دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية: مساراتها القانونية ومآلاتها المحتملة
نظرت محكمة العدل الدولية يومَي 11 و12 يناير/ كانون الثاني في الدعوى المرفوعة من جنوب أفريقيا بشأن تُهمٍ للكيان الإسرائيلي بارتكابه جرائم إبادةٍ جماعية في عدوانه المستمر على غزة منذ ثلاثة أشهر. والمحكمة هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة تأسّست سنة 1945 ولها اختصاص عام، إذ إنها تتولى النظر في جميع القضايا التي تحيلها الأطراف إليها، وجميع المسائل المنصوص عليها بشكلٍ خاص في ميثاق الأمم المتحدة، أو في المعاهدات والاتفاقيات النافذة.
عندما تتعلّق الدعوى بجرائم إبادة جماعية، فإن الطّرف المدّعِي، عليه أن يثبت للمحكمة حصول أفعال متعمّدة منسوبة للمدَّعَى عليه، وهنا فإن الجدل القانوني سيتعلّق بالوقائع وثبوتها، وعليه بعد ذلك أن يُثبت انطباق التوصيف القانوني المتمثل في "جريمة الإبادة الجماعية" على هذه الأفعال.
وكانت معركة إثبات الوقائع وتوصيفها القانوني هي الجزء الأهم في المرافعات التي استمرت ليومَين، في حين أثارت طلبات جنوب أفريقيا باتخاذ تدابير احترازية مؤقتة جدلًا قانونيًا لا يقلّ أهمية حول مدى وجود حقوق ذات أولوية تفرض اتخاذ مثل هذه التدابير.
إثبات جريمة الإبادة الجماعية: جدل الوقائع والقانون
تستند جنوب أفريقيا في دعواها ضدّ الكيان الإسرائيلي إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، المصادق عليها سنة 1948. في هذه الحالة، يتعلّق اختصاص محكمة العدل الدّولية بمساءَلة الدّول عن سياسات وتصرّفات لموظفين تابعين لها يمكن أن تمثّل انتهاكًا لالتزاماتها الدولية المنصوص عليها في هذه المعاهدة.
ومعلومٌ أن انتهاك دولة ما لالتزاماتها المفروضة عليها، بموجب القانون الدولي، يثير مسؤوليتها الدّولية، وهذا ما تنصّ عليه المادة التاسعة من الاتفاقية السّابقة والتي تؤسّس عليها جنوب أفريقيا دعواها، حيث تنصّ هذه المادة على أنه: " يُعرض على محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب أيّ من الأطراف المتنازعة، النزاعاتُ التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادةٍ جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة".
ينطلق مسار الإجراءات أمام محكمة العدل الدولية بتقديم عرائض مكتوبةٍ من الطرفين اللذَين يشرعان، أولًا، في إثبات صفتهما في الدعوى، وإذا كانت المحكمة تنظر في كلّ الطلبات التي تقدّم من الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، فإنه لا يُشترط أن تكون الدّولة المدعية طرفًا في النزاع.
ولذلك، فإن لجنوب أفريقيا الأهلية لتقديم طلب يخصّ النزاع في غزة، وقد قضت محكمة العدل الدولية في اجتهاد سابق لها بأنه يجوز لكلّ عضو له مصلحة في منع جرائم الإبادة الجماعية التقدّم أمام المحكمة بدعوى بشأنها حتى وإن لم يكن طرفًا في النزاع الدّائر.
تعقد المحكمة جلسات استماعٍ لمرافعات فريقي الطرفين، وتسعى جنوب أفريقيا من خلال طلباتها المكتوبة- إضافة إلى ما تضمنته مرافعة مندوبتها الشفهية- إلى إقناع القضاة بأن ما يقع في غزة يشكّل جريمة إبادة جماعية بمفهوم المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وأنها تدخل في اختصاص المحكمة طبقًا لنص المادة التاسعة من ذات الاتفاقية.
سيكون على جنوب إفريقيا، إذن، إثبات حصول الوقائع المنسوبة للكيان الإسرائيلي، وأيضًا، إثبات وجود "نمط ممنهج" من الأفعال "بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية، أو دينية". بذلك، فإن المسعى القانوني للطرف المدعِي هنا يتعلّق، أولًا، بإثبات حصول الوقائع من جهة، وأن التوصيف القانوني المتمثل في " الإبادة الجماعية" ينطبق على هذه الوقائع من جهة ثانية.
وبالفعل، فإن مداخلة مندوبة جنوب أفريقيا ارتكزت على هذَين الهدفين، حيث ذهبت بدايةً إلى تأكيد الأفعال التي ارتكبتها قوات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة من "مصادر موثوقة بمعظمها من الأمم المتحدة"، باعتبارها مسألة وقائع، وعرضت بعض الإحصائيات المقدّمة من أجهزة الأمم المتحدة لإثبات "سلوك الإبادة" للكيان الإسرائيلي.
وانتقلت المندوبة بعد ذلك إلى محاولة تثبيت الوصف القانوني لهذه الأفعال باعتبارها تشكّل انتهاكًا للمادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة، خصوصًا الفقرات: "أ، ب، ج، د" من خلال أن "إسرائيل ترتكب أفعالًا تتمثل في: القتل الجماعي للفلسطينيين بوصول عدد القتلى إلى 23000، سبعون بالمائة منهم على الأقل من النساء والأطفال، والتسبّب بأضرار جسدية ونفسية جسيمة للفلسطينيين، وفرض ظروف لا تسمح لهم بمواصلة الحياة عبر اللجوء إلى أساليب التهجير القسري، ومنع المساعدات الغذائية والطبية، إضافة إلى حرمانهم من مأوى آمن وصالح للعيش، واستهداف المستشفيات والمراكز الطبية".
وهكذا فإن جنوب أفريقيا بنت طلبها على أسسٍ قانونية سليمة وقوية من خلال الاستناد إلى الوقائع الثابتة وتكييفها تكييفًا قانونيًا صحيحًا، بوصفها أفعال إبادة جماعية، وذلك كلّه بالتأسيس على نصوص اتفاقيات الأمم المتحدة التي تشكّل الإطار الموضوعي لاختصاص محكمة العدل الدولية في هذه الجريمة.
في المقابل، قدّم مندوبو الكيان الإسرائيلي دفاعًا سياسيًا أكثر منه قانونيًا. فقد انطلقوا في تكرار السردية التي ظلّ يردّدها الساسة في الكيان من قبيل "حق الدفاع المشروع عن النفس" في مواجهة "هجوم حماس الذي يهدف إلى إبادة الشعب الإسرائيلي".
لكنهم لم يستطيعوا تبرير سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا، والذي يعدّ قرينة قوية على وجود نية لإبادة جماعية للفلسطينيين في غزة، واكتفوا بعرض الصور التي كان قد عرضها جيش الاحتلال الإسرائيلي لترويج مزاعمه حول استغلال حماس للمستشفيات والمرافق المدنية في أعمالها العسكرية، زاعمين أنها السّبب في سقوط هذا العدد من الضحايا من المدنيين.
من الناحية القانونية، أخفق الفريق القانوني للكيان الإسرائيلي في دفع الاتهام الأساسي المتمثل في ارتكاب جريمة إبادة جماعية بشكلٍ متعمّد وممنهج والذي تثبته كمية القصف، وعدد الضحايا، ولم يناقش الأسس القانونية التي اعتمد عليها فريق المدّعِي في إثبات ادعائه.
وفيما استند المدعِي، إذن، إلى وقائع مُثبتَة وموصوفة توصيفًا قانونيًا سليمًا، حاول مندوبو الكيان تحريف الوقائع من خلال نسبتها إلى جهة أخرى وهي "حماس"، دون تقديم أي أدلة جديّة تثبت هذه المزاعم، متجاهلين بذلك مسألة الردّ على التوصيف القانوني للفعل المرتكب باعتباره عملًا من أعمال الإبادة الجماعية.
معركة التدابير الاحترازية المؤقتة
في الحقيقة، تكمن أهميّة دعوى جنوب أفريقيا بوصفها دعوى استعجالية بطبيعتها. والدعوى الاستعجالية في المفهوم القانوني هي طلب يهدف إلى اتخاذ تدابير عاجلة ومؤقتة لمنع استمرار أعمال تُفاقِم من خطورة الوضع، وينجُم عنها أضرارٌ غير قابلةٍ للإصلاح في المستقبل، ولا يمكن بالتالي الانتظار لحين الفصل النهائي للحفاظ على حقوق الأطراف التي تكون لها أولوية قصوى.
ويستند طلب جنوب أفريقيا في هذا الاتجاه إلى نصّ المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية التي تنصّ على أنه: " يكون للمحكمة سلطة أن تبيّن، إذا رأت أن الظروف تتطلّب ذلك، أي تدابير مؤقتة ينبغي اتخاذها للحفاظ على الحقوق الخاصة بأي من الطرفَين. ريثما يتم اتخاذ القرار النهائي يجب على الفور إبلاغ الأطراف ومجلس الأمن بالتدابير المقترحة".
تكمن التدابير المؤقتة التي تهدف دعوى جنوب أفريقيا إلى اتخاذها في الأمر بوقف كل الأعمال العسكرية التي يقوم بها جيش الكيان الإسرائيلي، على اعتبار أن هذه الأعمال تؤدي إلى سقوط عدد أكبر من الضحايا المدنيين بمرور الوقت، وبالتالي يجب اتخاذ تدابير مُستعجلَة تحفظ حقّ الفلسطينيين في الحياة، ولا يمكن تأخير مثل هذه التدابير التي تتعلّق بحقوقٍ ذات أولوية قصوى حتى الفصل النهائي للمحكمة، كما طلبت جنوب أفريقيا إلزام الكيان بعمل كل ما من شأنه ضمان الحفاظ على الأدلة وعدم تدميرها.
في سابقةٍ قضائية لمحكمة العدل الدولية في القضية التي رفعتها غامبيا ضدّ ميانمار بخصوص جريمة الإبادة الجماعية بحقّ شعب الروهينغا، اعتمدت المحكمة بالإجماع في يناير/كانون الثاني 2020 تدابير مؤقتة تلزم ميانمار بالتوقف عن جميع أعمال الإبادة الجماعية ضدّ الروهينغا، وضمان عدم ارتكاب قوات الأمن أعمال إبادة جماعية، واتخاذ خطوات للحفاظ على الأدلة المتعلقة بالقضية.
كما أمرت المحكمة ميانمار بتقديم تقرير عن امتثالها للتدابير المؤقتة كل ستة أشهر. وقد كانت هذه القضية محلّ جدلٍ قانوني موسّع بين طرفي النزاع في القضية الحالية، دار أساسًا حول جدوى فرض تدابير مؤقتة لمنع تواصل المساس بحقوق الفلسطينيين المستهدفَين بجريمة الإبادة الجماعية، ومدى وجود حقوق ذات أولوية تستوجب اتخاذ مثل هذه التدابير.
مآل النزاع وتداعياته
من الناحية الرمزية، فإن أول انتصار قانوني يجب أن يتوّج جُهد جنوب أفريقيا هو إقناع المحكمة بصلاحيتها للنظر في الدعوى، ونظرًا لأن الكيان الإسرائيلي هو أكثر من ارتكب جرائم الإبادة الجماعية في العصر الحديث، وأكثر متهم غائب عن المثول أمام المحاكم الدولية، فإن مجرّد استغلال منصة المحكمة للحديث عن جرائم الاحتلال في حضوره كمُدعَى عليه هو بحدّ ذاته انتصار سياسي تجب الإشادة به.
مع ذلك، فإن نجاح الدعوى لا يتوقّف على قدرة جنوب أفريقيا في إثبات جرائم الإبادة المتعمّدة بقدر ما يرتبط بوجود إرادة حرّة نزيهة وخالية من أيّ تصورات ذاتيّة لدى قضاة المحكمة حول النّزاع وأطرافه، خصوصًا أنّ المحاكمة تتعلّق بالحكم على سياسات دول، وليس على أفعالٍ مرتكبة من قبل الأفراد، ما قد يجعل أثر الاعتبارات السّياسية يطغى لدى القضاة على الاعتبارات القانونية الخالصة.
من المهم التذكير بأن محكمة العدل الدولية هي محكمة لمساءلة الدول وليس الأفراد، فهي هيئة قضائية تختص بالنظر في النزاعات بين أعضاء هيئة الأمم المتحدة والمساهمة في حفظ الأمن والسلم في العالم، وبالتالي فإن ما يُتوقّع إذا ما وجّهت المحكمة تهمة الإبادة للكيان الإسرائيلي، هو الأمر باتخاذ تدابير مؤقتة لمنع استمرار الجريمة في مرحلةٍ أولى، ومن ثمّ تحميل الكيان مسؤولية ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، مع ما يفترضه ذلك من إلزامه بدفع تعويضات، والحكم عليه بعقوبات اقتصادية أو دبلوماسية.
من الناحية القانونية، فإن أحكام محكمة العدل الدّولية مُلزمة للأطراف، لكن المحكمة لا تملك بنفسها سلطة تنفيذ أحكامها جبرًا على الأطراف، ولذلك، سيتوجب على الطّرف الذي له مصلحة التوجه إلى مجلس الأمن الدّولي بوصفه جهاز إنفاذ قرارات الأمم المتحدة لإصدار قرارٍ بتنفيذ حكم محكمة العدل الدولية، لكن هذا القرار سيخضع إلى نظام التصويت المتبع في مجلس الأمن، وهو ما يعني احتمال نقضه عن طريق حق النقض في المجلس.
في كل الأحوال، فإن المجتمع الدولي سيكون أمام امتحانٍ صعب في إثبات جديته في وقف استمرار جريمة الإبادة ضدّ الفلسطينيين في غزة بالاستناد إلى حكم أعلى جهة قضائية دولية إذا ما صدر بالإدانة، لكن وفي الوقت نفسه، سيحيي هذا الحكم الآمال في جدوى المنظومة القانونية والقضائية الدولية في تحقيق الهدف الأسمى لها، وهو توفير حماية فاعلة لحقوق الإنسان في العالم دون تمييز.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.