العلاقات المصرية التركية في مسارها الجديد

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (يمين) يصافح نظيره المصري عبد الفتاح السيسي على هامش افتتاح نهائيات كأس العالم لكرة القدم في قطر (الأناضول)

يمثل التقارب المصري التركي الأخير تأكيدا جديدا على أن كثيرا من دول العالم أصبحت تقتنع أكثر فأكثر بأن الأزمات السياسية والاقتصادية العميقة التي تعانيها -خصوصا تلك التي أعقبت الحرب في أوكرانيا- من الصعب جدا الوصول إلى تسوية مريحة لها، ما لم يسبق ذلك اتخاذ قرارات سياسية واقتصادية إستراتيجية كانت إلى وقت قريب تبدو غير ممكنة ومن الصعب القبول بها.

في هذا السياق، يمكن فهم التطورات الأخيرة في العلاقات المصرية التركية، فبعد قرابة 12 سنة من التوتر والقطيعة والتنافر في المواقف والتوجهات حيال الملفات الإقليمية والدولية، يبدو أن الدولتين في طريقهما نحو تجاوز ذلك والدخول في مرحلة جديدة من العلاقات تستجيب للضرورات الاقتصادية والسياسية وحتى الأمنية، التي تفرضها متطلبات البيئة الدولية الحالية بكل ما فيها من براغماتية تتجاوز كل ألوان الخطوط، بما فيها اللون الأحمر المعبر عن اللاممكن والمستحيل، وبطريقة يتم فيها تحقيق أكبر قدر من التفاهمات الممكنة وإعادة ترتيب أولويات الملفات الخلافية وتهميش أو تجاهل ملفات كانت إلى وقت قريب حجر عثرة في طريق تطبيع العلاقات فيما بينهما.

هنا يبرز الملف الليبي بوصفه أحد أهم الملفات التي يتوقع أن تتحول من ملف صراع إلى ملف فيه كثير من الفرص والمصالح السياسية والاقتصادية، وقد يؤدي التفاهم والتنسيق حوله إلى نقلة كبرى في شكل وطبيعة العلاقات البينية للبلدين، وستمتد تأثيرات ذلك لتشمل الإقليم كله، بل والمحيط الدولي.

فحجم التدخل الإقليمي والدولي في الملف الليبي يجعل من التقارب المصري التركي حوله مثارا لقلق قوى أخرى قد تسعى -في إطار حماية مصالحها- إلى إعاقة أي خطوات مشتركة تقوم بها البلدان هناك. ويتوقع كثيرون أن تشهد الزيارة المرتقبة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى تركيا الإعلان رسميا عن هذه السياسة المشتركة في الملف الليبي التي تطوي صفحة كل خلاف سابق.

هناك زوايا فهم كثيرة قد تفسر بها أي تطورات محتملة في التعاون المصري التركي، فبالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية المتفاقمة التي يمر بها البلدان، خاصة مصر التي هبطت عملتها النقدية إلى مستويات قياسية وتسيطر على اقتصادها معدلات متزايدة وغير مسبوقة من التضخم، فإن التطورات الأخيرة على الساحة السودانية وما ترتب عليها من دخول البلاد في صراع مسلح دامٍ منذ منتصف أبريل/نيسان الماضي ولا تبدو في الأفق المنظور فرصة لانتهائه سلميا أو عسكريا؛ هذا الصراع خلق حالة مشابهة للحالة الليبية في الخاصرة الجنوبية للدولة المصرية، الفاعل الرئيس فيها قوى إقليمية نافذة.

يبدو أن ما تمر به مصر من ظروف اقتصادية خانقة والإرهاق الذي تعانيه دبلوماسيتها في إدارة الملفين الليبي والفلسطيني قد جعلاها مضطرة إلى إعادة صياغة خارطة تحالفاتها الإقليمية والدولية وفق رؤى جديدة تفسح الطريق أمام بناء علاقات مع تركيا تتجاوز الأزمات القائمة وتراجع شبكة التحالفات مع قوى إقليمية أخرى، لا سيما أن تقارير ذات مصداقية قد أظهرت أن تلك القوى الإقليمية تنتهج سياسات ظاهرها التعاون والتنسيق مع مصر، لكنها لا تتحرج -سرا- أن تأخذ مواقف تتعارض بشكل واضح مع المصالح العليا للأمن القومي المصري في ليبيا وإثيوبيا والسودان وفي منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.

ربما لا تسمح كثافة الغيوم وغابة الخطوط الاستخباراتية المتشابكة في ليبيا بقراءة رصينة وواقعية لحقائق الوضع في ليبيا، وما قد تسمح به من فرص مشتركة للتعاون المصري التركي، ولكنها على الأقل أمدت صانع القرار -المصري تحديدا- بخبرة كافية تتيح بلورة سياسة أكثر نجاعة مع الأزمة السودانية التي تشبه إلى حد كبير نظيرتها في ليبيا من حيث سياقها العام وحجم التدخل الإقليمي والدولي.

معطى آخر يجب أن ننتبه إليه عند الحديث عن العلاقات المصرية التركية هو أن البلدين أصبحا يدركان أن الوضع الإقليمي والدولي أصبح أكثر براغماتية. فمع مرور العالم بأزمة اقتصادية وتداعيات ما بعد جائحة كورونا وتعقيدات الحرب الروسية الأوكرانية، يصبح من الضروري تجاوز العقبات السابقة والسعي نحو تفاهمات مشتركة اقتصادية وسياسية وأمنية.

والتطورات الحالية في العلاقات السعودية الإيرانية المبنية على أساس قراءة جديدة للواقع المعقد تساعدنا في توقع أن تكون العلاقات المصرية التركية تتجه نحو مرحلة جديدة عنوانها تصفير المشكلات التي شابت علاقاتها مع دول الجوار الإقليمي المهمة.

وأسهم الفوز الأخير للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسية، وما أعقبه من مبادرة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ليكون أول مهنئيه، في مزيد من تهيئة الأجواء لدخول المرحلة الجديدة، وسيكون التتويج العملي لهذه المرحلة في الزيارة المرتقبة للرئيس المصري إلى تركيا، والتي كانت مقررة في الأصل يوم 27 يوليو/تموز الماضي ثم تأجلت لموعد لم يحدد بعد في أغسطس/آب أو سبتمبر/أيلول 2023.

ستثبت الأسابيع القادمة إذا ما كانت "البراغماتية" ستحدد المسار المستقبلي للعلاقات المصرية التركية أو أن القوى الإقليمية النافذة التي تخشى تداعيات هذا التقارب ستنجح في إفشاله أو إعاقته.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان