مستقبل الحرب الباردة العالمية الثانية
يفترض بالصراع العالمي بين أميركا وحلفائها من جهة، وبين الصين وروسيا وعدد من دول العالم من جهة أخرى، دخوله منذ عشر سنوات، أو خمس عشرة سنة في حرب باردة، أو قل في "الحرب الباردة العالمية الثانية". وذلك بعد أن حُسمت الحرب الباردة العالمية الأولى التي اندلعت بعد أوائل خمسينيات القرن العشرين، ما بين أميركا وحلفائها من جهة، وبين الاتحاد السوفياتي و"المعسكر" الاشتراكي من جهة أخرى.
لقد كان متوقعًا في الحرب الباردة العالمية الأولى، أن تنتهي بحرب عالمية ثالثة ليُقرّر مصير العالم، كما تقرر بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن الفناء النووي الشامل حال دون ذلك، الأمر الذي جعل سمتها سباقًا مجنونًا لامتلاك السلاح النووي، وأمثاله من أسلحة التدمير الشامل، ثم انتقال السباق، كما فرضته أميركا، إلى ما عُرف تحت عنوان: "حرب النجوم"، أي امتلاك الصواريخ المضادة للصواريخ النووية، مما يحقق تفوقًا حاسمًا.
يعزو البعض خطأ الاتحاد السوفياتي إلى انجرافه في السباق ضمن إستراتيجية "حرب النجوم"، التي تكلف من الأموال والتحضير ما لا تستطيعه الإمكانات السوفياتية، بالمقارنة مع ما تمتلكه أميركا من إمكانات مالية وقدرات تقنية.
كان هذا الخطأ قابلًا للتكرار مع بوادر عودة روسيا في عهد بوتين كدولة نووية كبرى (2000-2010)، تعادل القوة التدميرية النووية الأميركية من حيث إمكان القضاء على الكرة الأرضية ولو لمرة واحدة، بينما قدرة أميركا على تدمير الكرة الأرضية تتعدى أربع أو خمس مرات (لا فرق طبعًا).
أشار بوتين إلى أنه في غير حاجة إلى تكرار خطأ الاتحاد السوفياتي، من خلال القدرة على إنتاج قنابل وصواريخ نووية، أكثر مما تستطيع "حرب النجوم" امتلاكه من صواريخ مضادة، أو ما يُعرف بـ "القبة الحديدية".
كما تمكن من إنتاج صواريخ مضادة، مما يبقي إمكان ضرب الخصم متاحًا. فالإنتاج بهذه الحالة لا يحتاج إلى المصاريف التي تتطلبها المنافسة في "حرب النجوم"، وهناك إمكانية للإنتاج المضاعف وبأقل التكاليف: (الإنتاج الكثيف، أو بالجملة).
الأمر الذي يعني أن الحرب الباردة العالمية الثانية التي يواجهها العالم اليوم، لها سمات مختلفة عن سابقتها من عدة أوجه ونواحٍ.
أولًا: من ناحية أميركا وحلفائها الغربيين أساسًا (أوروبا)، لا تغيير بالمقارنة بأميركا وحلفائها في الحرب الباردة العالمية الأولى. وكان الانتصار من جانبها انتصارًا مدوّيًا، وقد اعتبره البعض "نهاية التاريخ" (ف. فوكوياما)، بمعنى حسم التاريخ لصالح السيطرة الغربية على العالم.
أما إذا اختلف شيء بالنسبة إلى أميركا والغرب، فله علاقة بالشيخوخة، أو ما وقع من هزائم بها، كفيتنام مثلًا في الحرب الباردة السابقة، أو من متغيرات دولية إسلامية وعالم ثالثية.
ثانيًا: الدولة الخصم رقم 1 في الحرب الباردة العالمية الثانية هي الصين، بما أحدثته من تطور اقتصادي وتقني وعسكري، تجاوز الهوة التي كانت قائمة بين أميركا والغرب من جهة، وبين الاتحاد السوفياتي الذي بقي متخلفًا اقتصاديًا وماليًا وتقنيًا.
فالصين الآن في موضع الحلول مكان أميركا كدولة كبرى رقم 1 من كل النواحي، عدا النفوذ السياسي و"الثقافي الحداثي". لكنها تمتلك منهجًا وقدرات متفوقة في إدارة الصراع، وقد أسقطت من البداية، عكس الاتحاد السوفياتي، الصراع الأيديولوجي بين ما عُرف بالرأسمالية والحرية الفردية والديمقراطية، وما عُرف بالاشتراكية والشيوعية.
ثالثًا: أميركا فقدت سلاحها الأيديولوجي، ولم يعد النظام الاقتصادي موضوعًا للصراع. سلاح الصين الأيديولوجي لا علاقة له بالرأسمالية أو العدالة الاجتماعية، وإنما بنظام عالمي يحترم القانون الدولي، ويساوي بين الأقطاب الدوليين، ومرجعيته ميثاق هيئة الأمم، مع احترام مصالح الشعوب التي تقرر خياراتها وتحدد نوع أنظمتها. وهذا يناقض الأحادية القطبية، وهيمنة أميركا والغرب على النظام العالمي.
فمن هذه الزاوية، تعتبر الأهداف الصينية (والروسية) أقوى سياسيًا وأيديولوجيًا، وأكثر استجابة لمصالح شعوب العالم، وإن كان التركيز على تعدد القطبية. وهذا يتضمن مراعاة لمصلحة الكبار على مصلحة مجموع شعوب العالم، لكن بالطبع، يظل أخف وطأة من الأحادية القطبية، والسيطرة الغربية.
رابعًا: ثمة معضلة أخذت تبرز وتتفاقم بالنسبة إلى أميركا في حربها الباردة مع الصين وروسيا، بالخصوص، وهي معضلة لا يُشار إليها؛ لأنها تتعلق بما تحاول الصهيونية الأميركية وحكومات الكيان الصهيوني فرضه كأولوية للسياسة الأميركية. وخلاصتها إعطاء الأولوية للشرق الأوسط بما يحقق سيطرة الكيان الصهيوني عليه، أم للصراع مع الصين وروسيا، فتخضع السياسات الأخرى لها؟
وذلك كما مورس في عهدي بيل كلينتون وجورج دبليو بوش، وصولًا إلى عهد بايدن، باستثناء مرحلة أوباما الذي دعا إلى تغليب الصراع مع الصين وإعطائه الأولوية في السياسات الأميركية.
هذه المعضلة حين حُلت لصالح إعطاء الأولوية في الإستراتيجية الأميركية الدولية تحت شعار إعادة تشكيل "الشرق الأوسط" بإخضاعه لإستراتيجية الكيان الصهيوني (1992-2010)، وذلك تحت حجة السيطرة التامة على البلدان العربية والإسلامية (إيران وتركيا)، ثم الانتقال إلى إعطاء الأولوية للصين.
وقد أدت تجربة كلينتون في التسعينيات وتجربة جورج دبليو بوش في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين إلى فشلهما في إعادة بناء "الشرق الأوسط"، كما أديا إلى الغفلة عن الصين وروسيا، فضلًا عن التطور الهائل في هاتين الدولتين، مما جعل أميركا على مستوى الصراع الدولي في حالة تراجع واختلال ميزان القوى في مواجهة كل من الصين وروسيا.
وهو ما تكرر بشكل فاضح مع جو بايدن خلال السنة الممتدة من 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 (سنة وشهر)، حين أعطيت الأولوية لإنقاذ نتنياهو من الهزيمة من خلال استمرار الحرب. فكانت النتيجة فشلًا عسكريًا وعزلة دولية، وتناقضًا داخليًا حادًا في التنافس الرئاسي الأميركي. أما الصين فقد راحت تنحو جانبًا، وهي تنظر إلى تورّط أميركا.
هذه المعضلة في تحديد الأولوية في الإستراتيجية الأميركية ستشكل، مستقبلًا، عاملًا مهمًا في خسارة أميركا الحربَ الباردة الثانية، وذلك على الضدّ مما حدث في الحرب الباردة العالمية السابقة، التي حافظت فيها على أولوية الصراع الدولي مع الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية، ولم تتأرجح بينه وبين أي أولوية أخرى. وذلك بتحديد أين الخطر الحقيقي والأشد الذي يواجه أميركا ويتهدد سيطرتها وسيطرة الغرب عمومًا بالسقوط.
فما يُسمّى "الشرق الأوسط"، على أهميته، لا يحظى بالأولوية عند احتساب صراع القوى الكبرى في السيطرة العالمية. فكيف حين يُعطى الأولوية، وينتهي بالفشل أيضًا؟
هنا يجب على أميركا والغرب أن يلحظا خسرانهما ادعاء الديمقراطية وحقوق الإنسان، مقابل "الشمولية"، بعد إمدادهما بالدعم العسكري حربَ الإبادة في قطاع غزة. الأمر الذي سيكون له تأثيره فيمن يتغلب على الآخر في الحرب الباردة العالمية الثانية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.