ديمقراطية القرن الحادي والعشرين (1) | عن أي فشل تتحدثون؟
(1)
يقول الشاعر والمسرحي الفرنسي الكبير بيير كورنيي في مسرحيته الشهيرة "السيد" (Le Cid): "آه منك أيها الغضب العاتي، آه منك أيها اليأس، آه منك أيتها الشيخوخة العدوة.. أتراني عشت كل هذه السنين إلا لأشهد مثل هذا العار!".
لم أكن أتصور عندما حفظت هذه القصيدة في الستينيات، وأنا تلميذ في المدرسة الثانوية الفرنسية بطنجة، أنها ستصبح هاجسي في آخر العمر. نعم، أتراني عشت وناضلت كل هذه السنين فقط لأشهد هذا العار الذي تتخبط فيه تونس اليوم: دولة مفلسة، متسولة، تابعة، منعوتة بالعنصرية، دولة ليس فيها قانون ولا مؤسسات، رئيس تم انتخابه ديمقراطيًا فاغتال الديمقراطية، مستوليًا على كل السلطات، ولا يجد لتبرير انعدام كفاءته المطلقة إلا الإلقاء بالمسؤولية على متآمرين وهميين، ومنفذين حقيقيين سماهم بنفسه، والأدهى والأمر، حشود التونسيين في طوابير البحث عن الخبز والماء، أعمتهم الحملات الإعلامية والحقد الأيديولوجي عن تمييز الحقيقة من الوهم.
(2)
الحقيقة هي أن مشاعر الغبن والغضب والعار ليست وليدة هذه الفترة العجيبة؛ كنت طوال رئاستي (2011-2014) أشاهد، ولا أكاد أصدق ما أعيش، كيف استطاع الاستبداديون -بكل سهولة- الاستيلاء على كل الأدوات الديمقراطية التي ناضلنا من أجلها لعقود عديدة، ليحولوها إلى أدوات لضرب الثورة السلمية وتدمير ديمقراطيتنا الحديثة.
هكذا شاهدت حرية الرأي والتعبير، التي بحت حناجرنا للمطالبة بها، تصبح أداة في أيدي فلول النظام الاستبدادي لتحقير الثورة وقلب الحقائق وتضليل العقول وملء القلوب بالكراهية.
في ما حصل، أتحمل مسؤوليتي كاملة، لكن لماذا لا أنصف نفسي، إذا لم ينصفني أحد (ربما التاريخ)، وقد جاهدت طيلة حياتي لئلا أظلم أحدًا؟
هكذا رأيت حرية التنظيم، التي وقفنا بالمئات من أجلها أمام القضاء، تُستغل في فرص الانتهازيين والمغامرين ورجال الأعمال الفاسدين لبناء شركات سياسية حصلت في انتخابات 2014 على مقاعد أكثر من الأحزاب التي ناضلت ضد الاستبداد.
هكذا رأيت استقلال القضاء -نفس القضاء الذي حاكم الديمقراطيين طوال عقود- ينتج قضاة مسيسين، من بينهم قاضية شاركت في مظاهرات الثورة المضادة بزي القضاء وترشحت في الانتخابات الرئاسية. هكذا شاهدت الانتخابات الحرة والنزيهة التي حلمنا بها تعيد -بفضل المال والإعلام الفاسد- السلطة لأصحاب الانتهازية والاستبداد. وكأننا دفعنا بـ300 شهيد وألفي جريح وثورة عارمة، لكي تُسلم السلطة على طبق من ذهب لشخص اعترف بتزويره انتخابات 1981، وحارب الثورة ودجّل على المواطنين ببرنامج اقتصادي لم ير الشعب منه إنجازًا واحدًا، وكان أول قانون سنه عند فوزه في رئاسيات 2014 هو الصلح مع الفاسدين.
وجدت نفسي مستهدفًا من زملاء نضال سابقين، تجاهلوا أنني كنت -وما زلت- من أكبر المتضررين من سياسات النهضة
(3)
في ما حصل، أتحمل مسؤوليتي كاملة، لكن لماذا لا أنصف نفسي -إذا لم ينصفني أحد (ربما التاريخ)- وقد جاهدت طيلة حياتي لئلا أظلم أحدًا؟ للتوضيح وليس للتبرير أو التملص. في إطار تقاسم السلطة بين الأحزاب الثلاثة المنتصرة في انتخابات المجلس التأسيسي، تم انتخابي رئيسًا بصلاحيات محددة، وهي: العلاقات الخارجية والأمن القومي، وتولت حركة النهضة ملفات الداخلية والعدالة، ناهيك عن رئاسة الحكومة. كنت أعتقد أن حكومة النهضة ستسعى لتحقيق أهداف الثورة، فإذا بي أتفاجأ بالعكس.
قصة واحدة تُسلط الضوء على الجو العام. طلبت مرارًا إيقاف رجل أعمال فاسد يدعى كمال لطيف، الذي كان يتآمر بشكل علني ضد الثورة معتمدًا على علاقات معقدة مع الأمن، مما أضاف إلى خطورته. لكن وزارتي الداخلية والعدل ترددتا في تنفيذ طلبي، فزدت في الإلحاح. وأخيرًا، صدر الأمر بالقبض عليه. وللتأكد من تنفيذ الأمر -إذ كان للشرطة التابعة لوزارة الداخلية فقط الحق في الإيقاف- بعثت الأمن الرئاسي لمراقبة العملية، فعاد الأعوان بتقرير يفيد بأن الرجل قاوم الاعتقال، وحتى أنه ضرب أحد الشرطيين، ولكنه تُرك في منزله. وكان وزير العدل نور الدين البحيري قد أتاح له الحضور في اليوم التالي أمام القضاء، الذي أبقى عليه في حالة سراح.
هذا الرجل، الذي اعتقله المُنقلِب فبراير/شباط الماضي، اكتسب شعبية كبيرة نتيجةً لذلك. ومع ذلك، فإن تضمينه بين المعتقلين السياسيين كان مجرد إستراتيجية لتغطية الطابع السياسي لمعظم الأشخاص المعتقلين.
أضيف إلى قائمة النزاعات التي لا تعد ولا تحصى مع النهضة أنها رأت أن مداهنة الثورة المضادة أهم من تحقيق أهداف الثورة، وأن رضا الأعداء أهم من رضا الأصدقاء؛ وهكذا بدأ الخلاف يتزايد يومًا بعد يوم، خصوصًا بعد تسليم البغدادي المحمودي -ضد رغبتي- وفشل قانون حماية الثورة، والتراخي المتعمد في ترسيخ العدالة الانتقالية.
الغريب هو أن أجد نفسي مستهدفًا من جميع الأطراف السياسية، رغم اختلاف مواقفها في عديد من المجالات؛ فوجدت نفسي موضوعًا للهجوم من أنصار النظام القديم، الذين لن يغفروا لي تحالفي مع "الخوانجية"، وهذا متوقع ومقبول، ولكن أن أجد نفسي مستهدفًا من النهضويين لأنهم لا يتقبلون النقد، هذا ما يبدو غريبًا!
أضف إلى ذلك أنني وجدت نفسي مستهدفًا من زملاء نضال سابقين، تجاهلوا أنني كنت -وما زلت- من أكبر المتضررين من سياسات النهضة. فوقوفي معها كان -ولا يزال- استنادًا إلى مبدأ حقوق الإنسان الذي يرفض المساس بحق أي شخص، واستنادًا إلى الموقف الديمقراطي الذي يقبل فقط بسلطة الصندوق، واستنادًا إلى الموقف السياسي الذي يعتقد أننا من حقق النجاح بإقناع جزء من الإسلاميين بالديمقراطية.
تعرضت لعديد من الإغراءات والضغوطات لكي أنهي ارتباطي مع النهضة. أذكر -والله شهيد على ما أقول- أن رئيس دولة عرض عليّ بوضوح أن أغير التحالف وسأحصل على كل ما أرغب، تجاهلت ما قال، فانتقل بسرعة إلى موضوع آخر، بعدما فهم أنه كان يقترب من باب مغلق.
كما كان موجعًا -بالنسبة إليّ- أن يتعرض حزبي لانشقاقات بسبب استمرار التحالف مع حزب كان واضحًا أنه انحرف تمامًا عن مسار الثورة.
كان قلبي يتعاطف مع المنشقين، بينما كان عقلي يعارضهم. كنت أدرك جيدًا أن فك الارتباط في هذا الوقت الحرج، حينما نواجه هجوم الثورة المضادة، لن يزيد الطين إلا بلة، ناهيك عن الموقف الأخلاقي الذي يمنع الحليف من الغدر بحليفه.
المضحك البكي هو أن حزب النهضة هو الذي قرر فك الارتباط عندما دعا الغنوشي، بكل جرأة، لدعم ممثل الثورة المضادة ضدي. وبهذه الطريقة، تمت تصفية الثورة بصفقة سياسية (دعم في الانتخابات الرئاسية مقابل ضمان الأمان). والشيء الوحيد المتبقي هو تقديم الأعذار، مع الزعم أن هذا القرار قد أنقذ تونس من مذبحة كانت موجودة فقط في خيال من صاغوا هذه المبررات.
للأسف، السير على هذا الطريق الخاطئ مستمر؛ الصمت بشأن قانون المصالحة مع الفساد الذي أصدره السبسي فور انتخابه، والمشاركة في أكثر حكومة فاسدة عرفتها تونس، وهي حكومة يوسف الشاهد، وأخيرًا التحالف مع حزب رجل أعمال معروف بمحاربته الثورة، وكل ذلك من أجل الوصول إلى رئاسة برلمان قام المُنقلِب بحله بتأييد شعبي واسع.
كان الغنوشي وأتباعه يظنون أنهم قد أغلقوا باب الجحيم الذي فُتح على الإخوان في مصر، ولكن الواقع أنهم قد فتحوه بأبوابه الواسعة. الواقع هو أنهم فقط امتدوا لسنوات ستكون مليئة بالنحس لهم ولنا جميعًا، وقد انتهت كما يعرف الجميع.
(4)
لم أخلط يومًا بين المستويات، خاصة بين المستوى الإنساني والسياسي، والأولوية كانت دائمًا للإنساني مهما كلف الأمر. لم أخضع أبدًا لمنطق المتشددين: "من ليس معي 100%، فهو ضدي 100%"، ولا لحيلة "ليس هذا الوقت الملائم للنقد". أنا معك حتى لو كنت ألد الأعداء، إذا اقتنعت بأنك على حق، وضدك مهما كنت قريبًا أو صديقًا، إذا اقتنعت بأنك على خطأ.
من هذه المنطلقات، أقول: إن سجن راشد الغنوشي -وقد تجاوز الـ80 ويعاني أمراضا عدة في ظروف السجن وفي المناخ الحالي- هو بمثابة تعمد لجريمة قتل. والأمر نفسه ينطبق على وزير الفلاحة الأسبق محمد بن سالم، ورئيس الحكومة الأسبق على العريض. لذا، أحمّل المُنقلِب ووزيرة العدل ووزير الداخلية المسؤولية الجنائية لما قد يحدث لهؤلاء الثلاثة، ولأي أذى قد يلحق بجميع أسرانا الديمقراطيين، سواء كانوا علمانيين أو إسلاميين، مع تأكيد التضامن المطلق معهم ومع عائلاتهم.
لكن، وبالوضوح نفسه، أقول للديمقراطيين العلمانيين والإسلاميين، الذين سيحظون بشرف استئناف الثورة وتحقيق أهدافها، وأيضًا لكل العرب الذين قد تضعهم الأقدار في موقع بناء نظام ديمقراطي: ادرسوا جيدًا تجربة سياسة النهضة وافعلوا بالضبط العكس، أي لا للتوافقات، لا للحلول الوسطى، لا للطيبة، لا للطوباوية، لا للخوف، ولا للتفاؤل المفرط مع أي شكل يتخذه الشر، سواء كان استبدادًا، أو ثورة مضادة، أو انقلابًا على الدستور الديمقراطي. وهذه كانت السياسة الناجحة لأولئك الذين ناضلوا قبلنا ضد الاستعمار والأبارتهايد.
تشير التجارب العابرة إلى أن دوركم ليس فقط في حماية الثورة وإطالة عمر الديمقراطية، بل أيضًا في حماية أنفسكم. أبرز ما استفادته الأحداث، وليس فقط تلك الأحداث الأخيرة، هو أن الاستبداديين لن يقبلوا بوجودكم، حتى وإن قدمتم أقصى التنازلات وأضأتم أصابعكم العشرة شمعا. ستكون مكانتكم في نظرهم إما بين أضلع الأرض، أو خلف جدران السجون، أو في أعماق المنفى. والأدلة اليوم تضيء أمامكم بوضوح أكبر من شدة الشمس في وسط النهار.
(5)
من الخطأ مجرد التصور أن السبب الوحيد وراء فشل تجربتنا الديمقراطية هو تآمر بعض الدول الإقليمية، أو تخريب فلول النظام القديم، أو تشتت القوى الثورية، أو أخطاء حركة النهضة، أو حتى تقصيري الشخصي في الدفاع عن الثورة.
من الصحيح أن حسابات حركة النهضة قد أخطأت، وربما كان ينبغي عليّ الاستقالة احتجاجًا على سياستها، ومن الصحيح أيضًا أن هناك قرارًا إقليميًا بتصفية الربيع العربي، وكنا نفتقر إلى القوة والحلفاء الكافيين لمواجهة هذا العدوان. وبالمثل، فإن جميع القوى الديمقراطية العلمانية اليسارية التي حاربتنا، مستندة إلى رفضها حكومة تضم أعضاءً إسلاميين، قد ارتكبت أخطاءً فادحةً يتم دفع ثمنها اليوم. ومن الواضح أيضًا أن الاتحاد العام التونسي للشغل قام بدور غير مشرف في تقويض الثورة، وهو الآن يدفع الثمن باهظًا. ولكن ينبغي ألا تحجب أخطاء بعض الأفراد الرؤية الأوسع، وهي العيوب الهيكلية في النظام الديمقراطي التونسي التي سمحت بالتخلص منه بهذه السهولة.
التجربة التونسية لم تكن إلا تجربة كاريكاتيرية انفضحت فيها نقط الضعف في هذا النظام. وهي العيوب الهيكلية نفسها التي تتسبب في ما تعرفه الديمقراطية من مشاكل وتحديات في العالم كله.
هذه العيوب الهيكلية هي التي سأحاول تشخيصها في هذه السلسلة من المقالات والهاجس ما الدروس التي يجب أن نستخلص لبناء أنظمة ديمقراطية لا تدوم في بلداننا إلا ما تدومه حرائق القشّ.
الحلقة المقبلة عن ضرورة تفحص دروس الماضي ومعطيات الحاضر قبل الحديث عن أي مستقبل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.