في ضوء أزمة إسرائيل.. كيف نفهم الرأي العام ونستشرف المستقبل؟

أميركا عبرت عن قلقها من الأحداث فإسرائيل هي أهم مشروع أميركي في القرن العشرين (الجزيرة)

خروج الجمهور الإسرائيلي إلى الشارع للتعبير عن غضبه يوضح حاجة العالم لتطوير دراسات الرأي العام وتحليل اتجاهات الجماهير، فشركات الاستطلاعات لا تكشف سوى القليل من المعلومات الكمية التي تحتاج إلى تفسير، لذلك تظل الدول تعاني من الجهل وعدم فهم الرأي العام حتى ينفجر غضب الشعب فجأة وتكون المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات هي الوسيلة التي يعبر بها الرأي العام، فتظهر الحقائق التي يحاول الجميع تجاهلها.

هناك الكثير من القوى التي تعمل لإخفاء الحقائق عن اتجاهات الرأي العام وتمنع القيام بدراسات حقيقية وتبرر ذلك بحماية الأمن القومي، لكن هذه القوى تعمل لحماية الرأسمالية وفرض سيطرتها على الشعوب باستخدام التجهيل والتضليل والخداع، لذلك تمنع علماء الرأي العام الحقيقيين من تطوير مناهج وأدوات علمية جديدة لدراسة اتجاهات الجماهير.

لماذا تشتعل الثورات فجأة؟

من أهم الحقائق التي يمكن أن نكتشفها من دراسة أحداث العقد الماضي أن الثورات تشتعل فجأة، ثم يظهر بعد ذلك خبراء يحاولون تفسير الثورات وشرح العوامل التي دفعت الجماهير للتعبير عن غضبها، فأين كان هؤلاء الخبراء؟! وهل كانوا يجهلون وجود هذه العوامل ولا يعرفون أنها ستؤدي إلى العنف والغضب؟! ولماذا صمتوا فلم يوضحوا للحكام خطورة هذه العوامل، وأنها تشكل رأيا عاما كامنا لا بد أن يعبر عن نفسه يوما بشكل عنيف، لأن أحدا لم يهتم بقراءة اتجاهات الجماهير بشكل متعمق؟

على الرغم من وجود الكثير من مراكز دراسات الرأي العام المتقدمة في الولايات المتحدة فإنها فوجئت مثل نظم العالم الثالث -التي تحظر استطلاعات الرأي العام- بالثورات تشتعل في الكثير من دول العالم، وربما تشتعل قريبا تلك الثورات في أميركا نفسها وفي أوروبا.

التفكير خارج صندوق الغرب

هل هذا الاحتمال يبدو بعيدا وغير واقعي؟ خروج الإسرائيليين إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم يوضح أن الأيام القادمة تحمل الكثير من المفاجآت التي سترغم الغرب المستكبر على التواضع واكتشاف حقائق خطيرة وجديدة ستؤثر على مستقبل العالم وتعيد بناء النظام العالمي.

لم يكن أحد يتخيل أن الشعب الإسرائيلي يمكن أن يخرج إلى الشوارع للتعبير عن غضبه، وأن هذا الشعب يعاني من انقسام حاد تمتد جذوره في تاريخ دولة قامت على خداع العالم وتزييف الحقائق واغتصاب أرض الشعب الفلسطيني الذي ينكر وزير المالية الإسرائيلي وجوده.

إذا كان هذا الشعب قد خرج للتعبير عن غضبه المكتوم ويتحدى القوة الغاشمة التي طالما استخدمها جيشه في قهر الشعب الفلسطيني فإننا يمكن أن نتوقع أن هناك الكثير من الشعوب -حتى في أميركا وأوروبا- ستخرج قريبا تدافع عن حقها في الحياة وتتحدى الظالمين المستكبرين مهما كانت قوتهم.

الشعوب تنتظر الشرارة

ركزت وسائل الإعلام على وصف الحدث وصورته بأنه نتيجة لعملية التحكم في القضاء الذي يريده نتنياهو باستخدام قانون قدمه للكنيست، وأنه يريد حماية نفسه من المحاكمة في اتهامات بالفساد، لكن تلك كانت قراءة سطحية للحدث، فلم تكن إصلاحات نتنياهو القضائية سوى الشرارة التي أشعلت الغضب، وأوضحت أن الشعب الإسرائيلي كان ينتظر حدثا ليخرج معبرا عن رأي عام كامن لم يظهر في نتائج الانتخابات، ولم تستطع وسائل الإعلام الإسرائيلية أن تعبر عنه، وحاولت إخفاء المعلومات عن حقيقة الانقسام داخل الشعب الإسرائيلي والخلافات الحادة بين طوائفه، والتي لا يمكن التوصل إلى حلول وسط بشأنها.

خرافة واحة الديمقراطية

تمكنت إسرائيل من استخدام النظام الإعلامي العالمي لخداع العالم، وترويج خرافة أنها هي واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط وسط بحر من الدكتاتوريات، وكانت تلك الصورة من أهم مصادر قوتها.

لكن الأحداث تثبت زيف هذه الخرافة، فالذين خرجوا إلى الشوارع للتعبير عن سخطهم كانوا يدافعون عن ديمقراطية الدولة في مواجهة اليمين المتطرف الذي يشارك في حكومة ائتلافية يقودها نتنياهو وبن غفير وتريد أن تفرض يهودية الدولة كبديل للديمقراطية.

الذين خرجوا إلى الشوارع اكتشفوا أن المؤسسات لا تعبر عنهم، فالكنيست يخضع لنتنياهو ولم يرفض قانون الإصلاحات القضائية الذي قدمته الحكومة، وكان ذلك مجرد بداية لإصدار الكثير من القوانين التي يريد اليمين المتطرف فرضها على الشعب الإسرائيلي.

لذلك، وصفت هآرتس الإصلاحات بأنها انقلاب قضائي، وأن نتنياهو غير النظام الإسرائيلي من الديمقراطية إلى الدكتاتورية، كما وصفت هآرتس المظاهرات بأنها صحوة علمانية كانت إسرائيل تنتظرها منذ زمن بعيد، فلم تكن من أجل حماية التوازن بين الحكومة والقضاء فقط، لكن الطبقة الوسطى العلمانية كانت تكافح للمحافظة على شخصية إسرائيل.

دولة ثيوقراطية وليست علمانية

حاولت صحيفة هآرتس أن تقدم تفسيرا جديدا لغضب الجمهور الإسرائيلي بأن الطبقة الوسطى ترفض تمويل طلاب مدارس التوراة الذين لا يعملون ويرفضون أداء الخدمة العسكرية مثل أبنائها، فهل يساهم ذلك في تفسير رفض الكثير من الإسرائيليين الخدمة العسكرية في صفوف الاحتياط؟

وأضافت هآرتس أن إسرائيل تحولت إلى دولة ثيوقراطية وليست ديمقراطية، وفي مقال نشرته "تايمز أوف إسرائيل" يوضح نديم كوتيش أن التطرف الديني يشكل أساس إسرائيل التي تصور نفسها بأنها دولة حديثة، وأن حكومة نتنياهو كانت نتيجة لزيادة التطرف الديني حيث أصبح المتطرفون يحكمون.

أما صحيفة "جيروزاليم بوست" فقد اتهمت اليمين المتطرف -الذي يشارك في الحكومة- بأنه يخطط لمواجهة المحتجين المؤيدين للديمقراطية بعنف، لذلك حذر زعيم الحزب القومي من أن نتنياهو مصمم على إرسال البلاد إلى الجحيم، في حين حذر الرئيس الإسرائيلي من أن الأزمة تشكل تهديدا وجوديا لإسرائيل حيث يمكن أن تؤدي إلى حرب أهلية.

لماذا تحول إلى بطل فجأة؟

يوضح موقف الجمهور الإسرائيلي من طرد نتنياهو وزير الدفاع يوآف غالانت جوانب أخرى، حيث يمكن أن تساهم بعض الأحداث في تشكيل رأي عام بشكل مفاجئ وتزيد غضب الناس، لذلك وصف زعيم المعارضة يائير لبيد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنه خطر على إسرائيل ويشكل تهديدا للأمن القومي.

ويرى لبيد أن نتنياهو تمكن من طرد وزير الدفاع، لكنه لن يتمكن من نفي الشعب الإسرائيلي الذي يواجه جنون الائتلاف.

لماذا طرد نتنياهو وزير الدفاع؟ من الواضح أن موقف غالانت يتفق مع إدراكه اتجاها عاما داخل الجيش، حيث قال إن الجيش الإسرائيلي في ثورة مفتوحة ضد الأجندة التشريعية المتوحشة، وردا على ذلك التصريح قام نتنياهو بطرده.

لذلك، قالت "جيروزاليم بوست" إن غالانت يعرف أن هناك غضبا داخل الجيش على الائتلاف الحاكم، مما أدى إلى توقيع مئات الضباط بيانات يرفضون فيها الخدمة، وهذا يهدد وحدة الجيش.

طرد غالانت من الحكومة حوّله إلى بطل في نظر ملايين الإسرائيليين، فأصبح لاعبا أساسيا في تقرير المستقبل، فماذا يمكن أن يكون موقف الجيش؟ وما الدور الذي يمكن أن يلعبه في تطوير الأحداث؟

هذا ينقلنا مباشرة إلى سؤال مهم، وهو: هل يمكن أن ينقسم الجيش الإسرائيلي أيضا؟ تقدم لنا صحيفة هآرتس معلومة مهمة يمكن أن تساهم في زيادة قدرتنا على توقع المستقبل، حيث تقول إن الجيش هو الذي مهد الطريق لصعود بن غفير، وهذا يعني أن الاتجاه اليميني المتطرف يوجد بقوة داخل الجيش، وأن الصراع يمكن أن يتطور بسرعة بين العلمانيين الذين يؤيدون غالانت وبين المتدينين الذين يؤيدون بن غفير.

هل ساهم التطبيع مع الدول العربية في الأزمة؟

هناك عوامل كثيرة تحتاج إلى دراسة تأثيرها على الأزمة، منها التطبيع مع الدول العربية، حيث شعر نتنياهو بقوته وأنه تمكن من أن يحقق لإسرائيل نصرا لم تكن تحلم به، فأصبحت تتحكم في منطقة الشرق الأوسط كلها وتقوم بتصنيع الأحداث فيها لتحقيق مصالحها، لكن ما تأثير ذلك على الأوضاع الداخلية في إسرائيل؟

يقدم نديم كوتيش في مقاله بصحيفة "تايمز أوف إسرائيل" تفسيرا جديدا هو أن التطرف في إسرائيل يتزايد كلما ظهرت بوادر لتحقيق السلام بين العرب وإسرائيل.

ويبرهن كوتيش على ذلك بأن الكنيست قام بإلغاء القيود على المستوطنات في الضفة الغربية، فما علاقة ذلك بمخطط نتنياهو لتدمير النظام القضائي الإسرائيلي تحت لافتة الإصلاح الذي يهدد بوقف حكم القانون وتمهيد الطريق للدكتاتورية؟

يقول كوتيش إن محاولات الدول العربية لتحقيق السلام مع إسرائيل قوبلت بزيادة التعصب الديني والتطرف، لكننا يمكن أن نضيف إلى ذلك أن الشعب الإسرائيلي بدأ يشعر بالأمان منذ زمن طويل، وأن إسرائيل أصبحت تتحكم في المنطقة، فتطلع اليمينيون المتطرفون إلى استغلال هذه الفترة في تحقيق أهدافهم، ومن أهمها فرض يهودية الدولة وطرد الشعب الفلسطيني والاستيلاء على المسجد الأقصى لبناء الهيكل.

هذا في الوقت الذي أصبح فيه الشباب يتطلعون إلى عدم أداء الخدمة العسكرية، فتزايد تأييد الشباب لبن غفير وتعريف أنفسهم على أساس اليهودية، فليس هناك عدو خارجي يهدد إسرائيل.

وفي الوقت نفسه، شعر العلمانيون في الجيش بأنهم هم الذين يدافعون عن أمن إسرائيل ويواجهون الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية ويقومون بحماية المستوطنات التي يسكنها المتدينون الذين يرفضون الخدمة العسكرية.

وشعرت الطبقة الوسطى بتناقص مستواها المعيشي نتيجة لتوجيه الأموال لبناء المستوطنات للمتدينين وزيادة الإنفاق على مدارسهم.

أميركا تشعر بالقلق

عبرت أميركا عن قلقها من الأحداث، فإسرائيل هي أهم مشروع أميركي في القرن العشرين، وهي أهم نتائج الاستعمار الغربي للعالم العربي، وهي الوسيلة التي أضعفت بها أميركا العرب ومنعتهم من زيادة قوتهم.

لذلك، حرص نتنياهو على إبلاغ أميركا قراره بتعليق إصلاحاته القضائية قبل أن يبلغ شعبه، فهو يدرك تماما حرص أميركا على المحافظة على إسرائيل وشعورها بالصدمة لهذه الأحداث بعد أن دفعت مئات المليارات طوال 75 عاما لضمان التفوق العسكري الإسرائيلي، لكن إسرائيل تواجه اليوم -كما يقول رئيسها- خطر الحرب الأهلية.

لذلك، اقتصرت تغطية وسائل الإعلام الأميركية على وصف الحدث دون تحليله وتفسيره أملا في انتهاء هذه الأحداث بسرعة، لكنها لم تدرك خطورة الأزمة وعمقها وأنها تهدد المشروع الأميركي كله.

أما وسائل إعلام الدول العربية فحاولت تجاهل الأحداث وإلهاء الجماهير العربية بمسلسلات رمضان، لكن من حق هذه النظم أن تخاف، فالمستقبل يحمل الكثير من المفاجآت، والغضب الكامن في نفوس الجماهير العربية يفوق ذلك الغضب الذي انفجر في إسرائيل، وفي كل الحالات تنتظر الجماهير الشرارة التي يمكن أن تأتي في أي صورة.

لذلك، من الأفضل لكل النظم أن تسمح لعلماء الرأي العام الحقيقيين بقياس اتجاهات الجماهير، لترشيد عملية صنع القرار، والتعامل مع الجماهير بحكمة قبل أن ينفجر الغضب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.