هل تهب رياح "الانقلابات" على السنغال؟
توصف السنغال الواقعة في أقصى غرب أفريقيا بأنّها واحةُ الديمقراطية في الإقليم، بل في القارّة أيضًا، لاعتبارَين أساسيَين: الأول يتعلق بعدم شهود البلاد أي انقلابات عسكرية منذ استقلالها عن فرنسا أوائل ستينيات القرن الماضي، والثاني شهودها عمليات تداول سلمي للسلطة، بل وهزيمة رئيسَين للبلاد أمام منافسيهما " الرئيس عبدو ضيوف أمام زعيم المعارضة عبد الله واد في انتخابات 2000، وهزيمة الأخير أمام الرئيس الحالي ماكي سال في انتخابات 2012. وطيلة هذه الفترة، لم يتم تأجيل الانتخابات، كما أنها كانت نزيهة إلى حد كبير.
هذا العرس الديمقراطي كان يتوقع له أن يتوج بالانتخابات الرئاسية التي كان يفترض أن تجرى في الخامس والعشرين من فبراير/ شباط الجاري، ولن يشارك فيها للمرة الأولى الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال الذي قام بتعديل الدستور في 2016، ليصبح من حق الرئيس تولي منصبه دورتَين متتاليتَين، مدة كل منهما 5 سنوات.
ورغم أن الرئيس أعلن في يوليو/ تموز الماضي، أنه لن يترشح لدورة ثالثة عكس سلفَيه: ضيوف، وواد، فإن قراره الأخير في الثالث من فبراير/ شباط بتأجيل الانتخابات – استجابةً لطعن كريم واد نجل الرئيس السابق عبدالله، ضد قرار استبعاده من الترشيحات التي أقرّها المجلس الدستوري المنوط به البتّ في ملفات المترشحين، وتشكيكه في نزاهة قاضيَين بالمجلس – أثار الكثير من الشكوك حول هذا القرار، لا سيما أن سال لم يحدد مدة زمنية لإجراء الانتخابات، كما أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها استبعاد كريم، حيث استبعد من الترشح في انتخابات 2019 ضد سال، نظرًا لكونه حاصلًا على الجنسية الفرنسية، ولم يتم تأجيل الانتخابات في حينها!
من الواضح أنّ سال قبِلَ على مضض، واستجاب لضغوط كل من الشارع، والمعارضة، في إعلان عدم الترشح لفترة رئاسية ثالثة. وبالتالي بات عليه التفكير في البدائل: هل سيترك الساحة كلية؟، أم سيبحث عن بديل له من الحزب الحاكم الذي يعاني حالة من الانقسام والتراجع السياسي
قرار غير دستوري
هذا القرار الذي أصدره سال، أصابه العوار الدستوري والقانوني من ناحيتين؛ الأولى: مخالفته صريحَ نصوص الدستور، لاسيما الفقرة (7) من المادة (103)، التي تشير إلى أنّ مدة الولاية الرئاسية لا يمكن تعديلها، والمادة (27)، التي تحدد مدة ولاية كل رئيس بفترتين فقط، مدة كل منهما 5 سنوات.
وبالتالي لا يجوز له تمديد ولايته التي يفترض أن تنتهي في 2 أبريل/ نيسان المقبل، كما أنه افتأت على سلطة المجلس الدستوري الذي يعدّ الجهة المنوط بها البتّ في اتخاذ مثل هذه القرارات، رغم أنه لجأ للمجلس عام 2016، لأخذ الرأي القانوني بشأن تقليص مدّة الرئاسة من 7 سنوات إلى 5 سنوات فقط، حيث رفض المجلس ذلك، واستمرّ سال في ولايته الأولى حتى عام 2019.
صحيح أنَّ من حق الرئيس طلب النظر في تعديل الدستور، وأخذ رأي البرلمان في ذلك، لكن لا بد أن يخضع الأمر للاستفتاء حال تعديل بعض بنود الدستور، أو أخذ رأي المجلس الدستوري حال وجود أي عارض بشأن إجراء الانتخابات في موعدها.
وربما هذا ما دفع المجلس إلى إصدار قراره الخميس 15 فبراير/ شباط ببطلان قرار كل من سال، والبرلمان الذي قام بتأجيل الانتخابات إلى ديسمبر/ كانون الأول المقبل، واستمرار حكم سال لحين إجرائها.
دوافع تأجيل الانتخابات
من الواضح أنّ سال قبِلَ على مضض، واستجاب لضغوط كل من الشارع، والمعارضة، في إعلان عدم الترشح لفترة رئاسية ثالثة. وبالتالي بات عليه التفكير في البدائل: هل سيترك الساحة كلية؟، أم سيبحث عن بديل له من الحزب الحاكم الذي يعاني حالة من الانقسام والتراجع السياسي في الانتخابات البرلمانية 2022، والبلدية 2023، حيث فقد الحزب الأغلبية المطلقة في البرلمان للمرّة الأولى وتراجع عدد مقاعده من 125 مقعدًا إلى 82 فقط من إجمالي 165 مقعدًا، كما خسر البلديات الرئيسية في البلاد؟
لقد أعلن سال تأييدَه لرئيس الحكومة أمادو باه، مرشحًا رئاسيًا للحزب الحاكم في الانتخابات القادمة رغم أنه لا يحظى بالكاريزما اللازمة لإدارة البلاد، فضلًا عن تراجع المؤشّرات الاقتصادية منذ تولّيه رئاسة الحكومة عام 2022.
فوفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، تراجع معدل نموّ الناتج المحلي الإجمالي للسنغال من 5.5% إلى 4.2 % عام 2022، كما ارتفع متوسط معدل التضخم بصورة كبيرة ليصل إلى 9.6 % عام 2022 مقارنة بـ 2.2 عام 2021.
ومع ذلك قد يكون اختياره أمادو، متعمّدًا، لكي يتمكن سال من التحكم في مقاليد الأمور من خلف الستار، ولنكون أمام تكرار لتجربة بوتين – ميدفيديف الروسية، ولكن على الطريقة السنغالية.
لكن من الواضح أن عملية تحسين الصورة الذهنية لأمادو تحتاج مزيدًا من الوقت في بلد مولع بالديمقراطية، ويرفض فكرة الالتفاف عليها، لا سيما أن إحدى الإشكاليات التي تواجه سال وأمادو هي العلاقة الوطيدة لهما بفرنسا، والتي تعاني من عزوف ورفض شعبي لها في غرب أفريقيا بصفة عامة، وفي السنغال بصفة خاصة.
بل إن فكرة إدارة الظهر لفرنسا، كانت إحدى الأوراق الرابحة لعثمان سونكو المرشح الرئاسي "المحبوس حاليًا" ورئيس حزب باستيف "المنحل" في انتخابات 2019، كما أنها إحدى الأوراق أيضًا بيد مساعده باسيرو ديوماي فاي "المرشح الرئاسي الحالي" والمحبوس أيضًا.
هذه التحديات لأمادو، لا تتوقف عند سونكو والتيار الرافض لفرنسا، بل تتمثل في وجود منافسين أقوياء آخرين؛ منهم خليفة سال عمدة العاصمة دكار السابق، والذي تم استبعاده من انتخابات 2019 بعد حبسه في قضايا فساد " ذات شبهة سياسية" لعدم منافسة سال الذي أصدر عفوًا رئاسيًا عنه بعد انتهاء الانتخابات بفترة وجيزة.
وبالتالي يقدم خليفة نفسه على أنه أحد ضحايا التهميش والإقصاء في عهد سال، كما يحظى بدعم الحزب الاشتراكي الذي حكم البلاد طيلة 40 عامًا من خلال الرئيسين: ليوبولد سنغور، وعبدو ضيوف.
مَن المستفيد من تأجيل الانتخابات؟
وإذا كان سال قد يستفيد من التأجيل، لتهيئة الظروف لأمادو باه، فإن هناك مستفيدًا آخر من هذا التأجيل " ربما عن قصد منه أو لا " هو كريم واد الذي تنازل عن جنسيته الفرنسية أوائل هذا العام، كما أنه صاحب الطعن الشهير في قاضيَي المجلس الدستوري، وصاحب الدعم لقرار الرئيس في البرلمان الذي وافق على قرار إرجاء الانتخابات، على أن تجرى في ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
وربما هنا تبرز المفارقة من هذا التقارب بين سال وكريم، رغم استبعاده لكريم قبل الانتخابات البرلمانية في 2016، وكذلك الرئاسية في 2019. وهل يمكن أن يكون لفرنسا دورٌ في هذا التقارب بعد تراجع نفوذها في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وبالتالي لا تريد أن تخسر دكار العاصمة الأساسية لهيمنتها في المنطقة، والتي تحتضن البنك المركزي لغرب أفريقيا؟، وهل يمكن أن يكون كريم هو الرئيس القادم للبلاد بمباركة من كل من سال وفرنسا؟
قد يكون هذا الأمر واردًا لولا قرار المجلس الدستوري الذي يؤكد استبعاد واد من الترشح.
سال الرئيس القادم أم العسكر؟
لكن بفرض عدم وجود مثل هذا التفاهم بين سال وكريم، فإن هناك الاحتمال الأخطر، وهو أن يكون سال نفسه الرئيس القادم بالقوة الفعلية، مستغلًا حالة الفوضى التي تعتري البلاد منذ عام 2021، وحتى الصيف الماضي، والتي راح ضحيتها قرابة 60 شخصًا؛ بسبب المظاهرات التي يقودها أنصار عثمان سونكو بعد "تلفيق" تهم له وإيداعه السجن.
ولعله ألمح إلى هذا الاحتمال في مقابلة مع مجلة "جون أفريك الفرنسية " في يونيو/ حزيران الماضي، بقوله: " فقط التهديد الخطير بزعزعة استقرار البلاد، خاصة بسبب صعود التطرف الديني، يمكن أن يجعلني أغير رأيي [حول الولاية الثالثة]".
صحيح أن الرجل أعلن بعدها بوقت قليل، عدم ترشحه للرئاسة، لكن يبقى ذلك معلقًا بحدوث حالة من الاستقرار من وجهة نظره. وإن كان قرار المجلس الدستوري يضعه في موقف حرج، خاصة أنه يصبّ في صالح مرشحي المعارضة، ومنظمات المجتمع المدني القوية في البلاد.
وهنا يدور السؤال عن موقف المؤسسة العسكرية، وهل يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا "الانقلاب الدستوري المحتمل" من قبل الرئيس؟، أم أنها قد تتدخل لإجباره على الالتزام بالدستور وتنفيذ قرار المجلس الدستوري وإجراء الانتخابات في موعدها أو تأجيلها لفترة وجيزة فقط لإعطاء الفرصة للمرشحين للقيام بحملاتهم الانتخابية، لاسيما في ظل الثقة الكبيرة التي تحظى بها لدى الشعب "85%" من السنغاليين الذين يقولون؛ إنهم يثقون بالجيش، وهي من بين أعلى المعدلات في القارة"؟، أم وهذا هو الأخطر، قد تتولّى زمام الأمور لفترة تطول أم تقصر، لحين استتباب الأوضاع، وإجراء الانتخابات؟
إنّ تاريخ المؤسسة العسكرية يشير إلى أنها تلتزم الحياد وعدم التدخل في السياسة، وأن دورها هو مواجهة العدوان الخارجي فقط، وتحقيق الانضباط الداخلي" الردع " دون القيام بعملية القمع لصالح النظام، ولا أدلّ على ذلك من رفض الجنرال تافاريز دا سوزا عام 1988 الاستجابة لطلب الرئيس عبدو ضيوف بقمع المظاهرات التي خرجت ضده، وقد اتُهم الجنرال حينها بمحاولة تنظيم انقلاب ضد النظام وأُحيل إلى التقاعد المبكر.
وفي الأحداث الأخيرة التي شهدتها البلاد بين مارس/ آذار 2021 ويونيو/حزيران 2023، وفي ذروة المظاهرات المرتبطة باعتقال عثمان سونكو وإدانته لاحقًا، انتشر الجيش في الشوارع؛ فقط للردع.
لكن ومع ذلك، قد تثير الانقلابات – التي شهدها العديد من دول غرب أفريقيا: " مالي، بوركينا فاسو والنيجر، بما فيها دول الجوار: " موريتانيا، غامبيا، غينيا بيساو، مالي، غينيا " – حفيظة الجيش للتدخل بدعوى الحفاظ على الأمن والاستقرار، ولتخرج البلاد من محيط دائرة الانقلابات " العسكرية"، لتصبح في القلب منها!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.