أردوغان وأجندته الاقتصادية في "خطاب القصر"
بعد فرز أغلبية الصناديق وقبل الإعلان الرسمي لنتائج الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التركية، تسابق قادة العالم لتهنئة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإعادة اختياره لفترة رئاسية جديدة، بعد أن ظهر للجميع أن الأمر قد حسم لصالحه.
فبخلاف الدول العربية والإسلامية، كان من أول من بادروا إلى تهنئته زعماء دول كبرى تجمعها بتركيا علاقات اقتصادية متينة، حتى وإن غلب التوتر السياسي على العلاقات مع بعضها. من بين هؤلاء الذين بادروا بالتهنئة، روسيا وهي الشريك التجاري الأول لتركيا خلال العام الماضي، وأوكرانيا التي لعبت أنقرة دورا ذا أهمية كبرى لها وللأمن الغذائي للعالم بقيادتها الوساطة في اتفاقية التصدير الآمن للحبوب من موانئها، وألمانيا (الشريك التجاري الثاني العام الماضي)، والولايات المتحدة (الشريك الخامس)، وفرنسا (الشريك السادس)، وبريطانيا (الشريك السابع)، ودول أوروبية أخرى كهولندا وصربيا، ومسؤولو الاتحاد الأوروبي.
والاهتمام الذي لقيته هذه الانتخابات يكشف عن أهمية الحضور التركي عالميا سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، والنزاهة والشفافية اللذين ميزا عملية الاقتراع وألجما الأصوات المتربصة، ولم يتركا إلا فرصة للترحيب والإشادة.
وفي "خطاب النصر" الذي ألقاه الرئيس أردوغان هذه المرة من شرفة قصره، وجه الرجل رسائل داخلية وخارجية، ركزت على مواقفه الخارجية من انحيازات تركيا الواضحة ومواقفها المبدئية التي تحرص فيها على الاستقلال في القرار، واعتزازها بقيمها (النابعة من الإسلام) مهما زادت الضغوط عالميا.
وأما الرسائل التي وجهها للمجتمع التركي، فكان أبرزها تلك الموجهة إلى من لم يصوتوا له معلنا أن هذا هو وقت الوحدة والتضامن، وأنه سيعمل لتحقيق مصالحهم والحفاظ على حرياتهم جميعا.
قبل الأزمة الأخيرة، ظل معدل التضخم في تركيا مكونا من رقم واحد على مدى 12 عاما من حكم أردوغان -عدا استثناءات قليلة- وانخفض أحيانا إلى رقم قياسي هو 4%
الرسائل الاقتصادية ومعركة التضخم
إلى جانب تلك الرسالة التضامنية، حمل خطابه رسائل عديدة ترتبط بشكل أو بآخر بالاقتصاد، من بينها وعوده بشأن مشاريع "العودة الطوعية" للاجئين السوريين، والتي كانت محور سجال ساخن في الانتخابات، وطمأنته لمنكوبي الزلزال الذي ضرب 11 ولاية بشأن التزامه بإعادة بناء مساكنهم ومنشآتهم الاقتصادية والخدمية خلال عام، ثم رسالته إلى عموم المواطنين ولا سيما الشباب منهم بشأن ملف "التضخم الاقتصادي" الذي شكل الهاجس الأكبر خلال السنوات الماضية.
وعن ذلك الملف الأخير، الذي كان له الدور البارز في تراجع التصويت له، ذكر أردوغان (المواطنين) بنجاحه المبهر القديم الذي أسس عليه مسيرته في الحكم الذي امتد 20 عاما، قائلا إنه كما نجح في خفض التضخم سابقا إلى معدل 6% حين كان رئيسا للوزراء فسوف يخفضه مجددا.
ولا تدرك الأجيال الشابة -الغاضبة والمطالبة بالتغيير بطبيعتها- كيف كانت الصورة عندما وصل الرئيس أردوغان للحكم، إذ كان معدل التضخم 73% في يناير/كانون الثاني من العام 2002، وبعد أقل من عامين نجح الرجل في تخفيض ذلك المعدل إلى أدنى من 9% في يونيو/حزيران 2004.
وظل معدل التضخم مكونا من رقم واحد على مدى 12 عاما -عدا استثناءات قليلة- وانخفض في بعض الأحيان ليصل إلى رقم قياسي هو 4% في مارس/آذار 2011، لكنه ابتداء من فبراير/شباط 2017 عاد ليتكون من رقمين لكن تحت سقف 13%، ثم تخطى حاجز 20% في النصف الثاني من 2018 ثم عاد إلى مستوياته الطبيعية عامي 2019 و2020.
وقد بدأت القفزات الكبرى للتضخم مع الشهر الأخير من عام 2021 وواصلت الارتفاع حتى بلغت 85.5% في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ثم تراجعت تدريجيا حتى بلغت 43.7% في أبريل/نيسان الماضي، وهو ما يظل معدلا مرتفعا، رغم زيادة الأجور والمعاشات.
ويرتبط معدل التضخم بالعجز التجاري المزمن بالاقتصاد التركي منذ عام 1947، إذ إن نسبة من هذا التضخم ترجع إلى الاستيراد من الخارج، ولا سيما عندما ترتفع أسعار الوقود والحبوب والمواد الخام والسلع الاستثمارية عالميا. فخلال العام الماضي على سبيل المثال استوردت تركيا طاقة (نفطا وفحما وغازا طبيعيا) بقيمة 31.7 مليار دولار، وآلات ومعدات نقل بقيمة 78 مليارا، وسلعا مصنعة بقيمة 49 مليارا، ومصنوعات متنوعة بـ 15 مليارا، ومواد خام (بخلاف الوقود) بنحو 26 مليارا.
لكن تراجع أسعار الطاقة من نفط وغاز طبيعي وفحم مؤخرا، إلى جانب اكتشافات النفط والغاز الطبيعي التي أعلنها هذا العام، سوف تقلل من فاتورة استيراد الطاقة.
لا تدرك الأجيال الشابة -الغاضبة والمطالبة بالتغيير بطبيعتها- كيف كانت الصورة عندما وصل الرئيس أردوغان للحكم، إذ كان معدل التضخم 73%
خفض سعر الفائدة
وذكر أردوغان المواطنين أيضا في خطابه بنجاحه السابق في خفض الفائدة إلى 4.5% عندما كان رئيسا للوزراء، معبرا عن ثقته في نهجه الخاص الذي خالف به الأعراف الدولية الاقتصادية، التي تلجأ عادة إلى رفع الفائدة كوسيلة لمواجهة التضخم عبر امتصاص السيولة من السوق لتقليل الطلب الاستهلاكي. فعلى عكس ذلك التوجه، قام أردوغان خلال الأعوام الماضية بخفض الفائدة رغم ارتفاع التضخم، مما زاد انتقاده من مؤسسات مالية دولية وجعله هدفا لسهام المعارضة بالداخل.
لكن الكثيرين لا يعلمون أن تركيا كانت قد جربت بالفعل نهج رفع الفائدة لمواجهة التضخم حتى فترة قريبة ولم يسفر ذلك عن نجاح، فقد كان معدلها في مايو/أيار 2020 يبلغ 8.25%، وزاد حتى بلغ 17% نهاية العام، ثم زاد إلى 19% في مارس/آذار 2021، ومن ذلك الحين خفضها الرئيس أردوغان مجددا إلى حدود 8.5%.
ومنطق أردوغان في ذلك النهج يستند إلى أن اقتراض الشركات بفائدة مرتفعة يدفعها إلى زيادة أسعار منتجاتها، فتسهم بذلك في استمرار ارتفاع معدل التضخم، في حين تشجعها الفائدة المنخفضة على الاقتراض فيزيد الإنتاج والاستثمار، ويزيد المعروض من السلع والخدمات مما يسهم في خفض التضخم.
ويؤدي الإنتاج بأسعار تنافسية إلى زيادة الصادرات، فيقل عجز الميزان التجاري، وتتزايد فرص تحقيق فائض بميزان المعاملات الجارية في المستقبل، ولا سيما مع تواكب ذلك مع زيادة إيرادات السياحة والخدمات وتحويلات الأتراك العاملين بالخارج.
وحتى يتحقق الهدف الطموح بوجود فائض في الحساب الجاري، أعلن أردوغان في خطاب "القصر" عن اتفاقه مع الرئيس الروسي على تحويل منطقة "تراقيا" التي تقع على الحدود مع الجيران الأوروبيين إلى مركز لتوزيع الطاقة الروسية، وهي الخطوة التي من شأنها أن تزيد من العائدات التجارية التركية، مع استمرار الاهتمام باكتشافات الغاز الطبيعي والنفط، ومبادرات دعم التحول إلى اقتصاد إنتاجي ومواصلة الاهتمام بالاستثمارات الزراعية والسياحية والاستشفائية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.