تركيا.. خيارات الطاولة السداسية بعد انسحاب حزب الجيد

بعد يوم واحد فقط من اجتماع الطاولة السداسية المعارضة في تركيا واستباقًا لاجتماع آخر مقرر بعد أيام قليلة فقط، خرجت رئيسة حزب الجيد ميرال أكشنار في مؤتمر صحافي بعد اجتماع مع قيادات حزبها لتعلن عدم الموافقة على ترشيح رئيس حزب الشعب الجمهوري وزعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو للانتخابات الرئاسية مرشحًا توافقيا للطاولة.
أبعد من الانتخابات
بالنسبة للأحزاب السياسية ورؤسائها تحديدًا، ليست نتيجة الانتخابات المرجوة أو المتوقعة هي المعيار الوحيد الذي يصوغون على أساسه مواقفهم وقراراتهم. فمآلات ما بعد الانتخابات تكون أحيانًا أثقل في ميزان صانع القرار من نتائجها، سواء ما يتعلق بموقع الحزب من الحياة السياسية أو موقع رئيس الحزب فيه، أي حسابات الموازنات والمآلات داخل الأحزاب وفيما بينها.
ولذلك مثلًا، قدم زعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو في انتخابات 2018 منافسه التقليدي في الحزب محرم إنجة مرشحًا للانتخابات الرئاسية "ليخسر هو كذلك أمام أردوغان" ويفقد من ثم ورقته الأقوى ضده داخل الحزب، بينما قبل الأخير الترشح بهدف إضعاف الأول في رئاسة الحزب وخلافته فيها.
في الانتخابات نفسها، أفشلت ميرال أكشنار أيضا فكرة المرشح التوافقي حين أصرّت على ترشيح نفسها لتعظيم فرص حزبها في الانتخابات البرلمانية، وهو ما حدث.
يمكن لكليجدار أوغلو أن يسوق تراجعه في قراره على أنه تغليب للمصلحة العامة المتمثلة بوحدة الطاولة السداسية ومن ثم الفوز بالانتخابات، مذكرًا ببعض تصريحاته السابقة برغبته في التقاعد في الفترة المقبلة وعدم نيته الاستمرار في العمل السياسي.
ولأسباب مشابهة، يرفض كليجدار أوغلو بإصرار ترشيح رئيس بلدية من داخل حزبه لرئاسة الدولة إذ قد يعني ذلك خسارة منصبه، ويرفض رؤساء البلدية الترشح دون إرادة حزبهم ورئيسه حتى لا يغامروا بمناصبهم في البلدية والحزب.
وبالمنطق نفسه يمكن فهم مدى ارتباط الأحزاب الصغيرة المستجدة على الساحة السياسية، لا سيما تلك التي انشقت عن العدالة والتنمية، بحزب الشعب الجمهوري وقراره إذ إن دخولهم البرلمان وبقاءهم في الحياة السياسية ما بعد الانتخابات مرهون به إلى حد كبير.
وبالعودة لأكشنار، فرغم أهمية الانتخابات لها فإن هدفها الأبرز يتمثل في جعل حزبها أكبر أحزاب المعارضة وربما مجمل الأحزاب السياسية تحت قبة البرلمان المقبل من جهة، ووراثة حزب الحركة القومية بعد رحيل رئيسه دولت بهجلي المتقدم في السن من جهة ثانية، وتمثيل تيار يمين الوسط من جهة ثالثة. وفيما يتعلق بالانتخابات نفسها، تريد أكشنار أن تبقى في موقع "صانعة الملوك"، بأن تحدد هي اسم المرشح التوافقي للطاولة السداسية فيكون لها هذا الفضل في انتخاب الرئيس، كما كان دعمها ليافاش وإمام أوغلو من أهم أسباب فوزهما في الانتخابات البلدية في 2019.
خيارات
رسميا، لم تعلن أكشنار انسحاب حزبها من الطاولة السداسية، ولكن مضمون كلامها وأسلوبه وصياغاته تعني ذلك من الناحية العملية. إلا أن ذلك لا يبدو حتميا أو قرارًا نهائيا. فمنذ لحظة إعلانها عن موقف حزبها اشتعل المشهد السياسي في أنقرة وتسارعت التصريحات والبيانات واللقاءات بغية البحث عن حل للمعضلة التي وضعت فيها الإطارَ التنسيقي للمعارضة.
وهنا، تبدو الطاولة السداسية -حتى اللحظة- ومعها الحزب حزب الجيد بقيادة أكشنار أمام عدة خيارات أو سيناريوهات محتملة أهمها:
- الأول، عودة حزب الجيد للطاولة السداسية. يبدو ذلك احتمالًا ضعيفًا جدا بعد كل ما قالته أكشنار عن رؤساء الأحزاب الخمسة الأخرى وفي مقدمتهم كليجدار أوغلو، من تغليب المصالح الشخصية على مصلحة الوطن إلى محاولة فرض خيارات بعينها بعيدًا عن العقل الجمعي والتشاور، لكنه بالتأكيد ما زال خيارًا قائمًا لا سيما بعد الموقف الأولي الذي صدر عن يافاش وإمام أوغلو والذي تضمن رفضهما فكرة الترشح للرئاسة "خارج إرادة رئيس حزبنا" كليجدار أوغلو. ولذلك يمكن للرجلين أن يضطلعا بدور الوساطة بين أكشنار والطاولة السداسية بما يملكان من علاقات جيدة مع كليهما، فضلًا عن موقعهما الرمزي كمرشحين محتملين، ويمكن لأطراف أخرى أن تقوم بالدور نفسه، وهو أمر متوقع جدا. من جهة ثانية، من المستبعد أن يكون هناك إجماع داخل حزب الجيد على قرار الخروج من الطاولة السداسية، فإن واجهت أكشنار معارضة قوية داخل حزبها سيكون ذلك من دوافع العودة.حينئذ، إن حدث، سيكون بإمكان أكشنار أن تقول إنها استفرغت جهدها وأوضحت موقفها وحذرت من أن خيار كليجدار أوغلو قد يتسبب بخسارة الانتخابات، وإن خسرها ستكون أكشنار هي الرابحة الفعلية من هذه المواجهة في المدة التشريعية المقبلة، لا سيما أنها ستسوّق عودتها للطاولة السداسية على أنها تغليب للمصلحة العامة رغم عدم القناعة وأنها أعذرت ولكنها نزلت في النهاية عند رأي الأغلبية.
- الخيار الثاني هو تحديد اسم مرشح مختلف، بمعنى عودة حزب الجيد للطاولة السداسية لكن على أساس اختيار مرشح آخر غير كليجدار أوغلو، يافاش (الأوفر حظا) أو إمام أوغلو أو غيرهما، وربما من خارج الطاولة السداسية و/أو أحزابها.
وهذا أيضًا خيار ضعيف الحظوظ بشكل لافت، ذلك أنه سيظهر كليجدار أوغلو وكأنه نزل عند رغبة أكشنار التي ستبدو أقوى منه، وهذا أمر سيرفضه هو وحزبه على حد سواء.
لكنه يبقى خيارًا ممكنًا إن تراجع أحد أحزاب الطاولة السداسية أو بعضها عن دعم ترشيحه، أو حصل ضغط داخل حزب الشعب الجمهوري عليه لسحب ترشحه، أو خلص من المشاورات التي يجريها إلى أن إيجاد بديل لحزب الجيد لن يكون سهل المتناول.
فإن كان هذا الخيار، يمكن لكليجدار أوغلو هذه المرة أن يسوق تراجعه على أنه تغليب للمصلحة العامة المتمثلة بوحدة الطاولة السداسية ومن ثم الفوز بالانتخابات، مذكرًا ببعض تصريحاته السابقة برغبته في التقاعد في الفترة المقبلة وعدم نيته الاستمرار في العمل السياسي.
- أما الخيار الثالث فهو بقاء حزب الجيد خارج الطاولة السداسية. هذا الخيار المرجح الذي سيحولها إلى "طاولة خماسية" بشكل مبدئي، تسهم فيه الحدة التي صاغت بها أكشنار موقفها، والاتهامات التي وجّهتها للأحزاب الأخرى، وفجوة الثقة التي تعمقت، وصعوبة النزول عن الشجرة، ومواقف الأحزاب الأربعة الأخرى التي يبدو أنها باقية على موقفها من ترشيح كليجدار أوغلو الذي بدأ بالبحث عن بديل لحزب الجيد بالفعل.
هذا البديل قد يكون بعض الأحزاب اليسارية وفي مقدمتها حزب الشعوب الديمقراطي الذي قد لا ينضم -ومن الصعب أن ينضم- للطاولة بشكل رسمي، لكن يمكنه دعم كليجدار أوغلو بعدم تقديم مرشح خاص به أو بتحالفه معظّمًا فرصه بشكل ملحوظ.
في حالة كهذه، سيكون على حزب الجيد أن يقدم مرشحًا رئاسيا خاصا به، قد يكون هذه المرة أكشنار نفسها أو أي شخصية أخرى، وقد يدخل في تحالف جديد مع بعض الأحزاب الصغيرة الأخرى. بل إن اقتراب الحزب من حزب العدالة والتنمية وتحالف الجمهور قد يكون خيارًا ممكنًا لا سيما إن ظهر أن الشعوب الديمقراطي سيدعم كليجدار أوغلو، وإن كان انضمامه إلى التحالف الحاكم بشكل رسمي مستبعدا جدا.
أخيرًا، لا شك أن الخلاف الكبير الذي دبّ بين أوساط المعارضة وتحديدًا الطاولة السداسية قد خصم من رصيد الطاولة بشكل لافت وأظهر التنافس وعدم القدرة على التفاهم والتنسيق فيما بينها على بعد أسابيع فقط من انتخابات مصيرية، وهذا بالتأكيد يصبّ في مصلحة الرئيس أردوغان.
لكن ذلك لا يعني بالضرورة فوزه من الجولة الأولى، ذلك أن تقديم المعارضة أكثر من مرشح (كما يبدو أنه سيحدث) يرفع من فرص عدم الحسم في الجولة الأولى والاحتكام لجولة إعادة في الانتخابات الرئاسية. ومن المنطقي والمتوقع أن جولة الإعادة ستخضع لمنطق التفاوض والمساومات وعقد الصفقات بين مختلف الأطراف، وهو أمر لا يمكن الجزم بمآلاته وتأثيره على نتيجة الانتخابات من الآن، حيث تبقى كل الاحتمالات مفتوحة ومن بينها احتمال تحالف بعض خصوم اليوم.