الضحية التي تعشق جلادها
عقدة ستوكهولم ليست مجرد ظاهرة نفسية فردية، بل يمكن استخدامها مجازيًا لفهم العلاقة المعقدة بين الشعوب العربية وأنظمتها القمعية. في هذا التحليل، سنتناول الأسباب التاريخية والاجتماعية التي أدت إلى ظهور هذه العقدة وتأثيراتها على الشعوب العربية. سنستعرض أيضًا بعض الأمثلة من الأنظمة القمعية في العالم لفهم أعمق لهذه الظاهرة.
تُعرّف عقدة ستوكهولم (أو متلازمة ستوكهولم) بأنها تلك الظاهرة النفسية التي تحدث عندما يتعاطف الضحية مع المعتدي. في السياق العربي، يمكننا إسقاط هذا المفهوم على العلاقة بين الشعب والنظام الحاكم.
فبالرغم من القمع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تمارسه الأنظمة في العديد من الدول العربية، يظل الشعب متعاطفًا مع تلك الأنظمة أو حتى مدافعًا عنها. هذا التعاطف ينبع من عدة عوامل، منها الخوف من المجهول، والفوضى التي قد تلي سقوط النظام، وكذلك القناعة بأن القمع يضمن الاستقرار والأمان في ظل غياب عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع يضمن ذلك.
أحد الأسباب التي تفسر هذه العقدة في السياق العربي هو التاريخ السياسي للشعوب العربية. فقد مرت بفترات طويلة من الاستعمار والحكم الاستبدادي، مما ساهم في تجذر هذه العقدة. على سبيل المثال، عانت الجزائر من الاستعمار الفرنسي لأكثر من 132 عامًا، وهو ما خلّف ندوبًا نفسية واجتماعية عمّقت الشعور بالعجز والخضوع. وبعد الاستقلال، تسلّمت العديد من الأنظمة المحلية زمام السلطة، لكنها احتفظت بأساليب القمع والدكتاتورية، مما جعل العلاقة بين السلطة والشعب تتخذ نمطًا مستمرًا من التبعية والخضوع.
في ظل هذه الأنظمة، يُستخدم الإعلام كأداة للتحكم في الوعي الجماعي، وتوجيه الرأي العام بما يبرر أفعالها ويخدم مصالح النظام. في العديد من الدول العربية، تفرض الأنظمة رقابة صارمة على وسائل الإعلام وتستخدمها لبث الخوف في نفوس المواطنين، وتحريف الحقائق، وتصوير القادة على أنهم "الأبطال" الذين يحافظون على استقرار البلاد، بينما تُعرض المعارضة على أنها تهديد للوحدة الوطنية.
هذا التوجيه الإعلامي يعزز من مشاعر الخوف لدى الشعوب، ويجعلها ترى في القمع ضرورة لضمان استمرارية الاستقرار.
إلى جانب السيطرة على الإعلام، تحتكر الأنظمة القمعية الموارد الاقتصادية، وتربط استقرار الحياة اليومية للأفراد بالتبعية لها. يحصل المواطن على فرص عمل أو امتيازات مالية وخدمات اجتماعية فقط إذا كان مواليًا للنظام، ويخلق هذا نوعًا من الاعتماد المادي على النظام، بحيث يصبح الحفاظ على الوضع القائم ضروريًا لاستمرار حياته الاقتصادية.
أحد الدوافع الرئيسية التي تكرس عقدة ستوكهولم هو الخوف من الفوضى والمجهول. في العديد من الدول العربية، يصور النظام الحركات الثورية أو الإصلاحية – على السواء – على أنها غير قادرة على تقديم بديل مستقر، وتتخوف الشعوب من أن تؤدي محاولة تغيير النظام أو الأوضاع القائمة إلى الانزلاق إلى حروب أهلية، أو تدخلات خارجية، كما حدث في العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن.
هذا الخوف يجعل الشعوب تتردد في المطالبة بالتغيير، وتفضل التعايش مع القمع على مواجهة مستقبل غير مستقر.
تشبه هذه الظاهرة ما يحدث في بعض الأنظمة القمعية الأخرى حول العالم، مثل كوريا الشمالية. فهناك، يعيش الشعب تحت سيطرة كاملة من قبل الدولة، وتستخدم وسائل الإعلام للدعاية المستمرة للزعيم. ويعيش الشعب في عزلة عن العالم الخارجي، مما يؤدي إلى تعميق شعور الاعتماد على الدولة والخوف من التغيير.
ورغم المعاناة اليومية التي يعيشها المواطنون، فإن الكثير منهم يعبرون عن تعاطفهم مع الحكومة التي تسيطر على كافة جوانب حياتهم. ورغم أن وسائل الإعلام التابعة لمراكز القرار الرأسمالي الغربي تلعب دورًا في تقديم صورة بشعة ومشوهة عن النظام في بيونغ يانغ، فإن تحول النظام إلى شكل من الأنظمة الوراثية ومركزية شخص الحاكم في القرار السياسي والاستسلام له يظهر جانبًا من الطبيعة الشمولية لمثل هذا النظام الذي يجعل الشعب يعيش إزاءه عقدة ستوكهولم.
مثال آخر يمكن الاستشهاد به هو النظام السوفياتي السابق، حيث كان يتم قمع المعارضة بوحشية، وكانت الدولة تتحكم في الإعلام والاقتصاد. وكان المواطنون الذين عاشوا في تلك الفترة يرون في الدولة الحامي الوحيد من التهديدات الخارجية، مثل الإمبريالية الغربية. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عانت بعض المجتمعات من فوضى اقتصادية وسياسية، مما دفع بعض الأفراد إلى الحنين إلى تلك الحقبة، رغم قمعها.
تأثيرات عقدة ستوكهولم على المجتمعات العربية تتجلى في عدة مظاهر:
- أولها التسليم والخضوع للواقع القمعي، إذ حين تعيش الشعوب تحت القمع لفترات طويلة، فإنها تعتاد على العيش في ظل القهر، وتضعف قدرتها على التفكير النقدي أو السعي للتغيير. ويصبح القبول بالواقع القمعي هو الخيار الوحيد المتاح.
- وثانيها هو ما تؤدي إليه من تفكك اجتماعي وسياسي، فالمجتمع معها ينقسم إلى مؤيدين للنظام يرون في القمع وسيلة للحفاظ على الأمن، ومعارضين يسعون للتغيير بأي ثمن. ويؤدي هذا إلى تعميق التوترات والانقسامات داخل المجتمع، ويزيد من حدة الصراعات الداخلية.
- وثالثها: أنها تعزز بقاء النظام القمعي، إذ عندما يتعاطف الشعب مع ذلك النظام، يصبح من الصعب تحقيق التغيير. تفشل الحركات الإصلاحية أو الثورية في جذب الدعم الشعبي الواسع، مما يتيح للنظام فرصة البقاء واللعب على التناقضات المجتمعية.
لكن، كسر هذه العقدة ليس مستحيلًا. التعليم والتوعية هما المفتاح الأساسي لتحرير الأفراد من تأثيرات عقدة ستوكهولم. يجب تعزيز الفكر النقدي وتعليم الأفراد حقوقهم المدنية والسياسية، كما ينبغي على المؤسسات التعليمية أن تسعى لبناء جيل جديد يفهم أهمية الحرية والديمقراطية في الحياة الاجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دورًا حيويًا في تغيير العقليات المجتمعية، فمنظمات حقوق الإنسان والأحزاب السياسية المستقلة والجمعيات الأهلية، يمكن أن تساهم في نشر الوعي والمطالبة بالتغيير.
وللتغلب على الخوف من التغيير والفوضى، يجب أن تنظر المجتمعات إلى تجارب دول أخرى نجحت في الانتقال من الأنظمة القمعية إلى الديمقراطية دون الوقوع في الفوضى. تعزيز الثقة في أن البديل يمكن أن يكون أفضل هو أمر أساسي لدفع المجتمعات نحو التغيير، وكسر تلك الحلقة المفرغة التي تبقيها في قبضة القمع.
في الختام، يمكن القول إن عقدة ستوكهولم لدى الشعوب العربية ليست مجرد انعكاس للعلاقة النفسية بين الضحية والجاني، بل هي نتاج لظروف اجتماعية وتاريخية وسياسية معقدة.
الأنظمة القمعية تستخدم الخوف والتحكم في الإعلام والموارد الاقتصادية؛ لتعزيز تبعية الشعوب لها. وهو ما يفسر في جوانب كثيرة منه فشل الربيع العربي، وعودة الدولة التسلطية لطبيعتها مثلما عادت حليمة لعادتها القديمة.
ورغم ذلك، فإن حل هذه العقدة ممكن من خلال التعليم والتوعية، وإعادة بناء الثقة في البدائل السياسية والاقتصادية، وفي إمكانية التغيير السلمي للأوضاع، مهما بلغ سوؤُها واشتدت قسوتها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.