الدستور التركي المنتظر .. هذا ما تخشاه المعارضة!
مع اشتداد حدّة المنافسة بين الأحزاب التركيّة استعدادًا لمعركة الانتخابات المحلية، التي أصبحت البلاد قاب قوسين أو أدنى منها، برزت على السطح بقوة قضية وضع دستور جديد للبلاد، يتوافق ومرحلة الجمهورية التركية الجديدة، أو قرن تركيا كما يحلو لحزب "العدالة والتنمية" الحاكم أن يسمّيه، والذي أعلن على لسان العديد من قياداته الفاعلة أن تركيا تستحقّ دستورًا جديدًا مدنيًا، وأنهم سيبذلون قصارى جهدهم من أجل التخلص من الدستور الذي أعدّه الانقلابيون العسكريون عام 1980.
معربين عن رغبتهم في أن يكون للبلاد دستور مدني ليبرالي يلبي حاجة المواطنين، ويمنح الأولوية للديمقراطية، والحريات المدنية، والحقوق، ويحمي كرامة الإنسان، ويحافظ على الوَحدة الوطنية، ويحدد بدقة الإطار العام لواجبات الدولة.
توافق مجتمعيّ
أردوغان من جانبه، أكد على ضرورة أن يكون الدستور الجديد ثمرة حوار بنّاء، وتوافق سياسي ومجتمعي شامل، واعدًا بطرق جميع أبواب الأحزاب السياسية لتحقيق هذا الهدف.
غير أنّ فقدان الثقة بين الحكومة ومختلف أحزاب المعارضة، إلى جانب وجود الكثير من النقاط الخلافية بينهما، ربما يشكل ذلك حجر عثرة أمام تحقيق هذه الرغبة السياسية والشعبية في المستقبل القريب على الأقل.
هذا في ظل إيجابية هذا الطرح من جانب الحكومة، وما تبديه الأحزاب السياسية التركية من توافق مبدئي حول ضرورة صياغة دستور جديد للبلاد، بهدف التخلص من روح الانقلاب التي لا تزال تهيمن على الكثير من مواد الدستور الحالي رغم التعديلات العديدة التي تم إدخالها عليه، والتي وصلت إلى عشرين تعديلًا، منها اثنا عشر تعديلًا تمت في عهد العدالة والتنمية، صبّ أغلبها في تقليص نفوذ المؤسسة العسكرية في نظام الحكم السياسي.
الحديث عن إعداد دستور جديد للبلاد ليس وليد اليوم، إذ سبق أن تمّ طرح العديد من المشاريع المختلفة خلال عامي 2011، و2013 حتى وصل الأمر إلى تشكيل لجنة توافق لصياغة الدستور عام 2016، ضمت الأحزاب الممثلة في البرلمان.
إلا أن الخلافات بينها حالت دون التوصل إلى اتفاق أو خروج مشروع متكامل يلبي طموحات المواطنين، الذين يشعرون باستياء بالغ من استمرار العمل بدستور 1980 طوال هذه العقود، وعدم اتخاذ خطوات إيجابية لتغييره من جانب النخب السياسية التي توالت على حكم البلاد، ويرون أن الوقت قد حان للتخلص من إرث مرحلة الانقلابات العسكرية التي عانوا فيها الأمرّين، وإفساح المجال أمام دستور جديد يخدم مصالح البلاد والعباد.
رئاسي أم برلماني؟
الخلافات بين الحكومة والمعارضة بشأن مواد الدستور الجديد تتمحور حول عدة قضايا هامة، يشكل كل منها حجر عثرة في طريق إنجاز هذه المهمة الوطنية، حيث يهيمن عليها العامل الأيديولوجي الذي يتبناه كل منها، ويوجه بوصلتها إرضاءً لقاعدتها الانتخابية.
فالمعارضة- على سبيل المثال – ترى أن النظام الرئاسي المعمول به حاليًا أضر بالحياة السياسية التركية أكثر مما أفادها، حيث تم بمقتضاه إلغاء منصب رئيس الحكومة، وجمع الصلاحيات كلها في يد الرئيس، وقلص من سلطة البرلمان الذي أصبح بلا فاعلية حقيقية وَفق وجهة نظرها.
لذا حرصت قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية على إطلاق وعود بشأن نيتها العمل على إعادة النظام البرلماني، وصياغة دستور جديد للبلاد في حال فوزها بالأغلبية البرلمانية، إلا أن الرئيس أردوغان اعتبر أن فوز "تحالف الشعب" بأغلبية مقاعد البرلمان، وفوزه بالرئاسة كانا بمثابة استفتاء جماهيري على النظام الذي يرغب به الشعب، وهو النظام الرئاسي وليس البرلماني، كما تريد المعارضة، رغم إقراره بوجود بعض الثغرات والمواد التي تحتاج إلى تعديل، وهو ما ظهر جليًا خلال تطبيق النظام الرئاسي.
قلق كبير
قلق المعارضة الأكبر يتلخص في الخوف من أن يكون الحزب الحاكم بطرحه مسألة إعداد دستور جديد للبلاد في هذا التوقيت بالتحديد يهدف إلى إجراء تعديلات جوهرية على نظام انتخاب الرئيس، بما يسمح لأردوغان بالترشح مجددًا في الانتخابات المقبلة في 2028.
وذلك بعد أن استنفد حقوقه الدستورية كاملة وَفق الدستور المعمول به حاليًا، الذي سمح له بالترشح مرتَين متتاليتَين لتولي منصب الرئاسة، خاصة أن أردوغان صرح بإمكانية إعادة النظر في مسألة انتخاب رئيس الجمهورية بنسبة خمسين بالمائة زائد واحد، الأمر الذي زاد من مخاوف المعارضة وقلقها، معتبرة هذا التوجه إنما هو دليل على رغبة الرئيس في الترشح مجددًا، أو على الأقل تسهيل مهمة مرشح حزبه في الانتخابات المقبلة، ومنحه الفرصة كاملة للتغلّب على منافسه.
هُوية علمانيّة أم إسلاميّة؟
حديث قيادات الحزب الحاكم – عن أن البلاد أصبحت في حاجة فعليّة إلى إعداد دستور جديد يتواءم مع روح العصر، والتطورات التي يمرّ بها العالم، ويتوافق مع طموحات "الشعب التركي المسلم"، " ويحافظ له على موروثه الذي يرتكز على القيم الإسلامية" – فتحَ الباب على مصراعيه حول الحديث عن هُوية الجمهورية التركية التي يجب اعتمادها في الدستور الجديد.
تخشى المعارضة من قيام الحزب الحاكم بعقد اتفاق مع الأحزاب الإسلامية والمحافظة الممثلة في البرلمان – كالسعادة، والمستقبل، والتنمية والتقدم – يؤدي إلى إقرار مبدأ إسلامية الدولة التركية في قرنها الجديد.
وأيضًا التضحية بمبادئ مصطفى كمال أتاتورك، وهدم ميراثه الذي يرتكز على العلمانية، حيث ينص الدستور في مادته الثانية على:" أن الجمهورية التركية هي دولة ديمقراطية علمانية يحكمها سيادة القانون، تضع في اعتبارها مفاهيم السلم العام، والوحدة الوطنية والعدالة واحترام حقوق الإنسان الموافقة لقومية أتاتورك". وهي المادة المحصنة من المساس بها أو التلاعب في صياغتها.
أنقرة أم إسطنبول؟
وهذا يقودنا إلى خوف آخر يقض مضاجع زعماء أحزاب المعارضة، التي ترى أن هذا التغيير قد يكون مقدمة ضرورية للخطوة التي تليه، حيث يمكن أن يمتد التغيير إلى البند الخاص بأبدية أنقرة كعاصمة للجمهورية التركية المنصوص عليها في الدستور المراد تغييره.
فبعد الإقدام على خطوة إعادة مسجد آيا صوفيا للعبادة مرة أخرى، وتجاهل مسألة استمراره كمتحف، كما أراده أتاتورك؛ تلبية لرغبة أوروبا، لن يكون هناك عائقٌ أمام أردوغان لإعلان إسطنبول عاصمة للجمهورية التركية في مئويتها الثانية الجديدة.
وهو القرار الذي ينتظره منه الملايين من المسلمين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي عمومًا، كما أنه في حال قيامه بهذا الأمر، يلبي رغبة الإسلاميين والمحافظين الأتراك على وجه الخصوص، الذين أصبحوا يمثّلون قوة شعبية كبيرة، ويتوقون إلى استعادة مجد دولتهم الإسلامية مرة أخرى.
الأمر الذي يضمن تحوله في نظرهم إلى بطل قومي، بعد أن نجح فيما فشل فيه غيره على مدى المائة عام المنصرمة من تاريخ الجمهورية، إذ سيكون بهذا قد استطاع هدم كافة الطابوهات التي ترتكز عليها علمانية الدولة، والقضاء على جميع ميراثها، وإعادة الوجه الإسلامي للبلاد مجددًا.
خاصة مع إصرار حزبه "العدالة والتنمية" على تحصين حرية ارتداء الحجاب دستوريًا، وهو من النقاط الخلافية الكبيرة بين الحكومة والمعارضة، التي ترى أن الأمر لم يعد يحتاج إلى نقاش أو تحصين بعد حزمة القوانين التي أقرها البرلمان، ومنحت المحجبات الحرية الكاملة في ارتداء الحجاب، واستكمال دراستهن الجامعية، والعمل في دواوين الحكومة، والظهور في وسائل الإعلام دون قيد أو شرط.
كل هذه المخاوف التي تنتاب المعارضة التركية، تدفعها دفعًا للوقوف بحزم ضد أية محاولة تُبذل من جانب "العدالة والتنمية" لإعداد دستور جديد للبلاد، حتى إن حزب "الشعب الجمهوري" أعلن صراحة أنه لن يتعاون مع الحزب الحاكم، بل وأعلن رئيسه أوزغور أوزيل أمام المجموعة البرلمانية لحزبه أنهم لن يشاركوا في هذا النقاش، موجهًا كلامه لأردوغان قائلًا:" لن تتمكن معنا من وضع دستور جديد للبلاد".
بينما أكدت ميرال أكشينار زعيمة حزب "الجيد" على أن التغيير الدستوري المنتظر إن كان يشمل شرط الترشح لأكثر من فترتين فإن حزبها لن يدعم هذه التغييرات".
تلبية طموحات المواطنين
تحقيق حلم التخلص من الدستور الحالي الذي صاغه العسكر، والبدء في كتابة دستور مدني جديد يلبي طموحات المواطنين، قد يدفع ذلك المعارضة في مرحلة ما إلى تنحية مخاوفها وخلافاتها مع حزب "العدالة والتنمية" جانبًا، والانفتاح على الفرصة التاريخية المتاحة أمامها لإنجاز هذا الأمر، بما يعود بالنفع على المواطنين، ويضمن للدولة التركية استقرارًا سياسيًا واجتماعيًا في ظل حالة الاضطراب التي تعم العديد من دول العالم، وتنذر بعواقب وخيمة لا يعلم مداها إلا الله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.