقى ولا يلغى، فهي عقوبة عادلة تتعلق بحق المجتمع، ولا يرى الحكيم رجل القانون أن عقوبة الحبس عقوبة مناسبة أو مفيدة، بل يرى عقوبة الجلد التي نص عليها الإسلام والفقه الإسلامي، هي الأجدى والأنفع؛ لأنها عقوبة فورية، يعاقب بها المجرم، وينتهي أمره، ويعود لممارسة الحياة والإنتاج، بينما الحبس يعطل المجتمع بحبس عدد من أفراده داخل الزنازين.
وما انتهى إليه الحكيم في العقوبات البدنية في الإسلام، هو نفس ما قام ونادى به فقيه قانوني آخر، وهو المستشار علي علي منصور، والذي كان شخصية قانونية مشهورة في مصر والعالم العربي، وقد طلبه الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، ليضع لهم قانون العقوبات، مقتبسًا من الشريعة الإسلامية، وكتب منصور مقالًا- يقول بنفس رأي توفيق الحكيم- في مجلة الأزهر.
في الجمع بين الدين والدنيا
وأشار الحكيم في مقدمته التي ذكر فيها خلاصة ما يستنبطه من مختارات تفسير القرطبي، ومنها: أن القرآن الكريم في خطابه وتعاليمه، يجمع بين الدين والدنيا، لأنه آخر رسالات السماء للأرض، فكان جامعًا لكل ما سبق من الرسالات، فيما صح منها، ومصححًا لما حُرّف منها، فلم يقرّ ما قامت عليه الفكرة المادية في اليهودية من قبل، ولا ما قامت عليه فكرة الروحية والعزلة كما في المسيحية، فجاء القرآن الكريم في آياته ونصوصه ينادي بإصلاح الدنيا، وإقامة الدين، عن طريق أوامره بالعبادة، من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وتكاليف أخرى.
منهج الحكيم في المختار من التفسير
لم تكن مختارات الحكيم لتفسير القرطبي، اختصارًا للتفسير، بل كانت انتقاءات لمواضع، لتفسير آيات من القرآن الكريم، ولم تشمل كلّ سور القرآن في تفسيره، بل اختار عددًا من السور، ومن خلال كل سورة، يختار آيات معينة، تعالج موضوعات يرى الحكيم من خلالها رؤية لموضوعات قرآنية، تعالج قضايا متعلقة بالعقيدة، والعبادة، والسلوك، والعلاقات الدولية.
فكان يضع كلام القرطبي لآيات مختارة كاملًا، لا يتصرف فيه، بكل ما قاله القرطبي في الآية، لم يزد عليه سوى أن وضع له عنوانًا مناسبًا ومعاصرًا، يدل على ما فهمه الحكيم من التفسير، كدلالة على أن عناوين الحكيم تبين منهج اختياره للمقاطع من التفسير، وذلك مما أخذ عليه، أنه لم يبين منهجًا محددًا للاختيار، وهو ما عابه عليه الدكتور إبراهيم عوض، وحق له ذلك، وإن بدا من مختارات الحكيم خطته في الاختيار، وذلك من خلال الأفكار التي تناولها الحكيم في مقدمته، ومن خلال عناوين الفقرات.
لا يخلو العمل من فوائد اتسقت مع هدف الحكيم منه، ولم يخل من عيوب كذلك، حيث لم يعمل قلمه في أي تهذيب، أو توضيح، أو شرح، سوى عناوين للفقرات، ولكنه جهد طيب من أديب بحجم توفيق الحكيم، عمله يدل على قيمة وأهمية التفسير في ثقافة الأديب والمفكر، ويقرب كتابًا كتفسير القرطبي لشريحة من القراء ستقرأ كتابًا عليه اسم الحكيم، ربما لم يكونوا من جماهير الثقافة الإسلامية، بل هم من جماهير الحكيم، وهي خطوة تحسب لصالح التراث الإسلامي، وبخاصة أنّها لم تتكرر من أدباء آخرين بحجم الحكيم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.