تآكل مقومات القوة الإسرائيلية (1-2)
قد يبدو من المفارقات أن إسرائيل -التي تمتلك الكثير من مقومات القوة العسكرية والتقنية والتي تتنافس عليها العديد من الدول لاقتناء منتجاتها السيبرانية- تواجه أزمات بنيوية داخلية على الصعيدين المجتمعي والسياسي، وهذه الأزمات تمثل تهديدا غير مسبوق لقدرتها على البقاء.
فقد سمح طرح حكومة بنيامين نتنياهو لخطة "التعديلات القضائية" بالتعبير عن جملة من هذه التحديات التي تتمثل في استفحال الانقسام السياسي والاستقطاب الإثني، واحتدام الصراع بشأن طابع العلاقة بين الدين والدولة بين المتدينين والعلمانيين، مما أصبح يشكل تحديا كبيرا لتماسك النسيج المجتمعي، وقد فاقمت هذه التحديات حالة عدم الاستقرار التي يعاني منها النظام السياسي.
إن بناء مقاربة موضوعية إزاء تأثير التحديات الداخلية -التي أصبحت من أهم عوامل الضعف التي تخصم من قيمة مقدرات القوة التي تمتلكها إسرائيل وتقلل قدرتها على مواجهة التحديات الخارجية- يتطلب الإحاطة بالمعضلات البنيوية التي أثرت في بنية المجتمع الإسرائيلي وتماسك نسيجه وأضرت باستقرار النظام السياسي.
شكلت حرب 1967 والنتائج التي ترتبت عليها من احتلال الضفة الغربية، القدس وقطاع غزة، فرصة للتيار الديني القومي لقيادة مشروع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها حديثا
الطبقية وتجلياتها العنصرية وتداعياتها السياسية
صاغ مؤسس إسرائيل ورئيس وزرائها الأول دافيد بن غوريون إستراتيجية "بوتقة الصهر" التي هدفت إلى دمج الهويات والثقافات المختلفة التي انتمت إليها المجموعات اليهودية التي هاجرت إلى إسرائيل، بهدف تشكيل "هوية إسرائيلية موحدة".
هذه الإستراتيجية كانت تهدف بشكل خاص إلى محاولة التقليل من تأثير التفاوت الثقافي بين اليهود الذين هاجروا من الغرب وروسيا وأولئك الذين هاجروا من الدول العربية والإسلامية.
وقد اعتبر بن غوريون أن الخدمة العسكرية المشتركة في الجيش هي الوسيلة الأمثل لتقليص تأثير الفروق الإثنية بين الشرقيين والغربيين على النسيج المجتمعي.
لكن ما حاول بن غوريون تحقيقه من دمج بوسيلة عكسه بأخرى، حيث أمر بتأسيس مستوطنات منفصلة في أقاصي شمال وجنوب فلسطين خصصها لليهود الشرقيين وأطلق عليها "مدن التطوير".
اتسمت "مدن التطوير" بتراجع مستوى الخدمات وضعف البنية التحتية الاقتصادية، وتراجع التحصيل العلمي والأكاديمي، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة معدلات الجريمة، فيما استقر اليهود الغربيون في المدن الكبرى والقرى التعاونية "الكيبوتسات" ذات البنية الاقتصادية القوية، مما أسهم في ظهور فروق طبقية واضحة بين هاتين الشريحتين.
وعلى الرغم من أن الأغلبية الساحقة من الشرقيين ظلت تصوت لقوى الوسط واليسار بقيادة حزب العمل -الذي أسس إسرائيل- منذ إعلانها فإن استمرار مظاهر الإجحاف والتمييز ضدهم أدى إلى تحول كبير في أنماط تصويتهم في الانتخابات.
وبلغ هذا التحول ذروته في انتخابات العام 1977، حيث صوتت الأغلبية الكبيرة من الشرقيين لصالح الليكود احتجاجا على سياسات حكومات الوسط واليسار تجاههم، مما مكن اليمين من الوصول إلى الحكم لأول مرة في تاريخ إسرائيل.
أسست نتائج انتخابات العام 1977 لبروز التعاطي "القبلي" في الحياة السياسية والحراك الاجتماعي الإسرائيلي، حيث ما زالت الأغلبية الساحقة من الشرقيين تصوت لصالح اليمين، وهذا يفسر أيضا دعم سكان بلدات التطوير لخطة "التعديلات القضائية"، إذ يتصرفون كقبيلة ملتزمة بدعم برامج حكومة اليمين، وذلك عكس ما يقوم به المنتمون إلى الطبقة المتوسطة من العلمانيين الغربيين.
مشاركة التيارات الدينية في الحكم ساهمت في تقليل فرص التوصل إلى حل سياسي للصراع مع الشعب الفلسطيني
ثانيا: صعود اليمين الديني المتطرف وتكلفته الباهظة
تنقسم القوى الدينية اليهودية في إسرائيل إلى تيارين أساسيين: التيار القومي الذي حرص على الاندماج في مؤسسات الدولة والمجتمع منذ إعلان قيام إسرائيل، والتيار الحريدي الذي تبنى في البداية مواقف انعزالية مطلقة ورفض الاندماج في مؤسسات الدولة، ثم أصبح مكونا مهما في النظام السياسي الإسرائيلي.
وقد شهدت توجهات المتدينين القوميين والحريديم تحولا في الحياة السياسية والاجتماعية وتأثيرهم على إسرائيل نتيجة لتطورين رئيسيين: نتائج حرب 1967 وانتخابات العام 1977.
فقد شكلت حرب 1967 والنتائج التي ترتبت عليها من احتلال الضفة الغربية، القدس وقطاع غزة، فرصة للتيار الديني القومي لقيادة مشروع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها حديثا، ومن خلال هذا المشروع أصبح هذا التيار له تأثير كبير على القرارات المتعلقة بالصراع مع الشعب الفلسطيني.
وبعد فوز حزب الليكود في انتخابات 1977 وجد نفسه غير قادر على تشكيل الحكومة بمفرده، مما دفعه للتحالف مع الأحزاب والحركات التي تمثل التيارين الدينيين القومي والحريدي.
هذا التحالف أتاح لهذين التيارين الانتقال من كونهما على هامش السياق السياسي إلى أن أصبحا في قلب الساحة السياسية، وبالتالي زاد تأثيرهما بشكل كبير على عملية اتخاذ القرارات.
لقد تمت ملاحظة أن مشاركة التيارات الدينية في الحكم ساهمت في تقليل فرص التوصل إلى حل سياسي للصراع مع الشعب الفلسطيني، وبالإضافة إلى ذلك أثرت هذه المشاركة في تعميق الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي والتيار الديني القومي الذي يتمثل حاليا في حكومة نتنياهو بواسطة الحركتين الأكثر تطرفا في الساحة الإسرائيلية، وهما "القوة اليهودية" بقيادة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، و"الصهيونية الدينية" بقيادة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش.
يرجع عدم استقرار النظام السياسي الإسرائيلي إلى استشراء الفساد وصعود الشخصانيات، إذ أصر نتنياهو على تشكيل ائتلاف يتيح له الإفلات من المحاكمة في القضايا الخطيرة المتعلقة بالفساد التي يواجهها، وهذا ما رفضته الأحزاب اليمينية "الليبرالية"، مما أفضى إلى إعادة الانتخابات
ويُعتبر القرار الأخير لإيتمار بن غفير والقاضي بتقليص زيارات عوائل الأسرى في سجون الاحتلال دليلا على حجم الفاتورة التي تدفعها إسرائيل بسبب صعود اليمين الديني إلى الحكم، حيث هناك إجماع داخل المؤسسة العسكرية والأمنية في تل أبيب على أن هذا القرار يمثل تهديدا لمصالح إسرائيل، إذ يزيد فرص اندلاع مواجهة شاملة دون مبرر موضوعي.
في المقابل، فإن مشاركة الحريديم في الحكم لعبت دورا في تفاقم الصدع المجتمعي، حيث تستغل الأحزاب الحريدية نفوذها لتقليص قدرة العلمانيين على العيش وفق منطلقاتهم، فقد دفع الحريديم الحكومة الحالية إلى اتخاذ قرارات تقلص من حضور المرأة في الفضاء العام، مثل الفصل بين الجنسين في العديد من المؤسسات وأماكن الاستجمام، بالإضافة إلى التشدد في فرض حرمة السبت، والسماح للمحاكم التوراتية بالبت في قضايا مدنية، وغيرها.
إلى جانب ذلك، فإن الحريديم يمثلون ثقبا أسود لإسرائيل، حيث الأغلبية الساحقة منهم لا تؤدي الخدمة العسكرية ولا تسهم في سوق العمل، ويستنزفون في المقابل مقدرات مالية ضخمة على شكل مخصصات ضمان اجتماعي ومساعدات لمؤسساتهم الدينية والاجتماعية والتعليمية نتيجة التأثير الطاغي الذي تحظى به الحركات التي تمثلهم في الحكومة.
ومن الواضح أن تكلفة اندماج الحريديم في النظام السياسي ستتزايد مع مرور الوقت بسبب مستويات الزيادة الطبيعية العالية لديهم، حيث إن متوسط عدد ولادات المرأة الحريدية يبلغ حوالي سبع ولادات.
تهاوي استقرار النظام السياسي
على الرغم من أن النظام السياسي الإسرائيلي اتسم منذ تشكله بمستوى محدود من حالة عدم الاستقرار بسبب طابع النظام الانتخابي وخصائص الخارطة الحزبية فإن هذا النظام شهد خلال الأعوام الأربعة الأخيرة حالة انعدام استقرار غير مسبوقة تجسدت في إعادة إجراء جولات انتخابية دون أن تسفر عن حسم واضح.
وتكمن المفارقة في أن تهاوي انعدام الاستقرار السياسي يأتي في ظل تآكل الفروق الأيديولوجية بين الأحزاب السياسية الإسرائيلية، فلم يعد من الموضوعي تصنيف الأحزاب في إسرائيل إلى يمين ووسط ويسار، حيث تتفاوت توجهات الأحزاب الممثلة في الكنيست الحالي بين اليمين الليبرالي واليمين المحافظ واليمين الديني المتطرف.
ويرجع عدم استقرار النظام السياسي الإسرائيلي إلى استشراء الفساد وصعود الشخصانيات، فنظريا كان من المفترض أن تسهم نتائج جولتي انتخابات الكنيست في عامي 2020 و2021 في تشكيل حكومة مستقرة، خاصة أن قوى اليمين حازت على أكثر من 80% من المقاعد، لكن نتنياهو كان مصرا على تشكيل ائتلاف يتيح له الإفلات من المحاكمة في القضايا الخطيرة المتعلقة بالفساد التي يواجهها، وهذا ما رفضته الأحزاب اليمينية "الليبرالية"، مما أفضى إلى إعادة الانتخابات.
وقد منح ضعف الأساس الأيديولوجي وتلاشي بريق الفكرة الصهيونية الفرصة لنتنياهو وغيره من الزعماء المتهمين بالفساد -خصوصا آرييه درعي زعيم حركة "شاس"- لمحاولة تشكيل الواقع السياسي بما يتناسب مع مصالحهم، وهذا ما يفسر اصطفاف قادة وجمهور حزب الليكود خلف نتنياهو رغم الاتهامات الخطيرة الموجهة له بالفساد وعلى الرغم من الإدراك بأن أنماط سلوكه السياسي قد تضر بمصالح إسرائيل.
كما يعود سبب حالة عدم الاستقرار السياسي في إسرائيل إلى نضوب المصادر القيادية، مما يُظهر لنا بقاء نتنياهو لفترة طويلة في الحكم على الرغم من الاتهامات المتتالية الموجهة إليه وفشل منافسيه في طرح بديل يقنع الجمهور.
وإضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاهل تأثير غلبة الشعبوية والاعتبارات السياسية الضيقة على إستراتيجيات الأحزاب والقادة، الأمر الذي عمّق حالة عدم الاستقرار.
وفي العقد الأخير ظهرت في إسرائيل توجهات ليبرالية تشجع على النزعة الفردية وتفضيلها على المصلحة القومية، مما قلص اهتمام الجمهور الإسرائيلي بتقديم دور حاسم لمواجهة التحديات التي تواجه النظام، ولم يظهر تدخل جاد من الجمهور إلا بعد طرح خطة "التعديلات القضائية" التي أثارت الجدل بين العلمانيين الذين يخافون من أن يؤدي تنفيذ هذه الخطة إلى تعزيز الإكراه الديني وأن يمتلك أتباع التيار الديني الحريدي الأمور المركزية في "الدولة"، خصوصا أنهم لا يشاركون بشكل فعال في الخدمة العسكرية وسوق العمل.
كما ساهمت هذه الإستراتيجية في تقليل فرص نشوب صراع بين العلمانيين والمتدينين، فقد اعتمدت على سياسة "الوضع القائم" التي سعت إلى إحداث توازن في العلاقة بين الدين والدولة، وذلك بمراعاة احترام القيم الأساسية للمتدينين، مثل احترام حرمة السبت والاستناد في قوانين الأحوال الشخصية إلى التراث الديني وغير ذلك، فيما في الوقت نفسه تسمح هذه الإستراتيجية للعلمانيين بتبني أنماط حياتهم الليبرالية بكل حرية.
وقد تميز تعاطي بن غوريون مع المتدينين استنادا إلى الفروقات في التوجهات الفقهية التي تحكمهم، فمن ناحية سمح بن غوريون لمعظم أتباع التيار الديني الحريدي -الذين يتجنبون الاندماج في المجتمع الإسرائيلي- بالإعفاء من أداء الخدمة العسكرية، ووافق على وجودهم في مناطق سكنية معزولة بعيدة عن المراكز العلمانية كمدينتي "بني براك" و"يهود" شمال شرق تل أبيب، وأحياء مستقلة في القدس المحتلة، أما المتدينون من أتباع التيار الديني القومي فقد اندمجوا في المجتمع والحياة السياسية وشاركوا في الخدمة العسكرية، لكن تأثيرهم السياسي والاجتماعي ظل محدودا.
لكن سرعان ما تهاوت إستراتيجية "بوتقة الانصهار".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.