انتفاضة القبائل العربية وفرص تعجيل المصالحة التركية السورية

U.S. Forces Conduct Operations In Northern Syria
نظام الأسد بدا مبتهجًا بالمواجهات ووصفها بأنها نضال وطني ضد الاحتلال الأميركي (غيتي)

رُبّ ضارة نافعة"، هذه المقولة تنطبق على المواجهات التي تشهدها محافظة دير الزور بين القبائل العربية وبين قوات وحدات "حماية الشعب" وحزب العمال الكردستاني، اللذين ينضويان تحت مظلة ما يُعرف بقوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية.

وهذه المواجهات جاءت نتيجة للممارسات الدكتاتورية التي يتبناها المسؤولون عن هذه القوات. فقد فرضوا سيطرتهم الكاملة على منطقة يشكل العرب فيها مئة بالمئة من سكانها، باستخدام قبضة أمنية حديدية وشراكة شكلية لا تغني ولا تسمن من جوع. فرضوا الأمر الواقع على السكان، متجاهلين بالكامل آراء قيادات العشائر والقبائل. ووضعوا ضوابط وقيوداً حازمة على مدى مشاركة السكان في القرارات التي تخص مناطقهم، قرارات تصب دائمًا في صالح الإدارة الذاتية التي أُسست بواسطة هذه القوات دون النظر في مصالح السكان. وهذا الوضع أشعل شرارة الصراع العربي الكردي المتجدد، إلى جانب عمليات السلب والنهب التي تتعرض لها ثروات المنطقة على أيدي هذه القوات، خصوصًا استيلاءهم على آبار النفط واستغلالها لتلبية احتياجاتهم وتمويل عملياتهم، بينما يحرمون السكان منها.

هذه السياسة التي اتبعتها "قسد" لفرض سياحتها وهيمنتها الكاملة على المنطقة، دون مراعاة لقادتها الأصليين، شيوخ القبائل والعشائر، تُعد السبب الرئيسي للخطر الذي تواجهه الآن. إذ أثارت هذه السياسة استياء القبائل العربية ودفعتهم للانتفاضة ضدها. ونتيجة لذلك، فر الكثيرون من عناصر "قسد" أمام القوة القتالية للقبائل وحزم موقفهم، وذلك عقب اندلاع المواجهات بين الطرفين في 27 أغسطس/آب الماضي. وأُعيد تحرير 33 قرية في محافظتي الرقة والحسكة، والمناطق القروية بمنبج، إلى جانب دير الزور، من العناصر المسلحة.

تنظر تركيا إلى القتال الدائر حالياً شرق سوريا على أنه يحقق لها بعض الأهداف، فهذا القتال من جهة يؤكد وجهة نظرها بشأن خطورة التنظيمات المسلحة الموجودة في المنطقة بدعم من الولايات المتحدة، ويمنحها مبررًا منطقيًا لاستمرار وجودها العسكري هناك

الولايات المتحدة وهدف مطالبتها المتناحرين بالهدوء

الولايات المتحدة، التي تحتفظ قواتها بالتحكم في منطقة الصراع، أشارت إلى أن التطورات الجارية تعود بالنفع على تنظيم (الدولة الإسلامية) داعش. وفي مسعى لتهدئة الأوضاع والظهور بوجه حيادي، دعت الأطراف المتصارعة إلى ضبط النفس وتسوية الخلافات عبر الوسائل السلمية.

وتعي الولايات المتحدة حجم المصالح التي تطمح في تحقيقها بالمنطقة، وترى أن تحقيق هذه المصالح يتطلب من الجميع التزامًا بتعليماتها وتنفيذ أوامرها. وأي تجاوز لهذه التوجيهات يعد تحديًا لها، خاصة هذه المرحلة التي تتطلع خلالها إلى تقليل الوجود الإيراني بالمنطقة وقطع خطوط التماس بين عناصر الحرس الثوري الإيراني في شمال سوريا وفي العراق. هذا السعي دفع أميركا مؤخرًا إلى تعزيز قواتها وزيادة قوتها العسكرية. ولذا، فأي نزاع يشتعل حاليًا قد يعطل تحقيق هذا الهدف.

ابتهاج النظام السوري وتأييده للقبائل في مواجهة "قسد"

نظام بشار الأسد بدا مبتهجًا بالمواجهات، ووصفها بأنها نضال وطني ضد الاحتلال الأميركي وأتباعه من العناصر المسلحة الانفصالية. وعلى لسان وزير خارجيته، فيصل المقداد، أعلن دعمه المطلق للقبائل العربية في قتالها ضد القوات التي وصفها بأنها موالية للجيش الأميركي شرقي البلاد. وأكد أن النضال الوطني الحالي من قبل القبائل العربية يمثل نضالًا باسم جميع السوريين ضد قوات الاحتلال والعناصر المسلحة الموالية له، مُتوقعًا أن ينتهي الاحتلال الأميركي بفضل تعاون أهالي محافظتي دير الزور والحسكة مع الجيش السوري وحلفائه.

ومن جهتهم، أوضح مسؤولو القبائل العربية في دير الزور والحسكة والرقة أنهم سيستمرون في قتال عناصر "قسد" حتى خروجها من جميع المناطق التي سيطرت عليها، مؤكدين أن انتفاضتهم لن تتوقف حتى تحقق أهدافها، وسيقومون بطرد من وصفوهم بـ "الغرباء من جبل قنديل ومن يدعمهم"، وتأكيدًا على تضامنهم مع الدولة والجيش العربي السوري في سعيهم لطرد قوات الاحتلال الأميركي والفصائل المدعومة منها.

لماذا دعم أردوغان القبائل العربية ضد "قسد"؟

تركيا، من جانبها، وجدت في ما يحدث من مواجهات بين القبائل العربية وقوات "قسد" فرصة لإعادة ترتيب الأوضاع وإحداث تغييرات مؤثرة على الأرض يمكن البناء عليها فيما يخص ملف علاقاتها مع سوريا. لذلك، سارع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإعلان دعمه لمقاتلي القبائل والعشائر العربية في حربهم ضد من وصفهم بـ "مرتزقة قنديل" في مناطق ريف حلب وريف دير الزور. وهذا الوصف هو نفسه الذي يستخدمه رؤساء العشائر، مؤكدًا أنهم أصحاب الأرض وأن عناصر "قسد" ليسوا إلا مجموعة من المرتزقة الإرهابيين.

وتنظر تركيا إلى القتال الدائر حالياً في شرق سوريا على أنه، في مجمله، يصب لصالحها ويحقق لها العديد من الأهداف. فهذا القتال من جهة يؤكد وجهة نظرها بشأن خطورة التنظيمات المسلحة الموجودة في المنطقة بدعم من الولايات المتحدة، ويمنحها مبررًا منطقيًا لاستمرار وجودها العسكري هناك. ومن جهة أخرى، يعد استكمالًا لأهداف حملاتها العسكرية المتكررة داخل الأراضي السورية، حيث تسعى لمكافحة الإرهاب وعناصره المتمركزة في الأراضي السورية، والتي تهدد أمنها القومي، مع تحذيرات من تفتيت الوحدة الترابية للأراضي السورية نفسها.

كما أنه يلبي أحد أهم مطالبها للمصالحة مع النظام السوري، وهو قيام الجيش العربي السوري بمحاربة مليشيات "قسد" التي تصنف لديها على قوائم الإرهاب. الأمر الذي أصبحت تقوم به حاليًا القبائل العربية المتحالفة مع النظام نيابةً عنه. وفي حال نجاحها في استكمال تقدمها وتطهير مناطق شرق سوريا بكاملها من العناصر المسلحة وإجبارهم على الرحيل من المنطقة، سيعني ذلك عودة الجيش السوري لفرض سيطرته على كافة هذه المناطق.

وهكذا، يُغلق الفجوة الأمنية التي تستخدمها تركيا مبررا لوجودها شمال سوريا. هذا ويفتح الباب أمام إمكانية انسحاب القوات التركية من مناطق وجودها داخل الأراضي السورية وعودتها إلى داخل حدودها. وهذا الانسحاب يلبي الشرط الذي يطرحه النظام السوري لاستئناف العلاقات مع تركيا. وبالتالي، قد يُمكّن من عقد لقاء مباشر بين الرئيسين أردوغان والأسد.

ومما يمهد لإمكانية التوصل إلى اتفاق بين البلدين يضع أسسا جديدة للتعاون بينهما لمواجهة الأخطار والتحديات التي تحيط بهما مهددة أمنهما القومي ووحدة أراضيهما، وفي هذه النقطة يبدو اتفاق أضنه -الموقع بين البلدين منذ تسعينيات القرن الماضي- الصيغة الأنسب للتعاون ببينهما في هذا المجال وذلك بعد تعديله، وهو الأمر الذي تسوق له حاليا كل من روسيا وإيران في إطار السعي لعودة العلاقات بين الجارتين.

وهذه التطورات من شأنها إزاحة عبء ملف اللاجئين عن كاهل الحكومة التركية، وإغلاقه تماما قبل الانتخابات المحلية المقررة في مارس/آذار المقبل، الأمر الذي يتيح لها إعادة الملايين منهم إما إلى المنطقة الأمنية التي أعدتها لهذا الغرض في الشمال السوري، أو إلى المناطق الواقعة في الداخل تحت سيطرة النظام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان