حتى صديقه ماكرون.. العالم تجاهل قيس سعيد
يواجه الرئيس التونسي، قيس سعيّد، أيامًا قد تكون الأصعب منذ صعوده إلى رئاسة الجمهورية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، خصوصًا بعد تجديد العهدة له قبل بضعة أيام في أعقاب انتخابات السادس من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.
فعدد الرؤساء الذين هنَّؤُوه بفوزه بـ"الرئاسية" على عدّ أصابع اليد الواحدة، بينهم الرئيس الجزائري، عبدالمجيد تبون، ورئيس الحكومة الليبية، عبدالحميد الدبيبة، ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، محمد بن زايد، بالإضافة إلى الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، ورئيس موريتانيا، محمد ولد الغزواني.
ولم تصدر عن الشركاء الحقيقيين لتونس، ونعني هنا رؤساء دول الاتحاد الأوروبي، الذين تربطهم شراكة سياسية وحقوقية واقتصادية مع تونس، منذ العام 1995، أي تهنئة.
الحلفاء الجدد.. صمت كلي
لم تكلف دول، مثل الصين وروسيا، نفسهما عناء رفع سماعة الهاتف لتهنئة الرئيس الذي تم التجديد لعهدة رئاسية ثانية له، رغم كل ما يتردد حول علاقات الرئيس سعيّد برئيسَي هاتين الدولتين، وتوافقاته معهما في ملفات كثيرة، إقليمية ودولية.
ولا تبدو السلطة بقيادة قيس سعيّد مطمئنّة لما يُفترض أنهم حلفاء "العهد الجديد"، ما بعد "انقلاب يوليو/ تموز 2021″، الذين لم يعربوا إلى الآن عن تهانيهم، ولو بكلمات إيحائية ورمزية، لصعود قيس سعيّد مجددًا إلى الرئاسة.
ويبدو أن الحرب الأوكرانية الروسية، قد ألهت حتى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن تقديم تهانيه لتونس، بانتخاباتها، التي لا تشبه انتخابات الكرملين في شيء، رغم أنّ روسيا لم تخرج أبدًا من إطار وشكل انتخابات الحزب الشيوعي السوفياتي سابقًا.
وصُنفت الصين وروسيا، إلى جانب إيران، ضمن التحالفات الجديدة التي يراهن عليها الرئيس المنتخب، قيس سعيّد، في علاقاته الدولية، وفي بحثه عن توازنات مع الاتحاد الأوروبي والغرب، كما روّج لذلك سياق خطاباته، ومن يعبّر عنهم بـ"المفسرين" لمشروعه السياسي، وفق ما يزعمون.
بدورها، لم تلتفت الولايات المتحدة الأميركية إلى نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية، ولو بنصف عين – كما يقال – فلم تتحدث عن شفافيتها ونزاهتها، كما فعلت على امتداد العشرية الماضية، عندما كانت مؤسساتها ومنظماتها الحقوقية تسارع إلى تهنئة الفائز برئاسة الجمهورية.
ولم تتقدم بأي تهنئة للرئاسة التونسية الجديدة، ربما لانشغالها بما يجري في غزة وجنوب لبنان، وعلى تخوم الدولة الأوكرانية مع الحدود الروسية، فضلًا عن مراقبتها مجالات الامتداد الصيني شرقًا وغربًا، في غفلة من واشنطن، النائمة في "عسل" إسرائيل، والمنتشية بـ"سمن" نتنياهو، الذي تتدحرج بسببه الأرواح والأجساد، كما تتدحرج كرة الثلج، في المحيط الأطلسي، بسرعة فائقة.
ورغم كل مظاهر العلاقة بين قيس سعيّد، ونظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لم يتقدم الأخير بأي تهنئة لقصر قرطاج، حيث ظل الإليزيه صامتًا، يرقُب الوضع، ويتابع ما تكتبه الصحافة الفرنسية من انتقادات شديدة لسير الانتخابات الرئاسية، ونتائجها التي وُصفت بأقذى النعوت والأوصاف من قبل كُتّاب فرنسيين مرموقين في النقد السياسي.
انتقادات ضاغطة
لكنّ السلطة في تونس، لا تبدو مرتاحة كذلك، لهذا الصمت الأوروبي والغربي، خصوصًا مع ارتفاع أصوات فاعلة على الصعيد الدولي، منتقدة الوضع السياسي والحقوقي في تونس، ومعبّرة عن قلقها بعد نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، على غرار المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، الذي لم يتردد في الإعلان، بُعيد إصدار النتائج النهائية للانتخابات التونسية، عن "قلقه إزاء استمرار سجن وإدانة خصوم سياسيين للسلطة في تونس"، داعيًا إلى "إصلاحات، وإلى الإفراج عن جميع الأشخاص المحتجزين تعسفيًا"، على حدّ وصفه.
ولم تكتفِ دول الاتحاد الأوروبي بهذه "المعاملة" معه، فهذا تقرير أوروبي حديث، أعدته الخدمة الدبلوماسية في الاتحاد الأوروبي، يتحدث بوضوح غير مسبوق في علاقات الطرفين، عن "تدهور المناخ السياسي، وتلاشي الفضاء المدني في ظل الرئيس سعيّد، الذي حظر وعلق البرلمان، وراكم كل السلطات في يده منذ بداية ولايته عام 2019".
وكشف التقرير، الذي يقع في خمس صفحات، عن مخاوف فريق جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، من أنّ "هذا يستلزم البحث عن توازن صعب جدًا، بين مصداقية الاتحاد الأوروبي من حيث القيم، ومصلحته في البقاء منخرطًا بشكل بنّاء مع السلطات التونسية".
وخلص التقرير، الذي أُرسل إلى 27 وزير خارجية في الاتحاد الأوروبي، إلى أنّه "لا يمكن التستر على هذا الواقع: فالوضع في تونس فيما يتعلق بحقوق الإنسان والتراجع الديمقراطي، يثير القلق الكبير".
وبالطبع، يتعارض التقرير وتلك التصريحات كليًا مع ما أعلن عنه وزير الخارجية التونسي الجديد، محمد علي النفطي، أمام السفيرة الألمانية الجديدة، بأنّ تونس، "دخلت بعد الانتخابات الرئاسية، مرحلة جديدة في بناء وتعزيز مسارها السياسي والاقتصادي مع الدول الصديقة".
وهو تصريح اعتبره مراقبون، في تمفصُل تام عن المؤشرات التي بعثت بها هذه "الدول الصديقة"، إلى حدّ الآن، حيث يغلب على اتجاهات الأمور لديها، ما يشبه عدم القبول بنتائج انتخابات السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، أو على الأقل انتظار لمآلات "سلوك" الرئيس التونسي، وما يمكن أن يبعث به من رسائل مطمئنة لإدارة مختلفة تمامًا للأزمة التي تلف رقبة البلاد، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، منذ نحو 3 سنوات تقريبًا.
ولعل السؤال المحيّر حقًا، في أعقاب مثل هذه التصريحات، هو: كيف ستكون لتونس علاقات ومصالح مع هذه الدول خلال السنوات المقبلة من حكم الرئيس قيس سعيّد في عهدته الرئاسية الجديدة، في ضوء هذا التجاهل والصمت الذي اختارته دول عربية وغربية وآسيوية وإفريقية عديدة، ممن تربطها علاقات وطيدة بتونس؟
سيكتشف المرء الإجابة تباعًا خلال الفترة المقبلة.. فمن هنا يبدأ الامتحان…
الملف السياسي.. والأسئلة الحارقة
على أنّ الأيام الصعبة التي تحدثنا عنها سابقا، لا تتوقف عند غياب التهاني بالفوز في "الرئاسية"، ورمزيتها الواضحة في علاقات تونس الخارجية، إنما ترتبط كذلك، بالاستحقاقات الكبيرة التي تنتظر الرئيس قيس سعيّد خلال السنوات الخمس القادمة من عهدته الرئاسية الجديدة.
فالملفات المطروحة على طاولة الرئيس الجديد، ثقيلة ومعقّدة، بعضها ورثه عن سنوات وعقود ماضية، والبعض الآخر، كانت السلطة بخياراتها في أعقاب "انقلاب 25 يوليو"، هي من جعلت منه "رقما صعبا" في معادلة الحكم وإدارة الدولة..
إذ ستكون العهدة الرئاسية الجديدة أمام معضلة المساجين السياسيين، الذين طالت مدد مكوثهم في السجون، إما في وضع إيقاف، أو ضمن سلسلة تهم وقضايا لم تُحسم بعد منذ نحو 3 سنوات، بما جعلها بمثابة الورم الذي يزداد انتفاخًا يومًا بعد يوم، ويسبب انزعاجًا داخليًا تزداد وتيرة الاحتجاج عليه يومًا بعد يوم، وقلقًا خارجيًا تتنامى الأسئلة والاستفهامات إزاءه من قبل "شركاء" و"أصدقاء" و"أشقاء" لتونس، خصوصًا أمام قناعة تتعاظم شيئًا فشيئًا حول "الصبغة السياسية" لهذه القضايا، التي تتعلق بخصوم للرئيس التونسي، كان الجميع يعتبر أنّ الزج بهم في السجون، بتهم خطيرة تتعلق بـ "التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي"، حصل لاعتبارات انتخابية.
واليوم، بعد "فوز" الرئيس قيس سعيّد بالانتخابات الرئاسية، هل سيمضي فيما سماها بعض المختصين في القانون بـ"المجزرة الحقوقية"، أم سيتخذ منحى مختلفًا في التعاطي مع هذا الملف، باتجاه غلقه عبر إعلان عفو خاص، وإنهاء حالة الانغلاق السياسي التي لم تشهد البلاد لها مثيلًا منذ عقود، وليس منذ الثورة التونسية فقط… خصوصًا في ضوء الدعوات من الداخل والخارج بضرورة تنقية المناخ السياسي العام في البلاد، عبر الإفراج عن المساجين السياسيين، والمتهمين في قضايا تتعلق بالحقوق والحريات، فضلًا عن إلغاء المرسوم 54، "المشؤوم" كما يوصف سياسيًا واجتماعيًا، الذي تسبب في ملاحقات قضائية، وأحكام في حق العشرات من الصحفيين والنشطاء الحقوقيين والمدونين.
وقبل ذلك، هل تنهي السلطة نزعة التقسيم التي يعاني منها التونسيون بشكل كبير، في ضوء الخطاب المشحون بمفردات الكراهية والتصفية السياسية، ومنطق التآمر واللوبيات والتخوين، الذي تمارسه السلطة التنفيذية، بشكل يساهم في تنقية المجال العام، والدخول في مناخ من التسويات وبناء المشتركات؟
وهل تتجه السلطة، انطلاقًا من الأسابيع القادمة، إلى التمهيد لعودة الديمقراطية للبلاد، كما دعاها إلى ذلك جوزيب بوريل، ممثل السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بعد ثلاث سنوات من "تعطيلها"، والنكوص عليها، بصرف النظر عن الأسباب والقراءات والتحاليل من داخل السلطة ومن خارجها؟
وإلى أي مدى ستعمل السلطة على استعادة المؤسسات الدستورية واستكمال بنائها، على غرار المجلس الأعلى للقضاء، والمحكمة الدستورية، وانتخاب هياكل تعديلية للمهنة الصحفية، تكون قادرة على توفير بيئة إعلامية نشيطة وفاعلة، بعيدًا عن التضييق الذي يُمارس على الإعلاميين، وفق تقارير نقابة الصحفيين التونسيين، وبعض المنظمات الحقوقية، وجهات سياسية معارضة لرئيس الدولة؟
وتبعًا لذلك، هل يبعث الرئيس التونسي الروح من جديد في "هيئة مكافحة الفساد"، التي تم تعطيل مهامها وأُغلقت أبوابها، ليصبح ملف الفساد حكرًا على السلطة التنفيذية؟ فلا الفساد توقّف، ولا الملفات المقدمة للقضاء استطاعت أن تنهي العبث بمقدرات الدولة ومؤسساتها، من قبل لوبيات ومصالح ما تزال تراوح مكانها منذ 25 يوليو 2021، دون أي تقدم حقيقي وناجع وناجز.
حرية الصحافة… "أم المهام"
ولا شك أن "أم المهام" المطروحة على رئاسة الجمهورية خلال العهدة الرئاسية الجديدة، هي استعادة الحريات الإعلامية التي شهدت تراجعًا لافتًا للغاية قياسًا بالسنوات العشر الماضية.
فقد بات المكسب الأساسي الذي كرسته الثورة التونسية، قولا وفعلا، محل مخاوف الهيئات النقابية في الداخل والخارج، وانشغال المنظمات الحقوقية والمدافعة عن حرية التعبير والإعلام، بل إن تردي أوضاع الإعلام بات محل نقد كثيف من المواطنين التونسيين، بعد أن ذاقوا نفحات حرية الإعلام وأجواءها النشيطة، وأصبحوا اليوم متخوفين حتى من "النقد الناعم" لما يجري، بعد أن عادت ماكينة الرقابة في الأوساط الاجتماعية والسياسية، بل في صلب المؤسسات الإعلامية ذاتها، التي ضاقت ذرعًا بهذه التطورات السلبية.
صحيح أن ثمة "انفلاتًا" إعلاميًا واضحًا خلال السنوات العشر الماضية، وهناك من استغل فائض الحريات، لكي ينال من الشخصيات والمؤسسات والدولة والثوابت الوطنية، لكنّ ذلك لا يمكن مقاومته بواسطة "تكميم الأفواه" و"سياسة الضبط" التي تمارسها عادة الأنظمة الاستبدادية، إنما يتم ذلك عبر خلق كيانات تعديلية ونقابية متعددة في المجتمع، قادرة على "تنظيم الفوضى"، والتحكم في عملية الانفلات، وترسيخ ثقافة "الحرية المسؤولة"، الخاضعة لقوانين وليس لمراسيم، والنأي بالتجربة التونسية عن سياسة "الهدم الممنهج" للمكاسب والمنجزات، وهي قليلة منذ الثورة إلى الآن، والاستثمار في الإعلام الحر، الجالب لرجال الأعمال والمستثمرين الأجانب، الباحثين عن صحافة مسؤولة وحرة، وعن صحفيين أحرار وليسوا عبيدًا لدى هذا أو ذاك، لديهم مسافة عن السلطة وقوى الضغط والأحزاب، وقادرون على صناعة رأي عام واعٍ ومثقف ومسؤول، وليس شعبًا إمّعة بلا بوصلة ولا اتجاه.
التنمية… معادلة العيش المشترك
ولعل الملف الأكثر سخونة خلال المرحلة المقبلة، والمرشح لكي يكون محركًا لبناء استقرار سياسي واجتماعي من عدمه، هو ما يتعلق بالملف الاقتصادي والتنموي، الذي ترتبط به مجالات الاستثمار الداخلي والأجنبي، وقطاع الخدمات (النقل والصحة بخاصة)، والمالية العامة التي تعرف صعوبات هيكلية جمة، والارتفاع المذهل للأسعار في بلد زراعي بامتياز، وتدهور القدرة الشرائية للتونسيين، وضعف موارد الدولة، وارتفاع معدلات البطالة، وتزايد نسبة التضخم، وتصاعد حجم الدين الداخلي والخارجي، والنقص في المواد الغذائية الأساسية، من قهوة وسكر وشاي وزيت الطعام اليومي، ومواد صنع الخبز، والفواكه التي ارتفعت أسعارها بشكل مشط للغاية.
وتحتاج المرحلة المقبلة إلى مصارحة التونسيين بطبيعة علاقة الدولة بالمؤسسات المانحة، وخاصة صندوق النقد الدولي، وبحقيقة الأرقام المتعلقة بالتداين الخارجي التي يحذر منها الخبراء، وبقدرة المالية العامة على الاستجابة لحاجيات التونسيين في النقل العمومي والصحة العمومية، في ظل أوضاع مزرية في النقل، وفي المشافي والمؤسسات الصحية، وضع التونسيين بين مطرقة "القطاع العمومي" (الحكومي)، وسندان المصحات الخاصة ذات التكلفة العالية والباهظة جدًا، بما لا يستجيب لإمكانات التونسيين التي تزداد تدهورًا يومًا بعد يوم.
إن ذلك كله مشروط بإنهاء الانسداد السياسي في البلاد، وفتح الجميع على المشاركة في صنع مصير البلاد ومستقبلها، وبناء وطن جديد يقوم على مبادئ العيش المشترك، وعلى اقتسام الثروة بالحد الأدنى من العدل والمساواة في كنف القانون، وتحت مظلة قضاء عادل، ومنظومة حقوقية تستبعد السجون والحلول الأمنية، وتجعل من المجتمع بمكوناته السياسية والمدنية والشبابية والنسائية وقودًا لصناعة مرحلة، وبناء مؤشرات دولة العدل الاجتماعي، عسى الجيل القادم يقدر على استكمال بنائها وتشييدها.
بهذه الروح، يمكن للرئاسة الجديدة لقيس سعيّد أن تجسد شعار الحملة الانتخابية: "البناء والتشييد". فلا بناء بلا تونسيين أحرار في بلادهم، ولا تشييد بتونسيين غير مساهمين في "الهمّ الوطني" بكل ألوانه.
البناء رؤية والتشييد سلوك
فبأي رؤية وسلوك ستدشن الرئاسة الجديدة عهدتها الثانية، وهي تودع عهدة بصفر من المنجزات، إذا استثنينا إيقاف الانتقال الديمقراطي ومؤسساته، وجعل الحريات حلمًا جديدًا، بعد أن كانت منجزًا حقيقيًا في البلاد وفي فضائنا العربي والإفريقي؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.