المسيري متأملًا شعر المقاومة الفلسطيني

: أطفال يلهون ومن حولهم دمار هائل تسببت به آلة الحرب الإسرائيلية، حيث تشير تقديرات فلسطينية محلية إلى أن 70% من المنازل والمباني السكنية والمنشآت تعرضت للتدمير خلال الشهور الأربعة الماضية من الحرب.
أطفال يلهون ومن حولهم دمار هائل تسببت به آلة الحرب الإسرائيلية (الجزيرة)

كما كتب المفكّر عبد الوهاب المسيري موسوعته عن الصهيونيّة، فقد وقف مطولًا – وهو أستاذ الأدب الإنجليزي -مع الشعر الفلسطيني متأملًا، ومحللًا، ومقدمًا معانيَ تثير الخيال، يجدر بنا الوقوف عندها، وذلك في كتابه: "فلسطينية كانت ولم تزل".

يبرر المسيري اختياره الشعرَ كمجال للدراسة؛ بأنه فن أدبي يشغل مكانة خاصة في تراث العرب الحضاري؛ فهو الشكل الفني الذي صاحبهم عبر تاريخهم؛ معبرًا عن انتصاراتهم وانكساراتهم، وكان العرب القدامى يظنون أن العبقرية العربية تعبر عن نفسها بشكل كامل من خلاله، وخاصة الغنائي منه؛ ولذا لم يكن من قبيل الصدفة أن يكون هذا الشعر هو لسان المقاومة الفلسطينية.

الشاعر الفارس والهُوية!

يَعتبر المسيري أنّ الغنائية في الشعر تعبّر عن الانتماء الإنساني والعربي لشعر المقاومة الفلسطيني؛ فالمبالغة في الغنائية، والإفراط فيها، من خصائص الفارس المنتصر، أو المؤمل في الانتصار الواثق منه ومن نفسه.

ولا يمكن فهم هذه الغنائية المتدفّقة؛ إلا في إطار تلك الشخصية البطولية المعطاءة؛ التي تكتسب مضمونها، لا من تأكيد الذات الضيقة، وإنما عبر التمسك بقوميّتها وتاريخها.. لذلك لا يستسلم الشاعر الفلسطيني للهزيمة؛ لأنه يتمسّك بكرامته العربية، وبانتمائه واستمراره.

ويبرهن على ذلك بقول توفيق زياد:

"حملت دمي على كفي

وما نكست أعلامي

وضعت العشب فوق قبور أسلافي"

ويضيف المسيري: لعلّ هذا الإيمان العميق بالاستمرار العربي، هو الذي يُعين الشاعرة ليلى علوش في إحدى لحظات محنتها وإحساسها بالغربة.. ففي قصيدة "درب المودة" تنظر من نافذة سيارتها في الأرض المحتلة، فترى الأرض الحبيبة السليبة، لكنها لا تستسلم للأحزان، لأنها تخترق ببصيرتِها الأقنعة والدعاية والأصوات الحديثة، لتسمع صوت التاريخ العربي؛ فتقول:

"كل شيء عربي رغم تغير اللسان

رغم كل اللافتات الخضر والزرق الهجينة

شجر الحور وبيارات أجدادي الرزينة

كلها كانت – يمين الله – تضحك لي بود عربي"

بين فلسطين والعروبة

وعروبة هذا الشعر -حسب رأيه- لا تقتصر على الموضوعات السياسية الظاهرة، وإنما هي كامنة في اللغة التي يستخدمها الشاعر، وفي الصورة التي يرسمها لنفسه، وفي إدراكه لنفسه كإنسان وشاعر.

توضح ذلك قصيدة عبد اللطيف عقل " عن وجه واحد فقط":

"وأنت هنا جدائل شعرك العربي في عيني

عيناك المبللتان بالأحزان

ساكنتان في ألمي وفي صمتي"

الشاعر المحارب الشهيد

يقول المسيري: "إن الإنسان عندما يصبح تجسيدًا لكلمته؛ أي حينما يستشهد، فموته يتجاوز الحروف والكلمات.. ويقف الشهيد شامخًا كجدار بيت في غزة؛ فالشهيد يتحول إلى الكلمة الحلم.. والقصيدة تتخطى لحظة الهزيمة الحاضرة، لتصل إلى لحظة الانتصار المقبلة، فليس هناك قضية أخرى استشهد من أجلها كل هذا العدد من الشعراء".

لاحظ المسيري أن شعر المقاومة متفائل، فالمقاومة تنطلق من إيمان بأن لحظة الهيمنة لحظة عابرة، وأن الكيان الصهيوني الاستيطاني ليس له مستقبل رغم كل انتصاراته.

وتوضح قراءته المتعمقة للشعر الفلسطيني نمطًا متكررًا في قصائد المقاومة: فالواقع الظالم يحدق بالمقاوم، لكنه يتجاوزه، فينهض ويقاتل وينتصر، وينكسر لكنه لا يستسلم أبدًا.. وهنا يسأل أسئلة هامة: كيف يتجاوز هذا الشعب واقعه وظروفه؟ وكيف تخرج من مخيمات اللاجئين كل تلك الأغاني والألوان؟ وكل هؤلاء المقاتلين والشهداء، ما الذي يجعلهم يتماسكون، وماذا يشد أزرهم؟ وماذا يجعل أطفالًا في عمر الزهور يذهبون لإلقاء الحجارة على العدو؟ وما الذي يجعل هذا الشاب يذهب إلى أمه بعد أن يكون قد توضأ ليخبرها أنه سيذهب للقتال وربما للاستشهاد، فلا تعترض ولا تمانع؛ بل تقدم أبناءها الشهيد تلو الآخر؟

والإجابات التي يقدمها تتحدى الفكر الغربي؛ حيث يرى أننا لا يمكن أن نجد لذلك تفسيرًا ماديًا، حتى لو كان جدليًا، فمثل هذه القوة لا يمكن أن تستند إلى الحسابات الرشيدة، أو إلى شواهد مادية توجد في عالم الحواس الخمس؛ فلابد أن نبحث عن شيء وراء السطح، وراء المعطى المادي.

ويقدم على ذلك من شعر محمود درويش، يقول:

"أفلست الحواس وأصبحت قيدًا

على أحلامنا

وعلى حدود القدس

أفلست الحواس، وحاسة الدم أينعت فيهم

وقادتهم إلى الوجه البعيد"

فدرويش يطلب من عالم الأشياء المادي، عالم الأمر الواقع، أن ينزاح عن أفقه؛ لأنه قيد على رؤى الإنسان وأحلامه، إنه عالم مفلس؛ وبدلًا من ذلك تظهر حاسّة الدم، وهي ليست من الحواس الخمس، فهي تتحرك في عالم ما وراء الطبيعة.. لذلك يقول:

"والحلم أصدق دائمًا

لا فرق بين الحلم والوطن المرابط خلفه

الحلم أصدق دائمًا

لا فرق بين الحلم

والجسد المخبأ في شظية

والحلم أكثر واقعية "

يقول المسيري: "ما في الغيب هو الوعد والمكتوب، أما ما هو ظاهر للحواس، فهو أكاذيب الإعلام ودبابات الجيش الإسرائيلي.. هذا ما يعرفه المظلومون والمقهورون، لكنهم يعرفون أيضًا أن الله عادل، وأنهم يرجون من الله ما لا يرجو أتباع الطاغوت.. لذلك كان شعر المقاومة الفلسطينية – رغم قناعات الشعراء المعلنة – شعرًا عميق الإيمان".

الغناء في حب فلسطين

ويلفت المسيري إلى أن حب فلسطين كان الموضوع الكامن المتواتر في الشعر الفلسطيني، وكل شاعر فلسطيني يعبر عن حبه للمدينة الفلسطينية التي نشأ فيها، ويظل وفيًا ثابتًا على حبه لها، وفي ذلك يقول فوزي الأسمر في قصيدة "الناي المتجول":

" ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله

وخسر اللوز الأخضر من كرم أبيه؟

ماذا ينتفع الإنسان

لو شرب القهوة في باريس

وخسرها في منزل أبيه؟

ماذا ينتفع الإنسان لو جاب العالم كله

وخسر الأزهار على تل بلاده؟

لا يربح غير الصمت الميت في جوف

البشر الأحياء "

أما يوسف حمدان فالقدس في قصائده هي الحبيبة، لكنه لن يقابل تلك الحبيبة إلا بعد أن يحررها ليصبح جديرًا بحبها.

كما لاحظ أن "شعر المقاومة مليء بالإشارات لأشجار اللوز والزيتون، والبرتقال والياسمين والزعتر.. وفلسطين هي الحبيبة التي تستوعب كل حب الشعراء، وتحتكر لنفسها كلمات العشق والغرام.. وهنا يظهر الامتزاج الكامل بين الشاعر ومحبوبته، وهو امتزاج يؤدي إلى تآكل المسافة والحدود الفاصلة بينهما، وهو حب يجعل المحب جسورًا قادرًا على أن يمزج كلمات الغرام والعشق الرقيقة، بكلمات خشنة مستقاة من عالم السجون والتعذيب".

يقول عبد اللطيف عقل:

 

"أسافر عبر التخوم وأنت الحبيبة

وأزهو بتهريب عينيك

عند الحدود

وأزهو وأزهو وأفخر

وحين يهشم رأسي الجنود

وأشرب برد السجون

لأنساك، أهواك أكثر "

الصمود والجذور

وتستنتج دراسة المسيري أن شعراء فلسطين يدركون أن الصهاينة لا يعرفون الطمأنينة الداخلية التي يأتي بها الحب الحقيقي والالتصاق بالأرض. إن ما يفتقده الصهاينة هو التجذر في الأرض، والارتباط بها، وهذا ما يمتلكه الفلسطيني بوفرة، وهو أحد أسباب صموده الرائع.

ويحتفي شعر المقاومة بالصمود، فهو شكل فريد من أشكال المقاومة الفلسطينية، فرغم أنّ الشعر الثوري عادة ما يدعو إلى التغيير والحركة، فإن التصاق الشعراء المتطرف بالأرض يعبّر عن نفسه في كثير من صور الثبات.

ويفسر المسيري ذلك بأن الصمود شكل صامت من أشكال الرفض والمقاومة الإيجابية، والشاعر الفلسطيني يعرف أن ثمنًا فادحًا لا بد أن يُدفع، لكن المناضل يقوم بالبذل والعطاء في هدوء وسكينة؛ لأن إيمانه يشد أزره.

إنّ فلسطين ذلك الوطن المفقود لا يزال الحقيقة الأساسية في وجدان الشعراء.. لذلك يعبر الشعراء عن الشهادة باعتبارها الحرية الناتجة عن الإيمان، والشهيد يتحول إلى رمز للصمود، فهو في استشهاده يشبه الشاعر الحق الذي لا يلقي كلماته جزافًا، وهو ينزف من دمه ليضفي مصداقية عليها، والدماء الفلسطينية لا تتوقف عن النزيف، وبذا تصبح أنشودة الانتصار الفلسطينية أنشودة انتصار للإنسان.

يقول توفيق زياد:

"هنا على صدوركم باقون كالجدار

نجوع نعرى نتحدى

ننشد الأشعار

ونملأ الشوارع بالمظاهرات

ونملأ السجون كبرياء

ونصنع الأطفال جيلًا ثائرًا وراء جيل

كأننا عشرون مستحيل

إنا هاهنا باقون

فلتشربوا البحرَ

نحرس ظل التين والزيتون

ونزرع الأفكار كالخمير في العجين

يا جذرنا الحي تشبث

واضربي في القاع يا أصول".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان