تونس في "إجازة"
في مثل هذا التوقيت من كل عام (شهر نوفمبر/ تشرين الثاني)، كانت الطبقة السياسية في تونس، في الحكم كما في المعارضة، تتهيّأ لما يسمونه جميعًا بـ"السنة السياسية الجديدة"، من خلال بيانات وفعاليات سياسية، ومناكفات بين السلطة والأحزاب المعارضة، تتخذ من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية "مادّة" للفعل السياسي.
ويضع كل طرف بموجب ذلك أجندته، ويعلن عن برنامجه لسنة كاملة، تزامنًا مع عودة الموظفين إلى عملهم بعد العطلة الصيفية، واستئناف تلاميذ المدارس والمعاهد وطلبة الجامعات دراساتهم في كامل ربوع البلاد، إلى جانب عودة مجلس نواب الشعب (البرلمان) لاجتماعاته وجلساته العامة؛ لمناقشة ما استجدّ من قوانين مقترحة من قبل الحكومة.
كانت كلّ "الأجسام" الحزبية والجمعياتية والنقابية، إلى جانب الشخصيات الحقوقية، تعلن عن مشاريعها، كلّ من موقعه، وانطلاقًا من أجندته وطبيعة علاقته بالمشهد السياسي وتحالفاته مع هذا الطرف أو ذاك.
واستمرّ هذا الوضع بعد الثورة التونسية (أي منذ يناير/ كانون الثاني 2011)، بوتيرة متسارعة وضاغطة، على خلفية التجاذبات السياسية التي كانت قائمة بين الحكومة والمعارضة، أو فيما بين أحزاب اليمين واليسار.
كان هذا التوقيت من كل عام مناسبة للتقييم السياسي والحقوقي، ومحاولة ضبط بوصلة جديدة للوضع، تطرح الحكومة من خلالها مشاريعها وإستراتيجيتها، وتعرض أحزاب المعارضة استحقاقات المرحلة، رافعة سقف مطالبها، ومساحات المناورة، وأفق تحركاتها وعلاقتها بالحكم. فيما تتحرك المنظمات الحقوقية للإعلان عن مجالات اهتمامها، سواء تعلق الأمر بتعديل قوانين أو النضال من أجل استصدار أخرى جديدة.
في خبر كان
لكن، منذ أكثر من 4 سنوات، باتت السنة السياسية "في خبر كان"، كما يقال، ولم يعد أحد يطرح هذا الموضوع إطلاقًا، إلا من باب الذكرى، وفي سياق الحسرة على ما يحصل في البلاد.
فقد وضع "انقلاب يوليو/ تموز 2021″، الذي قاده الرئيس الحالي قيس سعيّد، حدًّا لهذا الحراك السياسي والاجتماعي التقليدي في البلاد. وباتت تونس كما لو أنها في "إجازة". فلا السلطة تعلن عن إستراتيجيتها بشكل مفصّل ودقيق ومنهجي، ولا المعارضة والمجتمع المدني حافظوا على هذا التقليد.
بل إن هؤلاء انسحبوا من المشهد تمامًا، واكتفى بعضهم بإصدار بعض البيانات اليتيمة التي لا تتجاوز سقف تسجيل موقف بشكل باهت، وفي أحيان كثيرة بصورة باردة، تجترّ مقولات قديمة، وتعيد إنتاج خطاب لم يعد يقنع حتى المنتسبين لهذه الفعاليات، فضلًا عن استقطاب مواطنين أو "نشطاء" جدد.
موت السياسة.. موت الأحزاب
البعض تحدّث عن "موت السياسة" في تونس، والبعض الآخر أعلن عن "موت الأحزاب"، فيما قدّر آخرون أنّ جميع "الأجسام" السياسية والاجتماعية والحقوقية قد باتت "في وضع سجني واسع"، على حدّ وصفهم، في إشارة إلى حالة التضييق والتخويف التي تمارسها السلطة، والزجّ بالجميع – سياسيين ونقابيين وصحفيين ومدونين ورجال أعمال – في السجون. حتى قال بعضهم، إنّ الخبر الغالب في الإعلام التونسي اليوم هو إيقاف فلان أو إصدار بطاقة إيداع بشأن علّان.
وهكذا، تراجعت الأحزاب وشخوصها التي كانت تعبّر عن مواقفها بأصوات مرتفعة وبنبرة حادّة أحيانًا. وتوقفت أنشطتها، التي كانت أكثر كثافة من إنتاج الفوسفات، كما قال أحدهم ساخرًا. وبات المرء يقرأ – بالكاد – بيانًا لهذا الحزب أو ذاك، بعد أن كانت البيانات تصدر بوتيرة مكثفة قد تجعلك في حيرة من أمرك بمن تبدأ، ومتى تنتهي من قراءتها.
انحسرت تحركات الأحزاب في بعض المكونات القليلة: (جبهة الخلاص، وحزب العمال، وائتلاف الأحزاب الديمقراطية)، بعد أن كان المشهد السياسي "يغلي" حزبيًا. حتى بلغ عدد الأحزاب المعترف بها من قبل الدولة ما يزيد عن 250 حزبًا، بينها حوالي 20 حزبًا – على الأكثر – تتحرك في الساحة السياسية بأشكال مختلفة، ويحتضنها الإعلام للتعبير عن مواقفها ومقارباتها.
لم تعرف الساحة السياسية التونسية برودًا على النحو الذي يلاحظه المرء اليوم. حتى الأحزاب التي لديها قيادات في السجون، متهمة بـ"التآمر على أمن الدولة" أو بالتورط في "الإدارة السيئة" لملفات الدولة عندما كانت في الحكم، وفق زعم الجهات الحاكمة؛ حتى هذه الأحزاب، لم تتحرك لنجدة قياداتها. وهي تكتفي ببعض الوقفات الاحتجاجية المحدودة من حيث الحضور والمشاركة، أو بإصدار بيانات لا يتعدّى المطلعون عليها بضع مئات من الفاعلين والنشطاء السياسيين.
أما عن حراك "التحالفات الحزبية"، الذي كان يؤثث المشهد السياسي بين اليمين واليسار، أو بين اليمين ومنظومة ما قبل الثورة، فذلك بات من التاريخ، ولم يعد المرء يلحظ هذا الحراك أصلًا. فقد انفضّ الجميع من حول الجميع، في مشهد يطرح أكثر من سؤال واستفهام.
فهل تاهت الأحزاب وسط هيمنة السلطة والخشية من الملاحقات القضائية لسبب أو من دون سبب؟ هل المشكلة في "قمع النظام" و"استبداده"، كما يقول المعارضون لسلطة الرئيس قيس سعيّد، أم في تورّط هذه الأحزاب فعلًا في "المال السياسي" و"التمويل الأجنبي" والفساد في الحكم، كما يزعم نظام ما بعد 25 يوليو/ تموز 2021؟
ثمّ لماذا تصمت أحزاب المعارضة اليوم (إذا استثنينا قلة محدودة جدًا)، في وقت تبدو مطالبة بالتحرك من أجل استعادة الديمقراطية والحريات التي عاش التونسيون على وقعها طيلة عشرية كاملة (2011 – 2021)، كما تقول وتصرّح قيادات المعارضة ذاتها؟
ومع أنّ هذه الأسئلة مشروعة ومهمة لفهم أسباب صمت الأحزاب وخفوت صوتها وتراجع حضورها، إلا أنّ المعضلة أشدّ وأكبر من ذلك. إذ ليست الأحزاب وحدها المعنية بهذه التساؤلات، فهناك "أجسام" أخرى لا تقلّ أهمية وتأثيرًا في المشهد السياسي العام بالبلاد ينسحب عليها ما يقال بشأن الأحزاب.
المنظمة النقابية.. مشكلة أم حلّ؟
فالنقابات، على اختلاف توجهاتها وأسمائها وثقلها الجماهيري، بلعت ألسنتها، والتحقت بصنف "المراقبين". تتابع الوضع مجرد متابعة، كما لو أنها تجلس على الربوة أو في مدارج أحد الملاعب التي تحتضن مباراة باردة في كرة القدم، لا رهان فيها إطلاقًا.
بل إنّ الأمين العام لأكبر منظمة نقابية في البلاد (الاتحاد العام التونسي للشغل) أدلى بتصريح يعبّر بوضوح عن حالة الخوف والتخبط والتيه التي تعيشها المنظمة بعد 4 سنوات من "الانقلاب".
فقد صرح نور الدين الطبوبي مؤخرًا قائلًا: "نحن لسنا حزبًا سياسيًا، إننا منظمة مستقلة، ولسنا في صراع مع السلطة"، وهو ما تسبب له في موجة نقد واسعة ولاذعة وساخرة في آنٍ معًا، من نشطاء سياسيين ومن الرأي العام المجتمعي، لا بل من نقابيين ينتمون لذات المنظمة النقابية.
كانت قيادة اتحاد الشغل، منذ الثورة إلى حدود "انقلاب يوليو/ تموز 2021″، تعتبر نفسها معنية بالشأن السياسي، وتدخلت لإسقاط حكومات، والمشاركة في حكومات أخرى، ووضعت أيديها في "عجين" المعارضة ضدّ الحكومات المتعاقبة.
كما نشّطت "ماكينة" الإضرابات والاحتجاجات بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد، بلغت، وفق إحصائيات منظمة العمل الدولية، زهاء 34 ألف إضراب واحتجاج في غضون أكثر من عامين.
بل إنّ هذه المنظمة، لعبت أدوارًا سياسية لافتة، لإسقاط فصيل سياسي (حركة النهضة)، الذي كان جزءًا من منظومة الحكم بعد الثورة، وهو ما صرّح به الأمين العام السابق للاتحاد، حسين العباسي (وأورده في مذكراته الصادرة مؤخرًا)، عندما أكد أنّ الاتحاد، "فعل المستحيل لكي لا تنجح حكومة النهضة، ودفعنا باتجاه خروجها من الحكم"، وعندما سئل عن الآليات التي استخدمت لهذا الأمر، أشار إلى الإضرابات والاحتجاجات، والتحالف مع من أسماهم بـ "القوى التقدمية والديمقراطية" في البلاد.
فلماذا يتراجع الاتحاد النقابي اليوم؟ ولماذا يتخلى عن مقولات كانت تمثل "الكيمياء" الأساسية لخطابه وتحركاته خلال السنوات الماضية؟ ولماذا بات يستنكف من الحديث عن "تلازم الاجتماعي (النقابي) والسياسي" في مهمته ودوره، تاريخيًا وحاضرًا؟
ملفات الفساد
لقد بات ملف الفساد صلب المنظمة النقابية، والمطروح على مكتب رئيس الجمهورية، كما يتردد، أحد المعوّقات التي دفعت النقابيين إلى النكوص عن أدوارهم "الثورية"، كما يصفونها، والتي نذروا أنفسهم وهياكلهم، للقيام بها خلال العشرية الماضية، فيما قيادتهم تتحرك اليوم، و"يداها على قلبها"، خشية أن يطالها سيف القضاء المسلول، برغم كل الانتقادات الموجهة للمرفق القضائي.
ولم يشفع للمنظمة النقابية، تبريرها لـ "انقلاب" قيس سعيّد، على البرلمان ودستور العام 2014، وعلى الانتقال الديمقراطي، ولم يشفع لها صمتها إزاء الانتهاكات الحقوقية الجارية حاليًا في البلاد، وفق ما يقول محامون مباشرون للقضايا السياسية المنشورة في المحاكم، أو ما تتحدث عنه منظمات حقوقية، وتحذّر من استمراره.
لقد ساهم اتحاد الشغل، في إطالة عمر "الإجازة" في تونس، بمواقفه وطريقة تعاطيه مع الوضع، وأسلوب تعامله مع السلطة، وغياب التنسيق مع أحزاب ومكونات سياسية، كانت بالأمس القريب، أدواته، ولاعبيه الأساسيين في المشهد.
الحقوقيون وأصحاب "الزي الأسود"
لكن ليس اتحاد الشغل وحده من يساهم في إطالة "الإجازة" هذه، إذ يشمل الأمر، منظمات حقوقية عديدة، بينها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ومنظمة "النساء الديمقراطيات"، و"أصحاب الزيّ الأسود"(نقابة المحامين)، إلى جانب هيئات حقوقية أخرى عديدة، تنتمي لمنظمات المجتمع المدني، وكانت لاعبًا أساسيًا زمن استبداد بن علي، وخلال سنوات ما بعد الثورة التونسية..
إنّ مختلف هذه المكونات، التي صفقت لما حصل يوم 25 يوليو/ تموز 2021، ممنّية النفس بأدوار جديدة في المشهد السياسي المستجدّ، وجدت نفسها على هامش الأحداث، بعد أن أعلنت مساندتها لما حصل، وهي تجد نفسها اليوم فاقدة لأي مصداقية حقوقية، بعد أن تعاملت مع عديد الملفات والأوضاع والتطورات، بـ "عقل أيديولوجي"، كما يقول بعض الملاحظين، فخسرت مصداقيتها، وافتقدت احترام المنشط السياسي والمجتمعي.
وعلى الرغم من أنّ جلّها، عقد مؤتمراته لتغيير بعض الوجوه، والإيهام بوجود تغيير حقيقي مرتقب، فإنّ دار لقمان، ظلّت على حالها في مستوى الموقف والتقدير والمعالجة.
واليوم، وبعد بضع سنوات من تعطيل "الانتقال الديمقراطي"، وتحوّل تونس إلى ما يشبه "روضة أطفال" سياسيًا، تبدو البلاد في وضع من يتمتّع بـ "إجازة قسرية"، مثل بعض الإجازات الوظيفية، التي تفرض قسرًا على بعض الموظفين، ويضطرون إليها اضطرارًا.
تونس منذ بضع سنوات، في "إجازة اضطرارية"، الجميع فيها معطّل، من هو ضدّ "الانقلاب"ّ، ومن صفقوا وبرروا لخياراته.. من هم في المعارضة، بضعفها ووهنها، ومن هم في الحكومة.. الجميع عاجز عن تغيير أوضاع معقدة، لأنّ ميكانيزمات المرحلة، بدورها، في "إجازة"، ويتمنى المرء ألا تطول، لأنها ستكون بكلفة باهظة على الجميع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.