جذور الإسلام السياسي ومستقبله

تعريفنا للإسلام السياسي هو الإسلام الذي تشكّل من بين ثنايا الدولة القومية الحديثة وتفاعل معها (رويترز)

لا تزال ظواهر الإسلام السياسي تجتذب الباحثين، رغم ما يبدو على السطح من تراجع شديد للحركات السياسية الإسلامية التي عبرت عن بعض ملامح هذه الظاهرة، ولكنه -في تقديري- تراجع في مناطق جغرافية دون أخرى، وتحوّل في الأشكال التي باتت تأخذها الظاهرة.

التراجع يبرز في منطقتنا العربية حيث ألقت حقبة الربيع العربي (2011-2010) بظلالها على الحركات الإسلامية التي انخرطت في السياسة فخرجت منها وقد وهن إسلامها، وتآكلت جماهيريتها السابقة، وظهر مدى تهافت مشروعها للحكم، وهي إن لم تختف ولن تختفي إلا أنها، على أقل تقدير، مرتبكة ولا تملك صيغة للخروج من هذه الحالة لتلملم بها شعث أعضائها الذين تشرذموا وتمزقت أواصرهم.

يصاحب ظاهرة العودة إلى الدين بعد تراجعها في أعقاب الموجة الأولى من الربيع العربي تحولٌ في أشكال التدين، إذ يغلب عليه أنه لا يستند إلى انتماءات تنظيمية محددة، ويحتل فيه العلم الشرعي والتصوف العاطفي موقعا متميزا، وإن لم يتمحور حول دعاة محددين

نحن إذ نشهد في المنطقة العربية تراجعا لحركات الإسلام السياسي، إلا أن الإسلام الآسيوي في ماليزيا وإندونيسيا وأفغانستان وكذا باكستان لا يزال يحتضن كثيرا من هذه الحركات، وإن اختلفت وتباينت تطبيقاتها، وهو ما يستحق اهتماما كبيرا.

ورغم هذا التراجع للحركات السياسية الإسلامية في المنطقة، فإن الدين -وفق عديد استطلاعات الرأي- لا يزال محددا أساسيا من محددات الهوية لدى الشباب العربي، ويؤكد الباروميتر العربي في استطلاعه الأخير على تصاعد في تدين الشعوب العربية، خاصة الفئات الشابة. يصاحب ظاهرة العودة إلى الدين بعد تراجعها في أعقاب الموجة الأولى من الربيع العربي (2010-2011) تحول في أشكال التدين؛ إذ يغلب عليه أنه لا يستند إلى انتماءات تنظيمية محددة، ويحتل فيه العلم الشرعي والتصوف العاطفي موقعا متميزا؛ وإن لم يتمحور حول دعاة محددين، بل ينتقل بينهم المتدين حسب حاجته وتطلعاته وظروفه وسني عمره.

هو في النهاية تدين لا تنظيمي، غير أيديولوجي، يهتم بالأسئلة الصغرى لا المسائل الكبرى، وهو ابن عصره الذي لا يمكن الحديث فيه عن أنماط تتوزع عليها الظواهر، بل سيولة وتشظ شديدان. هل يمكن في هذه السياقات أن يكون إعادة اكتشاف الجذور التاريخية والفكرية للإسلام السياسي ومستقبله مهما؟

هنا يحسن أن نقدم تعريفنا للإسلام السياسي، فهو الإسلام الذي تشكّل من بين ثنايا الدولة القومية الحديثة وتفاعل معها، فبدلاً -كما هو سائد في مناهج النظر المختلفة- من عزل الإسلاموية، من الأفضل إعادة ربطها بمنبعها الأصلي وهو مشروع الدولة القومية الحديثة، لتعريفها على أنها خطاب حديث للإسلام تطور من خلال تأسيس وتغييرات الدولة القومية الحديثة.

علاوة على ذلك، فإن دراسة الإسلاموية كخطاب مرتبط بخطاب الدولة الحديثة لا تلغي دور الأيديولوجيا في تشكيله. الأيديولوجيا هي تشكيل يتم التعبير عنه على سطح الخطاب ويتم إنتاجها في تفاعل مع الدولة والسوق/الاقتصاد. ما نحب أن نؤكد عليه أن تفاعل الإسلام مع نشأة الدولة القومية الحديثة في عالمه الحضاري الذي كان للدولة فيه تعريف مختلف هو ما أنشأ الإسلام السياسي.

الدولة القومية الحديثة امتدت عبر أدوات التشريع والمحاكم والمدارس والجيش والسوق الواحد.. إلخ إلى مساحات كثيرة ملأت الفضاء العام واحتلته، في حين اتسمت دولة المسلمين التي أنشؤوها على مدى قرون بترك مساحات كثيرة للمجتمع/الأمة لتملأها، ولا تتدخل في وظيفة أو مهمة يمكن أن يقوم بها المجتمع.

لحظة التفاعل -إذن- بين الإسلام والدولة الحديثة هي ما أنشأ ظاهرة "الإسلام السياسي"، ونحن بهذا التعريف الذي تدعمه دراسات جديدة نعيد صياغة الأسئلة والقضايا من منظور مختلف. فعلى سبيل المثال، لم يعد السؤال الذي حكم تفكيرنا لعقود ولا يزال هو العلاقة بين الدين والدولة، ولكن كما يطرح طلال أسد في كتابه "العلمانية، الدولة القومية، الدين" من خلال تساؤله عن كيفية إظهار مساحات الدولة الحديثة، سواء كانت مدارس أو محاكم أو قوانين أو غير ذلك، قوتها في تكوين وإعادة تعريف الديني والعلماني في علاقتهما ببعضهما بعضا.

الدولة الحديثة -كما يرى أسد- ليست سببًا بل هي تعبير عن العلمنة، لقد ولّدت مساحات اجتماعية محددة نما فيها العلمانيون، وفي الوقت نفسه فإنه في تلك الأماكن الاجتماعية نفسها يجب أن ينمو الإسلام أيضًا. لا يلتقي المتدينون والعلمانيون ويتفاعلون فحسب، بل أُعيد تعريفهم أيضًا، والأهم من ذلك فإن أسد في كتابه السابق يوضح أن الإسلاميين يجب أن يكونوا دولاتيين وأن ينخرطوا في السياسة، لأن كل الأماكن أصبحت الآن سياسية وتحكمها الدولة.

السؤال لم يعد إذًا في العلاقة بين الدين والدولة، أو الدين والسياسة، ولكن حول كيف يجري تشكيل الديني والعلماني من قبل الدولة؟ وكيف يتفاعلان؟ وهنا فنحن نتحدث عن تمدد السياسي وتوغله وتغوله، وكيف يمكن أن نعيده لحجمه من خلال توزيع السلطة/القوة (Power Sharing) في المجتمع، وهي من القضايا الأبرز عالميا الآن.

يجادل مقال محمد مسعد أستاذ الاجتماع بجامعة أريزونا بأنه يجب إرجاع الإسلام السياسي إلى الحملة الفرنسية ضد مصر (1798-1801) وما تبعها من إنشاء دولة محمد علي باشا الحديثة

الحركات الإسلامية بين الحملة الفرنسية وسقوط الخلافة

يقدم لنا الصديق محمد مسعد -أستاذ الاجتماع بجامعة شمال أريزونا بالولايات المتحدة- رؤية مختلفة لجذور الإسلام السياسي حين يرجعها إلى الحملة الفرنسية عام 1798 وليس إعلان سقوط الخلافة العثمانية عام 1924. المسألة بالنسبة له ولنا ليست تنازعا واختلافا حول التواريخ، بل منهج نظر جديدا يرتب كثيرا من التداعيات في إدراك وفهم ظاهرة الإسلام السياسي لدى اتباعها ومن هم خارج تنظيماتها. كما أنه من وجهة نظري سيرسم كثيرا من طرق التفكير في المستقبل.

أرست العديد من الدراسات أن ظهور الإسلام السياسي في مصر -تمثل بشكل أساسي في تأسيس جماعة الإخوان المسلمي عام 1928- يعود للحظة انهيار الخلافة العثمانية عام 1924 والآثار العاطفية والفكرية المفترضة لها على المسلمين المصريين. وفسرت دراسات أخرى هذا الظهور كرد فعل على الموقف الليبرالي والعلماني الذي اتخذته الدولة المصرية في ذلك الوقت.

من هنا كانت الأسئلة التي تطرحها هذه النظرة هي العلاقة بين الدين والدولة ومسائل الخلافة باعتبار الإسلام السياسي الكيان السياسي الجامع للمسلمين. من الناحية الفكرية، وضعت الدراسات السابقة خطاب المؤسس في تواصل مع عالمين متتاليين: جمال الدين الأفغاني (1838-1897 م) ومحمد عبده (1849-1905 م).

من دون التقليل من أهمية هذه الأحداث أو تلك الأعمال الفكرية، يجادل مقال مسعد بأنه يجب إرجاع الإسلام السياسي إلى الحملة الفرنسية ضد مصر (1798-1801) وما تبعها من إنشاء دولة محمد علي باشا الحديثة فيها (1805-1842 م). يشرح المقال السياقات السياسية والاقتصادية الوطنية والدولية التي أحاطت وشاركت في تشكيلات الإسلام السياسي بكل أنواعه، بما يصادم القناعة الأكاديمية الشائعة بتجذير فكر حسن البنا في أعمال محمد عبده، وتأصيل عبده في حركة جمال الدين الأفغاني.

تصور المقالة ثلاث مراحل تاريخية:

  • المرحلة الأولى من 1805 إلى 1849.
  • المرحلة الثانية: من 1849 إلى 1879.
  • والثالثة: من 1879 إلى منتصف عشرينيات القرن الماضي.

تتمحور كل مرحلة من هذه المراحل حول موضوع مشترك يميز الخطابات والمعرفة وهياكل السياسة والاقتصاد و"الإسلام"، وهو بالترتيب: تكنولوجيا، وحضارة، وأيديولوجيا. سيتم استكشاف أعمال حسن العطار كمثال على المرحلة الأولى، وستكون أعمال رفاعة الطهطاوي نموذجًا للمرحلة الثانية، حيث يصبح الإسلام أساسًا لقومية الدولة.

ستبدأ المرحلة الثالثة بفترة انتقالية من الخطابات غير المتمايزة، لكنها ستتفرق بسرعة بعد الاحتلال البريطاني عام 1882 إلى ثلاثة أشكال من الإسلام السياسي؛ ليبرالي يمثله محمد عبده وحزب الأمة، ومقرب من الخديوي يمثله علي يوسف وحزب الإصلاح الدستوري، والإسلام من خارج الدولة ويمثله عبد العزيز جاويش والحزب الوطني. المقولة الأساسية للمقال هي: على عكس الإستراتيجيات المذكورة في الدراسات الشائعة، فإن الكاتب يدافع عن نهج يعيد ربط الإسلام السياسي ببيئته الاجتماعية والثقافية والسياسية، لذلك:

  • أولا: يدرك ظهور الإسلام السياسي وأسس الدولة القومية الحديثة في مصر، وظهور الرأسمالية كأجزاء مترابطة لظاهرة اجتماعية وتاريخية واحدة.
  • ثانيًا: يرى الإسلام السياسي -والدولة القومية والاقتصاد- كموقع جيد لدراسة استمرارية ما تفصله الدراسات السابقة نظريًا على أنه تقليدي وحديث، وقد تطلب ذلك أن يشرح المقال السياقات السياسية والاقتصادية الوطنية والدولية التي أحاطت وشاركت في تشكيلات الإسلام السياسي بكل أنواعه.

ترتب على الاحتكاك الثقافي بين دولة محمد علي والغرب أن نشأ سؤال الحضارة الذي قدّم الإجابة عليه الطهطاوي، الذي أدرك مبكرا أننا إزاء بنيتين ثقافيتين مختلفتين يمكن إحداث تواصل بينهما من خلال فك الاشتباك بين الأسس التي تتأسس عليها البنية الثقافية الغربية وبين منتجاتها، فالحرية عند الأوروبيين مثلاً هي العدل عند المسلمين

التداعيات والآثار

أولا: التواطؤ على عزل الظاهرة الإسلامية تمهيدا لوصمها بالاستثنائية

وقعت الدراسات السابقة التي حاولت تحليل الإسلاموية في ثلاثة فخاخ:

  1. لقد اقتربت بشكل أساسي من الإسلام السياسي من زاوية واحدة، سواء كانت ثقافية أو اقتصادية أو سياسية، وبالتالي فقد صاغت الظاهرة من منظور أيديولوجي أو صراع طبقي أو تنافس سياسي.
  2. قارنت الإسلام السياسي بالحداثة، واعترفت به إما كاستجابة حداثية وإما كرد فعل تقليدي على التغيرات الاجتماعية الحديثة.
  3. ركزت بشكل أكبر على التكوين الفريد لخطاب الإسلام السياسي من حيث مفاهيمه وهياكله، وبدرجة أقل على الأنواع الأدبية والإستراتيجيات البلاغية للغة العربية، لاسيما استخدامها المجتمعي المحلي والمعاصر.
  4. العزل والاستثناء للظاهرة الإسلامية ظلل كل هذه المساعي، فقد شرع الباحثون والسياسيون في عزل الإسلام السياسي لتعريفه وتحليله أو لمحاربته وحصاره. أعمال العزل هذه مصطنعة وتعسفية وتؤدي إلى عنف لا داعي له، لأنك إن عزلت الظاهرة سهل عليك ضربها.

ثانيا: الإسلام السياسي ابن الدولة المصرية الشرعي

إذا كان الإسلام السياسي ابن الدولة المصرية الشرعي وليس لقيطا فقد تفاعل معها من داخلها ومن خارجها؛ لذا فقد ارتبط ارتباطا وثيقا في طابعه الرسمي -الذي نما من داخل أجهزتها- وغير الرسمي بتطورات هذه الدولة والأسئلة الكبرى التي واجهتها في كل مرحلة تاريخية وتركت طابعها عليه. وهذا ما تابعه المقال المذكور بالتفصيل.

في المرحلة الأولى -مرحلة محمد علي- كان السؤال مرتبطا بالتقنية أي استجلاب التكنولوجيا لبناء الدولة، وكان رمزها الفكري حسن العطار، العالم الأزهري الذي لم ير تناقضا بين العلم الشرعي وبين علوم التقنية، فكلاهما يصدر عن جذر واحد. ترتب على مزيد من الاحتكاك الثقافي بين دولة محمد علي وبين الغرب من خلال البعثات العلمية أن نشأ سؤال الحضارة الذي قدّم الإجابة عليه الطهطاوي، الذي أدرك مبكرا أننا إزاء بنيتين ثقافيتين مختلفتين يمكن إحداث تواصل بينهما من خلال فك الاشتباك بين الأسس التي تتأسس عليها البنية الثقافية الغربية وبين منتجاتها؛ فالحرية عند الأوروبيين -على سبيل المثال- هي العدل عند المسلمين.

السؤال في هذه المرحلة يتعلق بالحضارة، حيث قد تمكنّا من رؤية بدايات خطاب صاغ السياسة، وتناول المسائل الحضارية، وأسس القومية وعرّفها، وحيث اعتمدت على التقاليد القانونية والفكرية للإسلام، وأعادت تدوير مفاهيمها في خطابات حديثة جديدة.

في المرحلة الثالثة كان السؤال الذي طرحته الدولة المصرية الناشئة يتعلق بالأيديولوجيا التي يجب أن تحكم ومحددات هويتها المستقبلية، وهنا توزعت الإجابات وتمحورت حول شخصيات متعددة، ولكنها جميعا كانت في إطار الإسلام السياسي -أي في مساحات الوصل بين الإسلام والسياسة والقانون والتعليم والمرأة.. إلخ.

كانت الخطابات المتعددة التي توزع عليها الإسلام السياسي تسهم في خلق الدولة المصرية الحديثة، مفتي الدولة -على سبيل المثال- وبجواره كثير من المثقفين المدنيين والعلماء كانوا يسهمون في إعادة صياغة الإسلام ليكون بسيطًا وعقلانيًا وعادلًا وسهل التطبيق من قبل أجهزة الدولة المختلفة وفي جنبات المجتمع.

مع كل تطور تشهده هياكل الدولة المصرية، وصيغة الاقتصاد المطبق بها وعلاقته بتطورات هياكل الاقتصاد الدولي، نشهد تداعيات متشابهة على الإسلام السياسي، أي علاقة الإسلام بالسياسة. ففي فترة البنا (1906-1949) شهدنا ظاهرتين متكاملتين هما: عودة بعد تجربة محمد علي تمدد سلطان الدولة ونفوذها إلى مساحات متسعة بما تطلبه ذلك من تضخم المكون السياسي في تفكير البنا، لكن الدولة المصرية الناشئة توزعت سلطاتها واقتصادها بين المحتل البريطاني وبين الحاكم الوطني والتمصير للاقتصاد؛ فكانت الازدواجية التي حكمت تفكيره المتمثلة في مقولات من قبيل الإسلام والغرب، والإسلام والعلمانية والتقليد والتحديث.. إلخ.

بل يمكن إرجاع محورية التربية في تفكيره لما باتت تقوم به الدولة من دور متسع في هذه المرحلة. الدولة في هذه المرحلة من خلال التعليم والمحاكم والقوانين والاقتصاد اكتسبت قوة في تكوين وإعادة تعريف الديني والعلماني في علاقتهما ببعضهما بعضا، ومحورية السلطة في فكر البنا مردها تمدد سلطانها وزيادة نفوذها لمجالات كثيرة وباستخدام أدوات متعددة.

في المرحلة الناصرية (1952-1970) تجسد في الدولة المطلقة القادرة على إحداث التنمية والانتصار على الكيان الصهيوني وتحقيق الوحدة العربية، وحل مشكلة الصراع الطبقي بتحالف قوي مع الشعب العامل. ولمواجهة هذا وجدنا فكر سيد قطب (1906-1966) الذي قدم لنا مفاهيم مطلقة مثل الحاكمية والجاهلية لمواجهة دولة يوليو الناشئة، وقد تتبعت هذه الفكرة في مقال سابق بالتفصيل.

يمكن الإشارة إلى أن ما نشأ من ازدواجية وتوزع وانقسام في هياكل الدولة المصرية واقتصادها بين قطاع عام وخاص، ورأسمالية واشتراكية، ومجموعة جمال مبارك النيوليبرالية في مواجهة الجيش الراغب في استمرار هيمنته على الأرض وبعض مرتكزات الثروة.. إلخ، كله ذلك ترك بصمته على الإسلام السياسي حين توزعت قواه بين رسمي وغير رسمي، ومحافظين وإصلاحيين، كما ظهر في الإخوان، وراديكاليين ومعتدلين، كما ظهر مع الجماعة الإسلامية والجهاد.

وهنا يحسن أن أؤكد أنه في كل مرحلة من هذه المراحل التاريخية وبغض النظر عن طبيعة النظام السياسي ومن يقوده، كان هناك تفاعل دائم من أجهزة الدولة مع الإسلام وفي مجالات كثيرة، وقد يلتقي هذا مع ما يأتي من المجتمع أو الحركات السياسية الإسلامية، أو يفترق.

ثالثا: لماذا كان الصدام مستمرا بين النظام وقطاع من الإسلاميين؟

إذا كانت البنى التي تنتج الدولة في تطوراتها والاقتصاد في ملامحه الأساسية والخطابات الإسلامية متشابهة بهذا الشكل، فلماذا كان الصدام المستمر بين النظام وبين قطاع من الإسلاميين؟

هنا يحسن بنا أن نميز بين الدولة والنظام؛ ففي الدولة يحدث تفاعل متعدد المستويات، وتأثير وتأثر بين هياكلها وبين الإسلاميين من وجوه متعددة وفي مجالات كثيرة -كما قدمت-، لكن في مجال السلطة العليا في الدولة يحدث التنافس على النفوذ والسيطرة، وهو صراع يحدث وسيحدث مع أية قوة سياسية أيا كانت هويتها الأيدولوجية؛ فالنظام وقيادته لا تقبل لها شريكا في السلطة والنفوذ.

رابعا: كيف يبدو مستقبل الإسلام السياسي؟

الحديث في المستقبل معقد ويتسم بعدم اليقين، حيث تتداخل كثير من العوامل مثل التغير المناخي والتطورات التكنولوجية، وتفاجئنا كثير من الحوادث كجائحة كورونا والحرب الأوكرانية. هيكل النظام الدولي لم يستقر ويشهد تنافسا بين الولايات المتحدة والصين، وبروز قوى جديدة على المسرح كالهند، ويعاد التفكير في العولمة من خلال سلاسل التوريد، كما نشهد تصاعدا لصراع الهويات المتلبسة بالقومية المتطرفة واليمين الشعبوي المتطرف، ويصاحب ذلك كله تغير في وظائف الدولة وأدوارها وتوزع في السيادة فيها بين ناعمة وصلبة، وفاعلين جدد بجوارها وخصوم منها وقد يحلوا محلها ويقوموا ببعض وظائفها، وانتقال في هياكل الاقتصاد وطبيعته.. إلخ.

كل هذه العوامل وغيرها أنتجت بنى غير مركزية يسيطر عليها منطق الشبكة لا الهياكل المستقرة، وتتوزع قواها وأشكالها بين مركز تدور حوله، وبين لا مركزية تصل إلى التفسخ، لذا فإن الخطابات والتنظيمات الإسلامية سينالها من الحظ جانب، كما يقول المثل، ومن يتصور أنه قادر على إعادة إنتاج الأشكال القديمة من تنظيمات شاملة وخطابات وأيديولوجيات كلية واهم تماما.

إننا سنكون إزاء تعدديات تصل إلى السيولة، وتغير دائم في الوظائف والأدوار تنتفي معه الثنائيات المتعارضة من قبيل تدخل الدولة وانسحابها في الاقتصاد، أو تمايز بين البنى العلمانية وتلك الدينية.. إلخ. هذه التطورات جميعا لا يمكن أن تغطي على السؤال المركزي المطروح عالميا وفي المنطقة المتمحور حول: إعادة توزيع السلطة والثروة والدخل والفرص حيث نشهد تفاوتا ضخما ولا مساواة متفشية، وهو ما يجب أن تعنى به الدولة وهيكل الاقتصاد وكذا الإسلام السياسي. وهو ما يستحق حديثا آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.