الغابون.. لماذا انهار عرش آل بونغو؟
كثير من الذين زاروا الغابون للاستمتاع بالغابة الاستوائية الخضراء والسهر على أنغام الموسيقى الأفريقية الصاخبة، لم يفهموا ما حدث في الصباح الباكر يوم 30 أغسطس/آب الماضي. ولا شك أنهم محقون؛ فالزائر إلى هذا البلد الغني ذي الطبيعة الخلابة، والذي ينام بسلام في أحضان خليج غينيا، قد لا يتصور أن يثور أهل الغابون ميسورو الحال ضد آل بونغو ويتظاهرون فرحين، وهم يحملون الرايات الثلاثية تمامًا كما فعل أجدادهم في غينيا وبركينا فاسو والنيجر مؤخرًا. ولكن الذين يعلمون أسرار الأمور في ليبرفيل، والمهتمين بتطورات الأوضاع السياسية في الغابون منذ رحيل الزعيم التاريخي الحاج عمر بونغو؛ كانوا يتوقعون ما حدث، وربما يرون أنه تأخر كثيرًا.
يتناول هذا المقال أسباب انهيار مملكة آل بونغو، وينطلق من فرضية أن انقلاب الغابون هو استجابة لضرورات محلية بحتة وقديمة، وأن الانقلاب لن يمس في المستقبل المنظور المصالح الاقتصادية للقوى الخارجية، وعلى رأسها فرنسا والصين، وذلك لأسباب سنعرضها في مقالات أخرى.
جمهورية الغابون بلد ذو خصوصية وجاذبية فريدتين؛ فهي تقع كخاصرة للقارة الأفريقية، وتعمل كصلة وصل تربط بين دول وسط أفريقيا ودول غربها. ورغم صغر مساحتها وقلة سكانها، فإن الغابون لم تشهد أية حروب داخلية أو صراعات عرقية. ومنذ اكتشاف النفط، أصبح من بين أغنى دول أفريقيا؛ مما جعله يُلقب بـ"كويت أفريقيا"؛ وبالتالي أصبحت الهجرة إلى الغابون أمنية عزيزة على قلوب الشباب من دول غرب أفريقيا ووسطها.
الرئيس عمر بونغو: "أفريقيا الفرانكفونية بلا فرنسا مثل العربة بلا سائق، وفرنسا بلا أفريقيا الفرانكفونية مثل عربة بلا وقود"
مثل سائر المستعمرات الفرنسية السابقة، نالت جمهورية الغابون استقلالها عام 1960، وهو عام الاستقلال للمستعمرات الفرنسية في غرب أفريقيا، وأصبحت الفرنسية اللغة الرسمية للبلاد. ويعد الزعيم ليون مبا أبا للاستقلال، وحكم البلاد منذ استقلالها وحتى وفاته عام 1967، وخلفه نائبه ألبرت بونغو، الذي اعتنق الإسلام عام 1973 وأصبح يعرف بالحاج عمر بونغو.
حكم عمر بونغو الغابون على مدى 4 عقود ونصف العقد، وتشكلت على يديه البلاد بوضعها الراهن. وخلفه ابنه علي بونغو الذي حكم البلاد 14 عامًا قبل أن يطيح به انقلاب الجيش في صبيحة يوم 30 أغسطس/آب 2023، وتنتهي -ربما إلى حين- أسطورة عائلة بونغو.
عمر بونغو الزعيم الحكيم
الحاج عمر بونغو أوندمبا من مواليد 1935، وأكمل تعليمه الأول في الجارة الكونغو، ثم انخرط في سلك الجندية وتخرج ملازمًا في سلاح الجو، وخاض معترك السياسة في بلاده مبكرًا، وتتلمذ على يد زعيم الاستقلال ليون مبا. ونظرًا لكفاءته وإخلاصه ترقى في سلم السياسة بسرعة فاقت عمره، فأصبح مديرًا لمكتب الرئيس ثم وزيرًا ثم نائبًا للرئيس، ثم ورث الحكم بعد وفاة الرئيس مبا عام 1967، ويعد من أصغر السياسيين الذين وصلوا إلى منصب الرئيس في أفريقيا.
كان قصير القامة، حاد الذكاء، سريع الحركة، له شارب كثيف طويل، يرتدي نظارات داكنة تعطي شخصيته غموضًا مشوبًا بتعاويذ أفريقية، يرتدي أفخم الملابس من أرقى أماكن الموضة في باريس، ويلبس أحذية عالية ليبدو طويلًا، ولكنه يحظى باحترام واسع في أفريقيا وفي الدوائر الفرنسية كلها من اليمين واليسار. إنه الحاج عمر بونغو أوندمبا، الرئيس الأشهر في تاريخ الغابون السياسي المعاصر، وآخر الزعماء الكبار في القارة.
حكم الحاج عمر بونغو الغابون 42 عامًا، ويرجع ذلك لطبيعة شخصيته المسالمة وحكمته في احتواء معارضيه، وكان يتقرب إليهم بالمناصب ويغدق عليهم من أموال النفط الوافرة، ولا يتردد في استخدام عصا الدولة الغليظة إن دعا الأمر؛ لذلك تمكن من الحفاظ على السلام الاجتماعي في بلاده، وخلال فترة حكمه الطويلة لم تشهد الغابون أية مشاكل أو صراعات قبلية، رغم أنها تقع في منطقة ملتهبة اجتماعيًا. وساعدته حالة الاستقرار في بناء عاصمة جميلة، ودولة مزدهرة، وأصبح مستوى دخل الفرد واحدًا من أعلى النسب في القارة الأفريقية.
استطاع عمر بونغو أن يواكب التطور السياسي في القارة بذكاء؛ فأنشأ الحزب الديمقراطي الغابوني الذي حكم البلاد حتى عام 1990، حيث بدأت موجة التعددية الحزبية، فعدل النظام السياسي ليسمح بالتعددية الحزبية، لكنه ظل يمسك بقوة بخيوط اللعبة السياسية في بلاده، وظل يفوز بالانتخابات من دون منازع حتى آخر فوز له في انتخابات عام 2005.
وحتى يرضي المعارضة عمد إلى تشكيل حكومات ذات توافق عريض وتسع الجميع. وعندما أدخل بعض معارضيه السجن سأله صحفي: "كيف تتحدث عن الديمقراطية وأنت تسجن المعارضة؟" فأجابه بهدوء "عندما يمسكون الحكم سيسجنوننا، وعندما نمسك الحكم نضعهم في السجن، إنها الديمقراطية الأفريقية".
كانت له علاقات متينة مع فرنسا، ورغم تغير نظم الحكم في باريس بين اليمين واليسار، فقد ظل حليفًا موثوقًا لها؛ لذلك كان كل رئيس فرنسي يحرص على زيارة الغابون والتقرب منه وطلب دعمه. وبلغت به القوة أنه عندما يزور باريس يأتي إليه السياسيون الفرنسيون في فندقه ولا يذهب إليهم في مكاتبهم.
وكانت له رؤيته الخاصة للعلاقة بين فرنسا وأفريقيا أعرب عنها بعبارة بليغة وغامضة قائلا إن "أفريقيا الفرانكفونية بلا فرنسا مثل العربة بلا سائق، وفرنسا بلا أفريقيا الفرانكفونية مثل عربة بلا وقود".
القبضة الفرنسية الناعمة
انتبهت باريس منذ فترة مبكرة إلى أهمية الغابون بموقعها الجغرافي المتميز وثرواتها الغابية والمعدنية التي تعاظمت بعد اكتشاف النفط؛ لذلك وضعت يدها على موارد الغابون التي تسيطر عليها شركات فرنسية بعقود طويلة المدى، وكانت المحافظة على هذه الميزة التفضيلية تعد من مرتكزات السياسة الفرنسية في الغابون. ولا تتوانى باريس عن التدخل واستخدام القوة إذا تضررت مصالحها الإستراتيجية في الغابون؛ فقد فعلت ذلك عندما حدث أول انقلاب في البلاد عام 1964 وأطاح بالرئيس ليون مبا، واعتقل الرئيس ومدير مكتبه الشاب عمر بونغو، ولكن القوات الفرنسية تدخلت بأمر من ديغول مباشرة وقضت على الانقلاب وأعادت حليفها إلى السلطة. وكانت يد باريس واضحة في ترتيب أمر الحكم بعد وفاة الرئيس عمر بونغو عام 2009، وعملت على نقل السلطة بهدوء إلى ابنه علي بونغو.
حافظت فرنسا على علاقات متميزة مع كل زعماء المعارضة في الغابون، واستضافت أكثر من لقاء بين الحكومة والمعارضة لتسهيل الحوار وتسوية النزاعات بين الرئيس علي بونغو والمعارضة؛ لذلك فإن باريس لن تسمح بأي تغيير ينهي مصالحها الواسعة وقبضتها الناعمة على موارد الغابون مهما كان الثمن.
الخليفة علي والميراث الثقيل
ورث علي بونغو أوندمبا رئاسة الغابون من والده عمر بونغو أوندمبا، الذي توفي عام 2009 بعد حكم دام 42 عامًا. لم يواجه علي بونغو مقاومة كبيرة عند توليه السلطة، لكنه واجه تحديات متزايدة في إدارة البلاد بشكل مختلف عن والده؛ فلم يكن علي بونغو يتمتع بحكمة والده الذي كان يجيد التعامل مع المعارضة والشعب بالحوافز والعقوبات، أما علي بونغو فكان أكثر صرامة وتسلطًا في سياسته؛ مما أثار احتجاجات وانقلابات ضده.
كانت المعارضة وقطاع واسع من المثقفين يرون أن الأفق السياسي في بلادهم مسدود، وأن منظومة الحكم قد صممت لخدمة حزب واحد يريد أن يحكم الدولة وأن يتوارث الحكم كابرا عن كابر. وسرعان ما تعاظم هذا الحراك، وظهر إلى العلن بشكل لا مواربة فيه في الانتخابات التي جرت عام 2016، وتحالفت أحزاب المعارضة وتجمعت خلف مرشح واحد لمواجهة الحزب الديمقراطي الغابوني ومرشحه الرئيس علي بونغو.
كانت انتخابات مهمة وقوية؛ فالمعارضة تجمعت حول وزير خارجية عمر بونغو السابق، وأحد المقربين منه طوال فترة حكمه، هو الوزير جان بينغ، واستطاعت أن تحشد مؤيدين كثيرين، بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ المنافسة السياسية في البلاد. وفاز الرئيس علي بونغو في انتخابات 2016 لكن بفارق ضئيل ومثير للتساؤل والجدل، حيث كان الفارق بين المرشحين نحو 6 آلاف صوت فقط. كان فوزًا كهزيمة، وكشفت النتيجة عن أن عرش آل بونغو يهتز، ولا بد من تدابير عاجلة لإنقاذه.
بعد فوزه المثير للجدل في انتخابات 2016، سعى الرئيس علي بونغو أوندمبا -بمساعدة من فرنسا وبعض حلفائه- لتدارك الأمور حتى لا تنزلق البلاد إلى ما لا يحمد عقباه. فنظم حوارًا وطنيًا شمل المعارضة والمجتمع المدني، ولكن الحوار لم يأتِ بالنتائج المرجوة؛ فقد علق في 3 قضايا جوهرية: تخفيض مدة ولاية الرئيس لتكون 5 سنوات بدلاً من 7 سنوات، وتحديد ولاية الرئيس لتكون دورتين فقط، وتغيير النظام الانتخابي ليكون على جولتين بدلا من جولة واحدة؛ حيث يتنافس في الجولة الأولى أي عدد من المرشحين وإذا لم يحرز أحدهم أكثر من نصف الأصوات تجرى جولة ثانية يتنافس فيها أعلى مرشحيْن.
ولكن الحزب الحاكم وافق فقط على تخفيض الفترة الرئاسية لتكون 5 سنوات ورفض الخوض في بقية المقترحات؛ هذه النتيجة زادت حالة الاحتقان السياسي وسط النخبة السياسية، وعبرت عن ذلك بمسيرات متعددة في العاصمة ونقاشات ساخنة في الصحافة ووسائط الإعلام على مستوى البلاد، ومما زاد الطين بلة الأزمة الصحية المفاجئة التي ألمت بالرئيس علي بونغو، إثر إصابته بجلطة حادة عام 2018 اضطرته إلى التوقف عن ممارسة مهامه الرئاسية أكثر من 10 أشهر اختفى فيها عن الأنظار تمامًا، ورغم تحسن حالته الصحية وعودته لممارسة مهامه فإن آثار الجلطة ما تزال بادية عليه؛ فالرئيس أصبح شبه عاجز عن أداء مهامه الجسيمة.
في عام 2019، قام رئيس الحرس الجمهوري بمحاولة انقلابية لم تستمر طويلًا، وكانت هذه المحاولة الفاشلة مؤشرًا مهمًا إلى ما آلت إليه الأوضاع في الغابون. في هذا الجو السياسي المكفهر، جاء استحقاق انتخابات 2023. ونصح بعض المشفقين -بما فيهم فرنسا- الرئيس علي بونغو بعدم الترشح نظرًا لحالته الصحية، وأن يختار خليفة له من حزبه ويدعمه للفوز، ولكن أصحاب المصلحة كانوا أعلى صوتًا ودفعوا بالرئيس إلى التهلكة وزيّنوا له الترشح لدورة ثالثة.
جرت الانتخابات الأخيرة وسط حالة إحباط سياسي وعزوف جماهيري بسبب الشكوك المتزايدة حول عدم شفافية الانتخابات كمظهر من مظاهر الفساد الإداري والمالي الكبيرة التي اتسم بها النظام، وسرت تكهنات كثيرة بأن هذه الانتخابات لن تكون كغيرها، وأنها قد تنهي عرش آل بونغو طوعًا أو كرهًا.
رئيس معلول وحزب منخور وأفق سياسي مسدود؛ وليس أدل على ذلك من أنه لأول مرة تظهر معارضة من كبار قادة الحزب لإعادة ترشيح الرئيس المريض. حاولت الدولة أن تتخذ أقصى درجات الحذر في إدارة العملية الانتخابية وإعلان النتائج، وقررت أن تحتوي رد فعل الشارع بأسرع ما يكون؛ فأعلنت حظر التجول من السادسة مساء، وقطعت شبكة الإنترنت صبيحة يوم التصويت، واستنفرت قوات الأمن والشرطة تحسبًا لما يحدث.
أثارت نتائج الانتخابات التي كان ينتظرها الجميع دهشة الكثيرين، حيث تم الإعلان عنها عند الساعة 3:30 صباحًا، من دون سابق إنذار والناس نيام، ولكن القدر كان أسرع؛ فانقض نفر من القوات النظامية على حكم آل بونغو في انقلاب لم يكن مفاجئًا لجميع المراقبين. وأدى الانقلاب إلى وضع البلاد كلها على شفا مرحلة جديدة مفتوحة على كل الاحتمالات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.