رواية "حكاية صابر".. الأسير "محمود عيسى" ونهايته المفتوحة!
نسيء فهم روايات الأسرى لو اعتبرناها عملًا أدبيًا فحسب. هي أكثر من ذلك ولا شكّ؛ هي رسالة من ذلك المغيّب وراء الجدران، تنقل شهادته، وأحلامه، وتحليلاته السياسية ونبوءته للمستقبل.
وصاحب رواية اليوم يقبع في سجنه منذ 35 عامًا، قضى 12 عامًا منها في حبس انفرادي تحت الأرض، وبهذا فهو لم يشهد بعينيه الواقع الفلسطينيّ ما بعد أوسلو، ولكنّ أصداءه وصلت له، وقد سجّل في الرواية- التي نتوقّف عندها اليوم- رأيَه في هذا المنعطف الذي اتخذته القضية الفلسطينية بعد سنوات من اتفاقات أوسلو، إذ اعتبرها "سبعًا عجافًا"، وجعل نهاية عمله مفتوحة ليقول؛ إننا لسنا في نهاية المطاف، فهل نحن اليوم بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل أقرب إلى النهاية؟!
نتحدّث اليوم عن الأسير المقدسي محمود عيسى الذي يقبع في زنزانته المظلمة منذ العام 1993، وعن روايته "حكاية صابر" التي كتبها بعد سنوات من اعتقاله.
في عام 1998 اكتشفت سلطات الاحتلال أنه تمكّن من تشكيل مجموعة عسكرية في القدس، كان يرسل لها أوامره من داخل السجن، وأن هذه المجموعة قامت بقتل مستوطن، فأعيد مجددًا إلى العزل
ولكن قبل أن نتوقف عند "صابر" الذي تحكي عنه الحكاية، ينبغي أن نتوقف عند "صابر" الأول الذي كتبها وحملها صوته المكتوم، ورؤيته للحياة، وآماله في المستقبل. فالأسير محمود عيسى كان يومًا محور الأحداث وحديثَ نشرات الأخبار التي لم يسمعها الشباب، وسجل نشاطُه الذي قام به محطةً فارقة في تأسيس حركة حماس التي تقود النضال اليوم، وأدت العمليات التي أشرف عليها إلى تلك الخطوة غير المسبوقة من قبل إسرائيل بإبعاد نحو 415 قياديًا إسلاميًا فلسطينيًا إلى مرج الزهور في جنوب لبنان ليعيشوا عدّة سنوات دون بيت يقيهم حرًا أو زمهريرًا.
كان محمود عيسى موجعًا منذ يومه الأول. فقد كان من أوائل مؤسسي الجناح العسكري لحركة حماس، وكان موقعه وهو ابن القدس وساكنها حساسًا ومؤثرًا، وقد قام في بداية التسعينيات من القرن الماضي بتأسيس ما أسماه "الوحدة 101" في كتائب القسّام، والتي أخذت على عاتقها هدفًا محددًا هو تحرير الأسرى عبر أسر جنود صهاينة.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 1992 أسرَ عيسى ووحدته جنديًا صهيونيًا يدعَى نسيم توليدانو، واشترطوا لإطلاق سراحه أن تطلق إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين من سجونها، لكن سلطات الاحتلال رفضت، وكانت النتيجة قتل الجندي الأسير فيما اعتبرته إسرائيل أخطر عملية أسر في تاريخ الكيان الصهيونيّ.
إثر هذه العملية قامت إسرائيل- وقد جُنّ جنونها- بشنّ حملة شرسة ضد حركتي حماس والجهاد، واعتقلت الآلاف من الفلسطينيين، وأبعدت كما ذكرنا 415 من المجاهدين إلى مرج الزهور في جنوب لبنان.
بعد ستة أشهر من ذلك التاريخ تم اعتقال محمود عيسى في منتصف العام 1993، وتعرض لتعذيب بشع ومحاكمة انتهت بمعاقبته بثلاثة مؤبدات و49 سنة في السجن، ولأن سلطة الاحتلال صنّفته كواحد من أخطر الأسرى لديها، فقد وضعته في زنزانة عزل انفرادي تحت الأرض، على فترات متقطعة يبلغ مجموعها نحو 12 عامًا، واستغرق الأمر نحو 5 سنوات قبل أن تسمح بأوّل زيارة عائلية، وفي فترات أخرى من سجنه تشارك غرفة مع أسير "خطر" آخر هو الشيخ جمال أبو الهيجا الذي قاد عام 2002 معركة ملحمية للدفاع عن مخيم "جنين" في وجه الاحتلال الإسرائيلي، ولم يكن يسمح لأي من الرجلين برؤية أحد آخر.
والواقع أن محمود عيسى كان خطيرًا ومؤثرًا حتى من داخل سجنه، فعندما خرج من العزل، حفر مع زملائه نفقًا للهروب من السجن، ولكن الاحتلال اكتشفه قبل تنفيذ العملية، فأعيد للحبس الانفرادي وحكم عليه بستّ سنوات إضافية.
وفي عام 1998 اكتشفت سلطات الاحتلال أنه تمكّن من تشكيل مجموعة عسكرية في القدس، كان يرسل لها أوامره من داخل السجن، وأن هذه المجموعة قامت بقتل مستوطن، فأعيد مجددًا إلى العزل، وحين كانت تنقطع بهذا الأسير سبل الجهاد باليد، كان يلجأ إلى القلم، فألّف عدة كتب ما بين رواية وتنظير للحركة الإسلامية المقاومة، ومن أهمها كتابه: "المقاومة بين النظرية والتطبيق."
لهذا كله، كان طبيعيًا أن ترفض سلطات الاحتلال أن يتضمنه إطلاق السراح في صفقة شاليط، لكن ها هي حماس بإصرارها اليوم على أن صفقة "الكل مقابل الكل"، تحيي أملًا بإطلاق سراحه مع آخرين من الأبطال المنسيين.
حكاية صابر!
ماذا إذن عن حكاية صابر؟
هذه الرواية لا تعجز قارئها في البحث عن تفسير رموزها، فصابر الشاب الفقير اليتيم المولود يوم نكسة 1967 هو رمز للشعب الفلسطيني، وهو بارّ بأمّه رغم فقره في رمز للوفاء للأرض والوطن والقضية، أما الأمّ "فلسطين" فرغم حبها له، فإنها تقدمه للجهاد، وتعلمه أن "الشهادة" ستكون فوزًا يحققه إن لم يحقق النصر على الأرض، والشهيد يرث أرض الجنان.
التفاصيل التي ترويها القصة، تشبه يوميات الواقع الفلسطيني، فصابر يطرده الاحتلال من بيته وأرضه، فيصبح لاجئًا في مخيم، حيث تغلق أمامه أبواب الحياة والرزق، ما لم يفعل شيئًا ليتخلّص من المحتل الغاصب، ولكن الأحداث تسجل الحدث التاريخي الذي كان جديدًا في ذلك الوقت، فمن أعماق اليأس والاستسلام للهزيمة، ظهرت داخل الأراضي الفلسطينية مجموعات إسلامية شابّة، قادت انتفاضة في العام 1987، شارك فيها صابر وكثير من شباب جيله، وحين اعتقلوه تحدّى الجندي ورفض الانصياع للأمر بإغلاق فمه، بل وقاوم الجندي وغالبه وضربه عندما حاول الاعتداء عليه.
يتذكّر صابر وهو يعاني آلام الاعتداء عليه، المبادئ التي ربّته أمّه عليها، والشجاعة والمقاومة التي زرعتها فيه، فيشعر بسعادة، فقد علمته مبكرًا أنه ابن لشهيد، وأنه يجب أن يسير على درب أبيه، وأن المخيم ليس بيته، فبيته هناك "تحت الاحتلال" تحيطه أشجار تين وزيتون، ولوز، ورمان، وليمون.
ومع اندلاع الانتفاضة، تتبلور أكثر فأكثر أنشطة هذه المجموعات الإسلامية الشابة، فتتأسس حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ويجد صابر في أنشطتها نفسه وأحلامه، وعندما تنشط جماعة "أمناء جبل الهيكل" في محاولات للسيطرة على المسجد الأقصى واحتلاله، يجد نفسه هناك مقاومًا، وتختلط دماؤه بدماء شيخ على سلالم المسجد، في رمز واضح لاستمرار النضال.
يعتقل "صابر" ويعذب عدة مرات على يد الاحتلال الإسرائيلي فلا ينثني عزمه، وعندما تنشأ السلطة الفلسطينية في أعقاب اتفاق أوسلو الموقع في ديسمبر/كانون الأول 1993 (بعد اعتقال محمود عيسى بستة أشهر)، يكتشف صابر أن الليلة تشبه البارحة، وأنه لا يزال ينتظر زوّار الفجر ويعذب في السجون، ويسمي تلك السنوات السبع التي عاشها (لحين كتابة الرواية) "السبع العجاف"، ويقرّر أن يعطي ظهره لهذه التجربة مواصلًا طريق المقاومة الذي يراه السكة الوحيدة المؤدية إلى النصر.
تنتهي الرواية نهاية مفتوحة، وكأن الكاتب يقول "الأيام بيننا"، و"كل يعمل على شاكلته"، كما يكشف المشهد الأخير أن الشاب ورفاقه لا يلفتهم بريق زائف عن المسار الأصيل.
في ذلك المشهد يقول الكاتب:
عاد صابر ورفاقه إلى عرينهم، وواصلوا مسيرة الجهاد.
مرت بهم الأيام، وتقلبت عليهم الأحداث، وبقي "الهدهد" يغدو إليهم ويروح..
وجاءهم يومًا في "صرة" مبشرًا:
فازت حماس، اقترب النصر، هلت البشائر.
ثم ما لبث أن عاد قاطب الجبين، أطرق هنيهة، ثم تنهد وهز رأسه وقال:
أتظن "الغربيين" يتركون هذا الركب سائرًا؟ لا يا أخي، ستجد قبل ابن سلول ألف أبي لهب، يضعون الشوك ويقطعون الأواصر
إنه حقًا لنصر، لكن وحتى يكتمل، يجب أن يتبعه ألف نصر، وألف حقيقة، وألف فداء.
عندها فقط تهلّ البشائر بأنوارها، وزينتها وبهائها.
وعند ذلك، تعود القدس إلينا طاهرة مطهرة، تعود فلسطين، كل فلسطين إلينا. وعند ذلك ندحر الطامعين، أعداء الله والإنسان..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.