ملف الأسرى الفلسطينيين وخلاف دوائر الحكم الإسرائيلية
كشف القرار الجديد لوزير الأمن القومي ورئيس حزب القوة اليهودية، إيتمار بن غفير بتقليص زيارات أهالي الأسرى الفلسطينيين إلى مرة كل شهرين، بدلا من مرة كل شهر عن أزمة جديدة في أروقة حكومة الاحتلال الإسرائيلي.
ظهرت اختلافات واضحة بين موقف نتنياهو والأجهزة الأمنية ومصلحة السجون من جهة، ووزير الأمن بن غفير من جهة أخرى. فليس الخلاف مقتصرا على تداعيات القرار وآثاره، ولكنه يمتد لأسلوب بن غفير في إدارة الأمور، حيث يكشف عن وجه الاحتلال ويتخذ قراراته في أوقات يراها المعسكر المعارض له غير مناسبة، مما يدفعهم لوصف سلوكه بأنه لا يتحلى بالمسؤولية.
الصورة الخارجية
لم يكد نتنياهو يخرج قبل يومين من معالجة تصريح عنصري لبن غفير، حول حق التنقل في الضفة الغربية أثار ردودا قوية من الخارجية الأميركية والاتحاد الأوروبي، حتى جاء قرار بن غفير بخصوص تقليص زيارات الأسرى الفلسطينيين.
كما أن بن غفير، بهذه القرارات والتصريحات، ومثله سموتريتش وخطابه حول حوارة سابقا، يهزان أسس العلاقة بين دولة الاحتلال والدول الغربية الداعمة لها. وفي هذا السياق، لم يجفّ حبر بيان وزارة الخارجية الأميركية بخصوص تصريحات بن غفير العنصرية، التي قال فيها، إن "حق المستوطنين في التنقل بالضفة الغربية يفوق حق العرب". نتنياهو حاول تسويغ هذه التصريحات بصياغات جديدة تحتمل معاني أخرى، بعد أن أدانت الخارجية الأميركية هذا التصريح قائلة، "ندين بشدة تصريحات الوزير بن غفير التحريضية بشأن حرية التنقل للسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، وندين كل الخطابات العنصرية؛ لأن مثل هذه الرسائل تكون ضارة بشكل خاص عندما تُضخّم من الأشخاص الذين يشغلون مناصب قيادية، وتتعارض مع تعزيز احترام حقوق الإنسان للجميع.
المفتشة العامة في مصلحة السجون، كيتي بيري، تعمل بشكل وثيق مع رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، وليس مع وزير الأمن إيتمار بن غفير الذي يشرف على السجون. وهذا يعزز التشظي في المواقف ويكرس الخلافات بين قيادات الحكومة الإسرائيلية
كما قال الاتحاد الأوروبي، "إن قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هي في صميم الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، بما في ذلك ما يتعلق بالمواطنين الذين يعيشون تحت الاحتلال في الأراضي الفلسطينية". وفي هذا السياق، ينتقل بن غفير، ونتنياهو، وحكومته في التوقيت نفسه إلى ملف حساس جدا في مجال حقوق الإنسان، وهو حقوق الأسرى الفلسطينيين، حيث يكشف مرة أخرى بكل صلف انتهاك أيسر الحقوق الإنسانية للأسرى بشكل عنصري، مما يزيد من الشرخ الحالي بين الحكومة الإسرائيلية والدول الغربية، خاصة بعد الانقسام على ما يسمى بالانقلاب القضائي، الذي قام به نتنياهو وحلفاؤه، الذي لا تزال الاحتجاجات ضده مستمرة بشكل كثيف.
وهذا الأمر يستدعي من جميع الجهات المناصرة للحقوق الفلسطينية، أن تفعّل نشاطها في المساحات الغربية، في كل الأطر والمنتديات التي يمكن من خلالها أن تُبرز التضامن مع الأسرى وتدافع عن حقوقهم.
الخلاف الداخلي
امتد السجال حول قرار بن غفير إلى المستوى السياسي والإعلامي داخل دولة الاحتلال. حيث قال رئيس ديوان الحكومة الإسرائيلي، إنه لم يُتّخذ أي قرار بتقليص زيارات الأسرى، وأن ما أُذيع لا يعدو كونه إدعاءات كاذبة. بينما قال بن غفير، إنه اتخذ القرار وأبلغ به مصلحة السجون، وأنه وُضع قيد التنفيذ. وإضافة للمستوى السياسي، فإن الخلاف الأخير يكرس الإرباك والتوتر في المستويات الإدارية لدى دولة الاحتلال. وفي هذا السياق، طلب مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، الذي يرأسه تساحي هنغبي، من الحكومة وجميع الجهات المعنية عدم التعامل مع هذا القرار. كما أن الأجهزة الأمنية للاحتلال حذّرت من تداعيات هذا القرار داخل السجون وخارجها.
كما أن المفتشة العامة في مصلحة السجون، كيتي بيري، تعمل بشكل وثيق مع رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، وليس مع وزير الأمن إيتمار بن غفير الذي يُشرف على السجون. وهذا يعزز التشظي في المواقف ويكرس الخلافات بين قيادات الحكومة الإسرائيلية. من جهة أخرى، تؤيد المؤسسة الأمنية في الاحتلال التنسيق المباشر بين هنغبي وبيري. وذلك لأنها ترى أن هذا التنسيق يمثل حاجزًا ضد سياسات بن غفير، التي لا يوجد ضمانات لأن تكون خالية من المشكلات السياسية والأمنية، التي قد تتسبب في مشكلات لا ترغب المؤسسة الأمنية في التعامل معها حاليا، ولا تريد دفع الثمن الكبير لها، مثلما يحدث بسبب تصرفات بن غفير.
وهذا يعني، من جهة، رفض نتنياهو لتبني قرار بن غفير بتقليص الزيارات لأهالي الأسرى، مما يسبب أزمة في علاقته بأحد وزرائه، ومن جهة أخرى، تجاهلت إدارة السجون التي تخضع للإشراف المباشر من بن غفير، قرارات الوزير خوفا من تداعيات وعواقب أكبر، مما يثير أزمة في العلاقة بين الوزير والجهة التي تخضع لإشرافه المباشر.
لقد ألقى هذا الخلاف حول زيارات الأسرى الضوء على عدم التنسيق وعدم التشاور في القرارات بين نتنياهو ووزرائه. وهذا يشير إلى أن هؤلاء الوزراء؛ مثل: بن غفير وسموتريتش، يدركون الموقف الضعيف لنتنياهو وحاجته الماسة إليهم. لذلك أحرج قرار بن غفير نتنياهو بشكل أساسي حيث أظهره محكوما بقرارات ورؤى حزب صغير في تحالفه. ورغم أن نتنياهو يضطر في الغالب لقبول هذه القرارات ومحاولة تجميلها؛ لأنه يرغب في الحفاظ على موقعه في رئاسة الحكومة، فإنه في بعض الأحيان يشعر أن الأمور قد تتجاوز حدودها، فيميل إلى الجناح الآخر من دوائر الحكم، مما يزيد الخلاف بينه وبين شركائه الذين يملكون مستقبله بالمعنى الحقيقي للكلمة.
جاء قرار بن غفير بشأن الأسرى ليبرز الخلافات في ساحة أخرى من الانقسام بين نتنياهو وشركائه، حيث يتبنى هؤلاء رؤية أكثر تطرفا وتسرعا. قد لا تختلف هذه الرؤية عن رؤية نتنياهو "الأيديولوجية" بالضرورة، لكنها تربك حساباته الداخلية والخارجية وتهدده. لا يختلف نتنياهو مع شركائه في الائتلاف؛ لأنه لا ينظر إلى الأمور من زاوية أخلاقية أو إنسانية، بل من زاوية سياسية. يدعم نتنياهو قرارات بن غفير ما دامت لا تفرض عليه أثمانا ثقيلة. وهنا يكون نتنياهو على وعي بالتداعيات الداخلية والخارجية لمثل هذا القرار، الذي يؤثر في 1600 أسير من أصل 5000 أسير.
إن هؤلاء الـ1600 أسير الذين يسعى بن غفير لسلب حقوقهم التي اكتسبوها عبر سنوات من نضال الحركة الفلسطينية الأسيرة داخل السجون، هم الأسرى الأكثر رمزية بالنسبة للشعب الفلسطيني. فلهؤلاء الأسرى مكانة خاصة في قلوب الفلسطينيين، قد تأتي في المرتبة الثانية بعد المقدسات. ولا يمكن استبعاد احتمال أن تندلع حرب بسبب المساس بهذه الحقوق. ملف الأسرى هو ملف وطني يجمع الفلسطينيين على الدفاع عنه، كما يتّحدون حول المسجد الأقصى.
على الجانب الآخر، لم يتوقف بن غفير منذ توليه المنصب عن البحث عن كل ما يضيق الخناق على الأسرى، سواء من حرمان أو قمع. ولذلك فإصراره على هذه الخطوات، لا يترك مجالا لتهدئة الأوضاع، مما يتنافى مع السياسة التي يرغب نتنياهو في اتباعها، حيث يحاول دوما البحث عن المخرج الأخير قبل الدخول في أي نفق من التصعيد.
ويُشار هنا إلى تطبيق قانون إسرائيلي مُعدّل في مطلع سبتمبر/أيلول الجاري، الذي يحظر الإفراج الإداري المبكر عن الأسرى الفلسطينيين المحكوم عليهم بالسجن حتى 3 سنوات، الذين تبقى أمامهم أسابيع قليلة فقط حتى انقضاء مدة الحكم. تلك الإجراءات لا تصبّ إلا في زيادة التوتر في وضعية يمكن أن تكون متفجرة، ويمكن لهذا الوضع أن يؤثر في مجالات أخرى تحاول دولة الاحتلال -بدعم من الإدارة الأميركية- تهدئتها.
إن الناظر إلى تصرفات بن غفير منذ توليه المنصب يلاحظ أنه يتبع سياسة متطرفة وانتقامية وتأجيجية. ففي ملف الأسرى، يظهر جليا توجهه نحو تضييق الخناق عليهم وقمعهم. يسعى بشتى الوسائل لتأجيج الأوضاع بهذا الملف، بالإضافة إلى تصرفاته المتعلقة بالمسجد الأقصى وحي الشيخ جراح في القدس، الذي كان السبب المباشر وراء اندلاع معركة سيف القدس في مايو/أيار 2021.
وفي الوقت الحالي، يكثف بن غفير من نشاطه العنصري تجاه الأسرى. فقد قررت لجنة الطوارئ للحركة الأسيرة البدء بالإضراب المفتوح عن الطعام ابتداء من يوم الخميس 14 سبتمبر/أيلول الجاري. ويأتي هذا الإضراب ليتزامن مع ذكرى انطلاق انتفاضة الأقصى الثانية في سبتمبر/أيلول من عام 2000. وأشار بيان الأسرى بوضوح إلى رغبتهم في الجمع بين قضيتين مقدستين: المسجد الأقصى والأسرى.
أخيرا، لا ننسى أن نشير إلى وجود خلافات ومواطن إخفاق أخرى بين وزراء الحكومة الإسرائيلية. فنتنياهو لم يخرج بعد من الأزمة التي سببها له وزير الخارجية إيلي كوهين، بعد تسريب لقائه مع وزيرة الخارجية الليبية في إيطاليا، ما دفع نتنياهو لإصدار قرار يمنع الوزراء من التصريح دون إذنه. وزعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، وصف وزير الخارجية بأن ليس لديه خلفية في العمل الدبلوماسي، ووصف التسريب بأنه غير مسؤول ويشير إلى إخفاق الحكم. من جهة أخرى، هناك خلاف عميق بين بن غفير ووزير الدفاع يوآف جالانت حول إنشاء جهاز الحرس الوطني تحت قيادة بن غفير، وهو "ميليشيا" مسلحة خاصة تهدف إلى التعامل مع الفلسطينيين، تتبع للوزير ولا تتبع لشرطة الاحتلال، أو حرس الحدود.
وفي هذا السياق يمكننا القول، إن الخلاف على قرار بن غفير بخصوص زيارات الأسرى هو محطة بارزة في محطات الخلاف داخل دوائر الحكم في حكومة الاحتلال، التي تؤثر في استمرارية الحكومة الحالية، وخطورة هذا الخلاف أنه يأتي بعد جملة متتالية من الخلافات، كما أنه لا يقتصر على الشأن الداخلي، ويمسّ صورة الاحتلال كلها ويؤثر في مسارات إستراتيجية؛ كالتطبيع وغيره، كما أنه لا يوجد ضمانات على انفجاره وخروجه عن التحكم، في ظل التحفز الفلسطيني، وانبعاث المقاومة في الضفة الغربية من جديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.