هل من الممكن ممارسة السياسة والاقتصاد من منظور أخلاقي؟.. نظرة تحليلية

18-19 years; 20-24 years; 25-29 years; 30-34 years; 35-39 years; 40-44 years; 45-49 years; 50-54 years; 55-59 years; audience; authority; boss; business; businessman; businesswoman; cape town; clapping; color image; communication; control; crowd; day; distant; full suit; gesturing; greeting; high angle view; horizontal; ideas; large group of people; leadership; listening; man; mature adult; mature men; mature women; mid adult; mid adult men; mid adult women; mixed race person; multi-ethnic group; outdoors; people; photography; politician; politics; south africa; speech; standing; supporting; talking; togetherness; watching; well dressed; woman; young adult; young men; young women - كيف يكون خطابك مقنعا ومؤثرا في الآخرين؟
هل ينبغي على الساسة اتباع قواعد نيكولو مكيافيلي واعتبار السياسة والأخلاق لا يلتقيان أبدا

انتهى 2022 بحروبه وأزماته الاقتصادية منذ أسابيع، ورغم قسوة العام المنصرم فقد كان في نهايته تجربة كأس العالم الفريدة في قطر (20 نوفمبر/تشرين الثاني- 18 ديسمبر/كانون الأول) التي مثلت الحدث الأبرز الإيجابي والمبهج للعرب في منطقتنا.

وفي مطلع 2023 كان هناك العديد من التساؤلات حول الاقتصاد، حيث إنه في ظل التضخم الجامح لا صوت يعلو فوق صوته؛ هل الهدف هو الربح وحده بغض النظر عن أثر النشاط الاقتصادي على البيئة والحياة على هذا الكوكب؟ وهل الأجور العادلة ومشاركة الموظفين في الأرباح ترف لا ينبغي الالتفات إليه حتى تنجح الشركات وتتعاظم ربحية حملة الأسهم والمديرين التنفيذيين؟

وهل السياسة عملية براغماتية نفعية بحتة لا مجال فيها للأخلاق والقيم؟ وهل ينبغي على الساسة اتباع قواعد نيكولو مكيافيلي واعتبار السياسة والأخلاق لا يلتقيان أبدا؟!

هذه نوعية من الأسئلة المؤلمة والتي يتخيل البعض أن إجابتها أشد إيلاما، وسنحاول استعراض تجارب سياسية عديدة في بلداننا العربية وفي أميركا الجنوبية وأفريقيا والعديد من الدول سواء المتقدمة أو النامية لكي نستشف: هل ممارسة السياسة بمعايير أخلاقية أجدى وأفضل للشعوب أم ممارستها بالخداع والكذب والتآمر واتباع قاعدة أن الغاية تبرر الوسيلة؟!

وهل توجد نية حقيقية لكبح جماح الشركات العابرة للقوميات والتي تتبرع بسخاء للسياسيين في العديد من الدول الصناعية لكي يتم سن قوانين وتشريعات تصب في مصلحة هذه الشركات؟ الأمر يحتاج جهدا كبيرا ميدانيا وتوعويا لإجبار هؤلاء السياسيين والشركات على احترام المعايير البيئية بصرامة وليست تصريحات وقرارات غير ملزمة في مؤتمرات بروتوكولية لا تساوي حتى قيمة الورق الذي كتبت عليه.

أميركا اللاتينية المثال المضيء

يعتبر رئيس أوروغواي "خوزيه موخيكا" (2010- 2015) من أقل رؤساء العالم دخلا حيث كان راتبه الشهري 12 ألف دولار شهريا تبرع بقرابة 90% منه للجمعيات الخيرية لدعم شعبه الفقير (يتبقى له فقط 1200 دولار) ويقتني سيارة فولكس فاغن بيتلز صنعت عام 1987، ويقيم في مزرعة صغيرة تمتلكها زوجته بدلا من القصر الرئاسي الذي أمر بفتحه للمشردين في فصل الشتاء في حال عدم توفر أماكن لهم تقيهم برد الشتاء في مراكز الإيواء، وكذلك استغنى عن طائرة الرئاسة لكي يشتري بثمنها طائرات إسعاف لدعم شعبه.

ومن أوروغواي للمكسيك، فحينما كانت المكسيك تواجه أزمة مالية حادة قام الرئيس "أندريس أوبرادور" ببيع الطائرة الرئاسية الشهيرة بفخامتها البالغة قيمتها 218 مليون دولار، والتي كانت تُعرف باسم الفيل الأبيض واعتبرها الرئيس رمزاً للسفه في الإنفاق والفساد المالي وبذخ الحكام السابقين وفساد قادة البلد الذي يعيش أكثر من نصف سكانه تقريباً تحت خط الفقر.

وقال إن حصيلة الطائرة الفاخرة التي كان يسافر على متنها الحكام السابقون ستوجه لدعم المستشفيات الحكومية وتوفير أدوية للفقراء الذين يعانون شظف العيش. ولم تكن هذه الطائرة الفخمة الوحيدة التي تقرر بيعها، بل كانت واحدة من 60 طائرة حكومية قرر الرئيس أوبرادور طرحها للبيع لأنه كان يشعر بالعار والخزي حينما ينعم المسئولون في بلد يعاني أغلبية سكانه من الفقر والحاجة.

ومن المكسيك إلى تشيلي، حيث تم انتخاب رئيس شاب (35 عاما) ينحاز لمعايير السياسة الأخلاقية وهو "غابريل بوريتش" الذي انحاز للفقراء وخطط التنمية، ومن أقواله الشهيرة والتي تصب في خانة الديمقراطية الاجتماعية "إذا كانت تشيلي مهد النيوليبرالية، فإنها ستكون أيضاً قبرها". ومن أقواله التي تناهض الرأسمالية المتوحشة "نحن جيل جاء للحياة العامة مطالباً باحترام حقوقه، لا أن يُعامل كسلع استهلاكية أو صفقة أعمال". وعن العدالة الناجزة قال "نحن نعلم أنه مازالت هناك عدالة للأثرياء، وعدالة أخرى للفقراء، ونحن لن نسمح بأن يستمر الفقير في دفع ثمن عدم المساواة في تشيلي" وقال عن كيان الاحتلال الصهيوني إنه دولة قاتلة.

وعلى النقيض التام، كان الجنرال أوغستو بينوشيه دكتاتور تشيلي الدموي وعدو الديمقراطية الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري، وقام بتعليق الدستور وتجميد الحياة السياسية، وقمع وتصفية وتعذيب المعارضين لتوجهاته النيوليبرالية ورغبته في تحويل تشيلي إلى أمة من رجال الأعمال وحماة المصالح الأميركية والرأسمالية العالمية حيث أطلق عمليات خصخصة يشوبها الكثير من الفساد، وقام بتخفيض الضرائب على أرباح الشركات والثروات مما أفقر السواد الأعظم من سكان تشيلي.

ومن تشيلي للبرازيل، لولا دي سيلفا نصير الفقراء وبولسونارو رجل الولايات المتحدة الملقب بترامب البرازيل. نفذ لولا دي سيلفا برامج تنمية اقتصادية ركزت على تحسين حياة الفقراء وإيجاد عشرات الملايين من فرص العمل مما أدى إلى تحويل البرازيل خلال تلك الفترة (2003-2011) من بلد ينهش الفقر أغلب سكانه وتثقله الديون المتراكمة، إلى بلد يتمتع بسادس أقوى اقتصاد في العالم. فخلال 5 سنوات فقط، سددت البرازيل ديونها بالكامل وتحولت إلى دولة مقرضة بعد أن كانت تثقلها الديون، وتضاعف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد 5 مرات خلال 8 سنوات، وتضاعف الحد الأدنى للأجور 3 مرات وأصبحت البرازيل دولة ذات ثقل دولي حيث إن الرئيس دي سيلفا كان من كبار المهتمين بقضية التغير المناخي.

أما فترة حكم بولسونارو فتمثل النقيض لكل ما يمثله دي سيلفا، وبخاصة في مجال البيئة والتغير المناخي، حيث شهدت رئاسة بولسونارو ارتفاعاً في وتيرة إزالة الغابات في البلاد، وبخاصة غابة الأمازون المعروفة بأنها "رئة العالم" بنسبة 75% مقارنة بموقف دي سيلفا، بالإضافة إلى انحيازه التام للشركات متعددة القوميات ورجال الأعمال على حساب الفقراء والبيئة، والذي أدى لتدهور الوضع الاقتصادي وازدياد معدلات الفقر والجريمة.

قارة أفريقيا وبدايات الحكم الرشيد النزيه

قامت جويس باندا رئيسة ملاوي (من أبريل/نيسان 2012 إلى مايو/أيار 2014) بمحاربة الفساد المستشري في الدولة والذي أدى إلى وقوع أكثر من 65% من السكان تحت خط الفقر، وقامت بتخفيض راتبها 30% وبيع الطائرة الرئاسية، وأمرت ببيع 60 سيارة رئاسية حتى تساهم في حل المشكلة الاقتصادية العويصة وإطعام الجوعى في ملاوي.

جنوب أفريقيا ورواندا مثالان رائعان

يعتبر الزعيم نيلسون مانديلا من أيقونات السياسة الأخلاقية والذي كان مثالا للتقشف والنزاهة والتواضع، فقد كانت دولة جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري غابة موحشة، ورغم ذلك كان الشيء المضيء الذي ميز المناضلين من أجل الحرية، الذين أصبحوا قادة البلاد "وفي القلب منهم مانديلا" هو قدرتهم على العفو والمغفرة حيث كانوا يسعون وراء الحقيقة والمصالحة وبناء دولة قانون بدلًا من الانتقام. فمن أقوال مانديلا الملهمة إن الشجعان لا يخشون التسامح من أجل السلام، وهذا ما جعل جنوب أفريقيا من دول البريكس القوية اقتصاديا رغم مرورها بتجارب أليمة نتيجة سياسة الفصل العنصري.

وتعتبر تجربة رواندا افي المصالحة الوطنية مثالا ناصعا، رغم أنه منذ عام 1994 كانت هناك مجزرة من أبشع مجازر التاريخ الحديث، حيث قتل وذبح قرابة المليون رواندي خلال 100 يوم فقط. وتم اللجوء إلى تقاليد التسامح والعدالة والمحاكمات العادلة التي جعلت المجتمع الرواندي يلتحم ويعمل سويا بعد تسوية مرارات الماضي، والآن تحقق رواندا واحدا من أعلى معدلات النمو أفريقيا وتتطور تكنولوجيا واقتصاديا بشكل ملحوظ وذلك بعد المصالحة الوطنية.

كان الرئيس كينيدي مثالا للتسامح ومكافحة العنصرية والانحياز للحق في قضايا عديدة مثل القضية الفلسطينية وحقوق الأميركيين من أصل أفريقي والذين عانوا من التهميش واللا مساواة

من أفريقيا إلى الشرق الأقصى

ارتبط اسم نجيب عبد الرزاق (رئيس وزراء ماليزيا الأسبق) بواحدة من أكبر فضائح الفساد المالي والاختلاس من الصندوق الماليزي للتنمية، فقد حول لحساباته الشخصية 700 مليون دولار وزعم أنها هدية شخصية له، هذا بخلاف استيلائه على أموال أخرى مما جعل المحكمة تدينه بأشد العبارات وتسجنه بأحكام نهائية 12 عاما، وتعاون عبد الرزاق مع العديد من رجال الأعمال والمتنفذين المشبوهين والمؤسسات المالية التي لا تتمتع بسمعة حسنة مثل بنك الاستثمار "غولد مان ساكس" والذي ليس فوق مستوى الشبهات، وهناك العديد من القضايا المرفوعة ضده بتهم فساد وجرائم وتبييض أموال (تمت تسوية فضيحة غولد مان ساكس مع ماليزيا بعدما دفع البنك 3.9 مليارات دولار تعويضات لماليزيا).

وعبد الرزاق مثال للسياسي النفعي اللا أخلاقي والذي حول الاقتصاد الماليزي لاقتصاد ضعيف بفساده ونقل تبعية القرار السيادي الماليزي لدول لها مصالح تتعارض مع مصالح ماليزيا القومية. وعلى النقيض التام كان مهاتير محمد الذي قاد نهضة ماليزيا بعد ما كان أكثر من 70% من السكان الماليزيين تحت خط الفقر، وخلال سنوات حكمه أصبحت ماليزيا واحدا من نمور آسيا، وزاد دخل الفرد السنوي من ألف إلى 16 ألف دولار، وانخفضت نسبة الفقر إلى أقل من 4%، وأصبحت نسب البطالة دون 3%، وارتفع حجم الاحتياطي النقدي من 3 مليارات إلى 98 مليارا، وقفز حجم الصادرات من نحو 15 مليارا إلى 200 مليار وذلك عن طريق تطهير ماليزيا من الفساد، ورفع الكفاءة والتحلي بالأمانة، وكان الاهتمام بالتعليم والتصنيع هما حجر الزاوية للنهضة الماليزية التي قامت على أسس أخلاقية من انحياز واضح للقضية الفلسطينية ومكافحة الفساد واستقلال القرار الوطني وعدم التبعية.

مثالان عبر المحيط: كينيدي وترامب

كان الرئيس كينيدي مثالا للتسامح ومكافحة العنصرية والانحياز للحق في قضايا عديدة مثل القضية الفلسطينية وحقوق الأميركيين من أصل أفريقي والذين عانوا من التهميش واللا مساواة، وكان سلوك الرئيس كينيدي ملهما للكثير من شعبه نحو قبول الآخر وتقليل العنصرية وتشجيع الاندماج وتلاحم الأعراق وإيجاد مجتمع كوزموبوليتاني ناجح، وعلى النقيض التام كان الرئيس ترامب يستدعي كل مكونات العنصرية واليمين المتطرف ضد المسلمين والسود واللاتينيين بشكل كرس للانقسام المجتمعي والعنصرية الفجة التي آذت المجتمع الأميركي كثيرا وشجع الهجرة المضادة إلى كندا ودول أخرى.

"قطر 2022" والتجربة الملهمة

في نهاية عام 2022 لم يكن هناك صوت يعلو فوق صوت كأس العالم، فقد أبهرت قطر العالم بتنظيم أكثر من رائع يفوق أي دورة سابقة، والأجمل أنها تعتبر الدورة المتميزة والوحيدة التي تلتزم بمعايير أخلاقية راقية تعكس قيم الثقافة العربية والإسلامية التي تعتبر المكون الثقافي الرئيسي للمجتمعات العربية والخليجية. وعلى النقيض التام في منطقتنا العربية، نماذج أخرى تروج للتطبيع والانسلاخ من القيم العربية والإسلامية والتعاون مع شركات غير أخلاقية مثل "إن إس أو" (NSO) الإسرائيلية للتجسس على الصحفيين والمعارضين، والترويج للكيان المحتل والتطبيع معه والاستثمار فيه من منطلق أن هذا أمر نفعي براغماتي ولا دخل للأخلاق في السياسة أو الاقتصاد كما يروج المستفيدون والمطبعون.

ورغم تعرض قطر لحملات إعلامية ممنهجة من إسرائيل وبعض الدول الداعمة لها والمروجة للتطبيع معها والعديد من الدول الأوروبية التي تروج لأمور تتنافى مع ثقافتنا العربية والإسلامية وضد الفطرة الإنسانية السوية، ورغم كل هذه الحملات والأكاذيب والأباطيل ترسخ لدى شعوب العالم في قارته الست قيم الإسلام والمروءة والكرم وعدالة القضية الفلسطينية، وشعرت السيدات بالأمان نتيجة تحديد أماكن المشروبات الكحولية (الخمور) وتقليل الأوقات المسموح بتقديمها مما جعل هذه الدورة أكثر الدورات أمنا وأمانا، واستطاعت قطر أن ترسخ للشعوب العربية والإسلامية أننا نستطيع أن ننجح ونبهر العالم بالاعتزاز بقيمنا وثقافتنا وديننا ولا نكون مسوخا كما تفعل للأسف دول أخرى.

قيم القادة وأثرها في ترسيخ المفاهيم

نخلص من التجارب الثرية للقادة الأخلاقيين أن النجاح قرار يستلزم إرادة سياسية مخلصة لديها الرغبة الحقيقية في الاستقلال والانحياز لجموع الناس وليس للفئة المتنفذة أو أصحاب المصالح والعلاقات مع الشركات العابرة للقوميات، وبإمكان أي دولة أن يكون لديها شخص ملهم مثل مانديلا، وتقوم بمصالحة مجتمعية عادلة مثل رواندا، وبإمكان الشعوب الاختيار بين نموذج عبد الرزاق الفاسد أو نموذج مهاتير المنحاز لشعبه وللعدالة والشفافية والتنمية، وهناك مساحة للاختيار ما بين مثال ترامب وكينيدي.

إن الانحياز للربيع العربي أو الثورة المضادة، نموذج بينوشيه دكتاتور تشيلي المروج لليبرالية المتوحشة أو غابرييل بورتيش الديمقراطي النزيه، وكذلك نموذج لولا دي سيلفا المنحاز للفقراء أو بولسونارو رجل النيوليبرالية في البرازيل، كلها اختيارات تقوم إما على الانحياز لمنظومة القيم والأخلاق أو للنفعية اللا أخلاقية.

لقد كانت كأس العالم تجربة ملهمة تنظيميا وقيميا وأخلاقيا مما جعل العرب والمسلمين بل والشرفاء والمخلصين من الغربيين والأفارقة والآسيويين في مقارنة جلية بين نموذج قطر الأخلاقي والنماذج الأخرى غير الأخلاقية، وفي تقدير كاتب هذه السطور أن النموذج الأخلاقي انتصر لأن الزبد يذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وقيل على لسان الصحابي عثمان بن عفان رضي الله عنه أن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فقيم القادة تلهم الشعوب وتؤثر في الأجيال الجديدة وتساهم في خلق وعي قيمي تنويري حقيقي يرتكز على الأخلاق والعدل والمساواة، ومن ثم النهضة الحقيقية المستدامة المترابطة مجتمعيا والمتصالحة مع البيئة.

نتمنى أن نخطو ونبني على إثر هذه التجربة الملهمة، ونستمر في هذا الطريق المضيء، فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.