انتخابات تركيا.. حسابات معقدة ورهانات صعبة
تعيش تركيا حاليًا أجواء منافسة انتخابية محتدمة تزداد حدتها مع اقتراب انتخابات 14 مايو/أيار المقبل. وفي ظل بيئة سياسية واجتماعية مستقطبة على نحو غير مسبوق، من الصعب إيجاد قاسم مشترك واضح بين التحالفين الرئيسيين (الحاكم والمعارض)، باستثناء نقطة واحدة متشابهة في الخطاب الانتخابي لكلا الطرفين ومثيرة للاهتمام وهي أن كليهما يُظهر ثقة مفرطة بقدرته على الفوز.
فمن جانبه، يحرص الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يخوض أصعب منافسة انتخابية على الإطلاق منذ عقدين من توليه السلطة، على إظهار معنويات مرتفعة للغاية رغم أنه يواجه للمرة الأولى تحالفًا من 6 أحزاب معارضة، بينها حزبان رئيسيان إلى جانب حزب رئيسي آخر هو حزب الشعوب الديمقراطي، في وقت تكافح فيه حكومته لمعالجة أزمة التضخم الكبيرة وتداعيات زلزال السادس من فبراير/شباط الماضي المدمر. ومن جانبها، تتعامل أحزاب المعارضة عمومًا والتحالف السداسي على وجه الخصوص مع الانتخابات على أن فوزها محسوم لدرجة أن النقاشات بشأن تقاسم السلطة داخلها تهيمن -في بعض الأحيان- على النقاشات بشأن المنافسة الانتخابية نفسها. مع ذلك، لا تزال المعارضة عمومًا تتعامل بجدية مع أردوغان على أنه خصم لا تنبغي الاستهانة به.
رغم أن التحالف السداسي قدم حتى الآن جبهة متماسكة جزئيًا ونجح كليجدار أوغلو في إبرام صفقة انتخابية تحت الطاولة مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، فإن مساعيه لإقناع زعيم حزب "البلد" المعارض محرم إينجه بالانسحاب من السباق الرئاسي لمصلحته تكشف عن قلقه من احتمال الخسارة. من المفهوم أن إبداء الثقة يلعب دورًا نفسيًا مهمًا في تحفيز الناخبين، لكن الإفراط بها لا يؤدي بالضرورة إلى جعلها واقعية.
حقيقة أن هذه الانتخابات تجري في ظل ظروف مختلفة جذريًا عن الظروف السابقة، التي شهدتها الاستحقاقات الانتخابية السابقة خلال العقدين الماضيين، تجعل من غير الواقعي الاستناد إلى لغة الأرقام وحدها في خريطة التحالفات الحزبية. على سبيل المثال، هذه هي المرة الأولى التي تخوض فيها المعارضة منافسة انتخابية بهذا الشكل ولا توجد تجربة سابقة يمكن البناء عليها للتكهن بما يمكن أن تحققه في صناديق الاقتراع. مع استثناء تجربة الانتخابات المحلية عام 2019، حين نجحت المعارضة في انتزاع عدد من البلديات الكبرى من حزب العدالة والتنمية بالتعاون مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، إلا أن السلوك التصويتي للناخبين في انتخابات محلية يختلف عما هو عليه في انتخابات رئاسية وبرلمانية.
وتنطبق الحال نفسها على التحالف الحاكم. فخلال العقدين الماضيين، ساعد الانقسام المجتمعي بين محافظين وعلمانيين بشكل رئيسي أردوغان في الحفاظ على قاعدة تأييد واسعة مكنته من البقاء في السلطة كل هذه الفترة. كما عمّق هذه القاعدة بالتحالف مع حزب الحركة القومية، لكن في الانتخابات الحالية نرى تحولًا مهمًا في الحالة السياسية.
فجبهة المعارضة لم تعد تقتصر بشكل رئيسي على حزب الشعب الجمهوري العلماني، بل تتضمن خليطًا من الأحزاب ذات التوجهات المختلفة من علمانية وقومية إلى يسارية وبدرجة أقل محافظة. لذلك، نشهد نمطًا جديدًا غير مألوف في المنافسة الانتخابية الحالية. على اعتبار أن هذه الانتخابات تتزامن مع اكتمال مئوية تأسيس الجمهورية التركية، فإنها لن تكون منافسة بحتة على السلطة بقدر ما أنها تعيد تشكيل الحالة السياسية الداخلية. في حين أن فائض الثقة لدى أردوغان تشكله مجموعة من نقاط القوة الذاتية وأخرى مرتبطة بنقاط ضعف المعارضة، فإن فائض الثقة لدى المعارضة يتكون أيضًا من نقاط قوة ذاتية وأخرى متعلقة بنقاط ضعف أردوغان. ائتلاف المعارضة يخوض الانتخابات في جبهة موحدة للمرة الأولى ويتعاون مع حزب كردي كبير. كما أن المعارضة تراهن على أن الظروف الاقتصادية وتداعيات الزلزال ستعمل لمصلحتها.
مع ذلك، يمكن المجادلة في التأثير المحتمل لهذه العوامل. فمن جانب، أظهرت الأزمة القصيرة التي شهدها التحالف السداسي صراع إرادات داخله ومن المرجح أن يبقى مؤثرًا على ديناميكية التحالف. ومن جانب آخر، يبدو أن الإجراءات الاقتصادية الأخيرة لأردوغان ووعوده بإعادة إعمار المناطق المدمرة من الزلزال في غضون عام، أسهمت في تعافٍ جزئي لنسب التأييد له. علاوة على ذلك، لا تزال الفوائد المنتظرة للتعاون الانتخابي بين كليجدار أوغلو وحزب الشعوب الكردي غير مؤكدة تمامًا وإن كانت لغة الحسابات الانتخابية تعززها.
إذا كان حزب الشعوب سيجلب أكثر من 10% إضافية من الأصوات المتوقعة لمصلحة كليجدار أوغلو، فإن الأثمان الانتخابية التي سيتعين على التحالف السداسي دفعها في المقابل، كرد فعل على هذا التعاون، قد تكون أكبر من الفوائد أو على الأقل تقلص منها. الافتراض الواقعي هو أن يدفع التعاون بكتلة انتخابية مؤثرة في المعارضة -لا سيما القومية- إلى عدم التصويت لمصلحة كليجدار أوغلو، وربما منح أصواتها للمرشحين الآخرين المنافسين. كما أن كليجدار أوغلو، ذا الميول العلمانية العميقة وهويته الدينية كعلوي، ربما لا يكون خيارًا مفضلًا لشريحة مؤثرة من الناخبين المحافظين، سواء في التحالف السداسي أو المحافظين الذين ابتعدوا عن أردوغان ولم يحسموا خياراتهم بعد.
يضاف إلى ذلك أن اتجاهات الصوت الكردي عمومًا لن تحددها فقط خيارات حزب الشعوب الديمقراطي. حزب العدالة والتنمية الحاكم، على سبيل المثال، لا يزال يحتفظ بقاعدة تأييد واسعة بين الناخبين الأكراد المحافظين، وإن تراجعت في السنوات الأخيرة بسبب تحالفه مع حزب الحركة القومية. كما أن التحالف الذي أعلنه أردوغان مع حزب الدعوة الحرة الكردي المحافظ قد يساعده في استعادة الأصوات الكردية المحافظة التي خسرها وربما يجذب فئة جديدة من الناخبين الأكراد لمصلحته، خصوصًا تلك التي تعارض نهج حزب الشعوب وحزب العمال الكردستاني، لكنها تبحث عن آفاق جديدة لإعادة دمج الحالة السياسية الكردية في السياسية الداخلية.
ومع أن كليجدار أوغلو نجح في جلب حزب الشعوب بصورة غير رسمية إلى الطاولة السداسية، إلا أن الارتدادات السياسية لا تزال غير مؤكدة وربما لا تعمل لمصلحة المعارضة، خصوصًا مع التأييد الضمني الذي أظهره قادة في حزب العمال الكردستاني -المصنف إرهابيًا- لكليجدار أوغلو واعتبارهم أن الانتخابات ستكون محطة مفصلية لتغيير الجمهورية. إظهار قادة حزب العمال الكردستاني آمالًا مفرطة يحرج كليجدار أوغلو وميرال أكشنار أمام قواعدهما الانتخابية.
في غضون ذلك، يظهر الضغط الذي يمارسه كليجدار أوغلو على المرشح الرئاسي محرم إينجه للانسحاب من المنافسة حجم المخاطر التي يواجهها تحالف المعارضة، إذ إن إينجه سيتمكن في الغالب من استقطاب فئة من الناخبين داخل حزب الشعب الجمهوري ممن يعارضون ترشيح كليجدار أوغلو، وكذلك استقطاب شريحة من الأصوات القومية التي تعارض الشراكة مع حزب الشعوب الكردي، فضلًا عن أنه قد يكون خيارًا مفضلًا لدى الناخبين الجدد من الشباب الذي يشكلون وزنًا في هذه الانتخابات وتقدر نسبتهم بنحو 6 ملايين شاب سيصوتون للمرة الأولى.
حتى مع عدم استبعاد فرضية انسحاب إينجه من المنافسة الرئاسية في اللحظات الأخيرة، فإن كليجدار أوغلو سيكافح من أجل الحد من تسرب الأصوات من الكتلة الانتخابية للتحالف السداسي وإقناع الناخبين المترددين بأنه قادر على إحداث استقرار سياسي في تركيا. حقيقة أن المعارضة -التي لم تستطع إخفاء خلافاتها قبل الانتخابات- ستجد صعوبة في الحفاظ على تماسكها في حال وصلت للسلطة قد تدفع بالناخبين المترددين إلى الابتعاد عن خيار كليجدار أوغلو في صناديق الاقتراع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.