مع شاعر الشعب والإسلام.. وليد الأعظمي
هذا شاعر اختلفوا في النظر في إنتاجه، لكن أحدا لم يختلف في تقييم أثره، قالوا عنه إن شعره "مباشر" وإنه "شحنة عاطفية مركزة"، ولكن هذا تحديدا قد يكون السبب في وصوله إلى الناس، وبقائه على الألسنة، فميادين الثورات، وأولئك الناشطون على الأرض، يتفاعلون أكثر مع بلاغة واضحة وعاطفة جياشة، بعيدة عن الإغراق في المجاز والفلسفة.
عمن نتحدث؟
إنه الشاعر العراقي الكبير وليد الأعظمي، ذلك الرجل الذي أعجزهم وصف جوانب إبداعه المتعددة، فقالوا عنه إنه "موسوعة متحركة"، فإلى جانب الشعر، هو مؤرخ وأديب وكاتب رأي، وهو أحد كبار فناني الخط العربي.
ولكننا نقف عنده اليوم بوصفه شاعرا، من أولئك الذين تتردد أشعارهم على ألسنة الملايين من العرب المسلمين في أنحاء العالم سواء علموا أو لم يعلموا من كتبها.
هل سمعت النشيد الذائع:
يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي … أنّا بغير محمد لا نقتدي
وهل سمعت:
من مشرق الدنيا لأقصى المغرب … روح تحن إلى تعاليم النبي
ولا يمكن النظر إلى وليد الأعظمي الشاعر دون النظر إلى وليد المناضل، الذي يعيش من أجل قضية، فشعره كله مكرس لقضية واحدة، الاتساق الفكري والعاطفي والنضالي هو الخيط الناظم له.
شاعر وثائر
ولد شاعرنا في العراق عام 1930 في حي الأعظمية ببغداد على بعد خطوات من مسجد الإمام أبي حنيفة النعمان، أسرته متدينة، ونشأته ارتبطت بالمساجد ودروس العلم، فحضر لقاسم قيسي مفتي بغداد، وأمجد الزهاوي، وتقي الدين الهلالي، ومحمد القزلجي الكردي، وعبد القادر الخطيب، وحمدي الأعظمي، وغيرهم.
وسرعان ما انخرط في النشاط الحركي والسياسي، فشارك في مظاهرات 1948 التي أسقطت المعاهدة الاستعماريّة في العراق، وأسهم في تأسيس "جمعية الأخوة الإسلامية" (فرع جماعة الإخوان المسلمين في العراق) عام 1949، وشارك في جميع أنشطتها، ثم شارك عام 1960 في تأسيس الحزب الإسلامي العراقي (الذراع السياسي للجمعية).
أما ثقافيا، فقد شارك في تأسيس جمعية المؤلِّفين والكُتَّاب العراقيين، وجمعية الخطاطين العراقيين، ومنتدى الإمام أبي حنيفة في الأعظمية.
يقول المستشار عبد الله العقيل صاحب كتاب "من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة" واصفا لقاءاته الأولى بوليد الأعظمي: "كانت (مكتبة الإخوان المسلمين) في الأعظمية من الأماكن التي نكثر التردد عليها، حيث تجري المناقشات الدعوية والمطارحات الشعرية والمساجلات الأدبية فضلاً عن المسابح على ضفاف نهر دجلة، حيث تمارس السباحة والرياضة".
ويضيف "كنت ألمح في أخي وليد الأعظمي هذا الحماس والعطاء المتدفق والعمل الدؤوب والغيرة الصادقة على الإسلام… كانت بواكير شعره تنطلق من أعماق قلب مؤمن وكبد حرّى، كما كان حبه لإخوانه العاملين في حقل الدعوة الإسلامية السائرين في ركب كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة هو الطابع الغالب على أشعاره، وقد اشترك معنا في المظاهرات الشعبية بقيادة الشيخ محمد محمود الصواف ضد معاهدة "بورتسموث" حتى سقطت حكومة صالح جبر التي عقدتها وألغيت المعاهدة، وقد أولاه الأستاذ الصواف عناية كبيرة، فكان يشجعه ويقدمه في المحافل العامة لينشد الشعر الإسلامي وينشره في مجلة "الأخوة الإسلامية" كما كان يصحبه في زيارة المدن العراقية".
و"قد ذاع صيته وانتشرت قصائده وأشعاره في العالم العربي كله، وكان الشباب يترنم بها في المناسبات، وقد أسهم بإلقاء الكثير من القصائد في البلدان التي زارها مثل الكويت وسوريا والأردن وفلسطين والجزائر والسعودية والإمارات واليمن وغيرها".
لم يكن إذن مجرد شاعر، بل كان داعية ومناضلا بالدرجة الأولى، يعيش من أجل قضية هي العودة إلى الإسلام بجذوره السمحة الوسطية، والتحرر من الاستعمار الفكري والعسكري، لا في العراق وحدها، بل في كل بلاد المسلمين، وقد ظل هذا هو موضوعه الشعري الوحيد، وظهر ذلك في دواوينه الأربعة: "الشعاع" و"الزوابع" و"أغاني المعركة" و "نفحات قلب".
لا يمكن النظر إلى وليد الأعظمي الشاعر دون النظر إلى وليد المناضل، الذي يعيش من أجل قضية، فشعره كله، مكرس لقضية واحدة، الاتساق الفكري والعاطفي والنضالي هو الخيط الناظم له
"مباشر".. ولكن
وهنا نصل إلى النقد الذي يوجه له، يقولون: "كان مباشرا، وعاطفيا"، والواقع أنه كان كذلك، ولكن هذه السمات ليست بالضرورة شيئا سلبيا، فالواقع أن أكثر الأعمال حياة -ربما على مر التاريخ- كانت مباشرة وعاطفية، فعندما تكون في معركة نضالية، لا تملك ترف التهويمات والرسائل الضمنية.. كل شيء يجب أن يكون واضحا ومباشرة وعاطفيا، وبليغا.. وهكذا كان.
كانت أشعار الأعظمي، والأناشيد التي غنيت عنها، عنصرا أساسيا في رحلة النمو الفكري والعاطفي لقطاعات كبيرة من الشباب في المنطقة، ارتبطوا بالمعاني التي أوصلها لهم بليغة مدوية، تثير الخيال والعواطف، وتحث على العمل والنهوض، فغنوها في ميادين الكفاح من أجل الحرية والتحرير.
وقد صفوه أيضا بأنه "شاعر الحقائق"، فقد كان شعره يصف حال الأمة وواقعها بشكل يثير الأسى والحزن، وقد أدركت حكومة عبد الكريم قاسم خطورة شعره، فحذفت أبياتا من ديوانه "الزوابع" في طبعته الأولى، وضيقت عليه.
لذلك، لا يمكن التسليم بنقد مثل الذي كتبه ناصر يوسف شبانة عن الأعظمي، وقد اتهمه بأن "تركيزه على المضمون قلل من اهتمامه بجمال الشكل، وجعل شعره أقرب للرسالة أو الخطبة أو النصيحة"، ووجه اختلافنا معه هو كما ذكرنا أن لشعر الميدان والنضال سمات خاصة لا يراعيها النقاد، وهذه السمات هي بذاتها ما تكسب هذا الشعر حياة بجزالة لفظه ووضوح معناه، وتفاعله مع الأحداث، فتظل كلماته تقفز إلى الأذهان كلما استدعتها مناسبة، وهذا ما سجله رفيقه في النضال في العراق، محسن عبد الحميد، حيث ذكر أنه لاحظ عندما ذهب للتدريس في جامعات المملكة المغربية عام 1982 أن كثيرا من الطلاب يحفظون مقاطع من شعر الأعظمي، وينشدونها.
في ضوء ذلك، فإننا نحتاج إلى مقاييس جديدة للنقد الأدبي تنظر لجماليات النص مقارنة بتأثيره في نفوس الجماهير، فالقصيدة الجميلة هي التي تحمل مضمونا يفهمه الناس، ويتأثرون به، ويغنونه في ميادين الكفاح، وكانت كل قصائد الأعظمي من هذا النوع، ولذلك يقول محسن عبد الحميد: "لقد ولد شعره من رحم الأمة، وأعماق آلامها وجراحاتها وآمالها، فهو يذكر بالماضي التليد، ويحرك الحاضر البائس، وينشد للمستقبل الباسم".
ويعتبر عبد الحميد أن الأعظمي أحد 3 شعراء في العصر الحديث (إقبال والأميري ووليد) انحازوا بشعرهم كله إلى الحق والإسلام ودعوا بوضوح إلى الذات المسلمة المتوازنة، وبناء دولة إسلامية عادلة.
أما الأول (محمد إقبال)، فقد عبر عن هذه المعاني من خلال شعر فلسفي ساطع. والثاني (عمر بهاء الدين الأميري) انطلق من خيال شعري رائع. والثالث (وليد الأعظمي) تميز شعره بومضات ألق عاطفي متأجج.
شاعر الشعب
أما الشيخ يوسف القرضاوي فقد وصف وليد الأعظمي بأنه "شاعر الشعب"، فهو يشدو للشعب حين يفرح، ويبكي له حين يأسى، ويزأر من أجله حين يظلم، ويصرخ صراخ الحارس اليقظ إذا أهدرت حقوقه وديس حماه.
كما وصفه بأنه "شاعر الإسلام"، مبررا ذلك بأن "كل شاعر حقيقي للشعب لا بد أن يكون شاعرا للإسلام، فالإسلام هو دين الشعب ومنهجه الذي ارتضاه الله له، وارتضاه هو لنفسه بمقتضى عقد الإيمان، وكل من زعم نفسه شاعرا للشعب وهو يجافي الإسلام ودعوته، فهو كاذب في دعواه، خائن للشعب، مزور عليه، بل عدو له".
ويضيف القرضاوي: "والإسلام الذي آمن به شاعرنا هو الإسلام الحق، الإسلام الأصيل لا المغشوش، الإسلام القوي لا الضعيف، الإسلام الذي لا يعرف اليأس ولا الهزيمة ولا الاستسلام، والأعظمي يتمتع بطاقة شعرية ثرية سخية، ويتمتع شعره بالسلاسة والصدق وحرارة العاطفة ووضوح الفكرة وسهولة التعبير".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.