سيد قطب والأسس الفكرية للتيار الجهادي المعاصر (7)

midan - سيد قطب
الداعية والمفكر الإسلامي سيد قطب (مواقع التواصل)

أوضح المقال السابق أحد ملامح التغير المنهجي عند سيد قطب من خلال أيديولوجيا الجهاد التي سطرها في زياداته على النسخة الثانية من كتاب "في ظلال القرآن"، وكيف أن التصور القطبي للجهاد تأسس على مفهوم سياسي للدين يقوم على مفاهيم الثورة والانقلاب، ومن ثم حوّل سيدٌ الدينَ إلى مشروع راديكالي لتغيير العالم، ربط فيه بين طبيعة هذا الدين السياسي وبواعث الجهاد وأهدافه، حتى صار مفهوم الجهاد كفاحا انقلابيًّا دائمًا هدفه تغيير العالم، وتحطيم الأنظمة الجاهلية القائمة.

تركت هذه الصياغة الجديدة لمفهوم الجهاد كبير الأثر على جماعات العنف، أو ما سماه أحد منظريها "المشروع الجهادي"، ولبيان هذا الأثر الذي تركه سيد على هذه الجماعات سأتناول 3 أمور:

  • الأسس الفكرية للتيار الجهادي المعاصر،
  • والأثر الذي تركه سيد في تكوين منظري جماعات العنف وقياداتها،
  • والتقاط عدد من الدارسين الغربيين لأثر سيد في جماعات العنف.

وهذه الأمور الثلاثة يعضد بعضها بعضا، لتأكيد وضوح أفكار سيد وتأثيرها في المشروع الجهادي المعاصر، بعيدًا عن اعتذاريات القطبيين بأنه لم يقصد هذا أو أن المشكلة تكمن -فقط- في قرائه لا في نصوصه هو نفسه، وسأخصص هذا المقال لبيان الأمر الأول فقط، على أن أفرد مقالا لاحقًا للأمرين الثاني والثالث بإذن الله.

يمكن أن نرصد أوجه التشابه وأوجه الاختلاف بين سيد وجماعات العنف من خلال محورين رئيسين: موقع سيد على خارطة "المشروع الجهادي المعاصر"، وتطبيقات المنهج الحركي الذي وضعه سيد من خلال الانتقال من جهاد الأوراق إلى جهاد الحركة.

موقع سيد قطب من مشروع الجهاد المعاصر

خلص أبو مصعب السوري -أحد من أرّخوا للعنف وكان من أعضاء تنظيم الطليعة المقاتلة الذي أسسه مروان حديد في سوريا في السبعينيات- إلى أن "البنية الفكرية للتيار الجهادي المعاصر" تتمثل في "أساسيات من فكر الإخوان المسلمين + المنهج الحركي للشهيد سيد قطب + الفقه السياسي الشرعي للإمام ابن تيمية والمدرسة السلفية + التراث الفقهي العقدي للدعوة الوهابية ← المنهج السياسي الشرعي الحركي للتيار الجهادي". وفي الواقع، تنطوي هذه المعادلة على 3 مراحل لما يسمى "الفكر الجهادي" وسأسميه هنا "جماعات العنف" للتمييز بين الجهاد الشرعي والعنف. وهذه المراحل الثلاث كالآتي:

  • المرحلة الأولى: تمتد حتى منتصف الستينيات، وفيها وضع سيد قطب "الأسس الفكرية للتيار الجهادي المعاصر" بتعبير أبي مصعب. أما إضافات الإخوان المسلمين، حسب أبي مصعب، فكانت "مجرد تكرار وتفسير وإعادة صياغة"، و"لم تكن -في معظمها- ذات نفَس جهادي"، وهو معنى يؤكده أيضًا كتاب "على ثرى دمشق" لأيمن الشربجي الذي تزعّم تنظيم الطليعة المقاتلة (قطاع دمشق) في الثمانينيات، وأكد فكرة وجود انفصال بين الطليعة المقاتلة وتنظيم الإخوان.
  • المرحلة الثانية: بدأت أواخر السبعينيات حين أدخل تنظيم الجهاد المصري والجماعة الإسلامية في مصر إضافات فقهية تفصيلية مقتبسة من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، الأمر الذي شكل -بحسب أبي مصعب- "أساس الفقه الجهادي". وقد ناقشت في كتابي "العنف المستباح" بعض تلك الاقتباسات وبينتُ كيف تمت إعادة تأويلها بما يتناسب مع الفكر الجهادي، لأن الفاصل التاريخي بين ابن تيمية وجماعات العنف كبير جدا، فضلا عن أن سياق حديث ابن تيمية يختلف كليًّا عن سياق حديث جماعات العنف، الأمر الذي جعل استدعاءها لابن تيمية استدعاء تأويليا بخلاف استدعائها لسيد قطب، لأن سيدًا كان ينظر للواقع المشترك بينه وبين جماعات العنف.
  • المرحلة الثالثة: تشكلت في أواخر الثمانينيات مع ما "طرحته مكتبة الأفغان العرب"، وكانت -بحسب أبي مصعب- "تكرارا للفكر القطبي الحركي، والفقه السلفي من تراث المدرسة الوهابية".

تقوم المرحلتان الأولى والثالثة على المنهج الحركي الذي صاغه سيد، ثم ألهم منظري جماعات العنف بعد ذلك، من دون أن يعني ذلك وجود تطابق تام بين سيد وهذه الجماعات كما سيتضح لاحقًا. فجماعات العنف راكمت -عبر عقود- أدبيات نظريّة وتجربة عملية حتى صار يأخذ فيها اللاحق عن السابق، وكوّنت لنفسها مفكرين ورموزًا وفقهاء، يعتمد بعضهم على بعض ويُثني بعضهم على بعض.

فأبو بكر ناجي -مثلا- يثني على أبي قتادة وأبي مصعب ويقتبس عن سيد قطب وغيره. وأبو مصعب يقتبس من سيد قطب ويلقبه بـ"شهيد الإسلام" أو "الشهيد المعلم"، ويقتبس -في الوقت نفسه- من عبد الله عزام ويلقبه بـ"الإمام الشهيد" ويحتفي بتراثه، ويعترف أيضًا بالفضل الفكري الكبير لجماعة الجهاد المصرية عليه شخصيًّا. أما عبد الله عزام، فيحتفي -بدوره- بسيد قطب ويلقبه بـ"عملاق الفكر الإسلامي"، وهكذا.

فنحن أمام سَنَد متصل من الشخصيات والأفكار والتنظيمات التي جمعت بينها التجارب المشتركة ووحدة المنبع، مع بعض التطورات التي طالت الأفكار والتنظيرات، كما طالت الواقع والمعارك، ولكن أثر سيد في وضع الإطار النظري أو المشروع الحركي بارز ولا يمكن لأحد أن يخطئه، وذلك بفضل طاقته الثورية والاحتجاجية، حتى إن أثره طال جماعات مختلفة المشارب والتوجهات كالطليعة المقاتلة في سوريا، والثورة الإسلامية الشيعية الإيرانية وجماعات العنف وبعض حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين، بل إن أثره امتد إلى إندونيسيا كما نجد في تفسير وان صبري وان يوسف (Wan Sabri Wan Yusof) المشهور بـ"حَمْكَا".

تطبيقات المنهج الحركي وتطورات الواقع

رأينا في مقالات سابقة كيف أن المنهج الحركي لسيد انطوى على مفهوم موسع للجهاد والفتنة عن الدين، وعلى مركزية استثنائية لمفهوم الحاكمية، وسأكتفي هنا بالتركيز على مفهوم الجهاد وكيف كان خادمًا لبقية البناء الفكري القطبي. فتوسيع مفهوم الجهاد، استدعى توسيع مفهوم "الفتنة عن الدين" ليشمل مجرد العيش في ظل الأنظمة القائمة التي تشرّع لنفسها، ومن ثم يجب الجهاد القتالي لإزالتها. ومفهوم الحاكمية الذي قاد إلى القول بانقطاع الإسلام من الوجود وغياب الجماعة المسلمة، أوجب -أيضًا- الجهاد بوصفه منهجًا حركيًّا لاستعادة الحاكمية عبر إزالة الأنظمة وتغيير العالم.

فالجهاد -وفق المنظور القطبي- "كفاح انقلابيّ" دائم بالسيف والبيان، وهذا الانقلاب يشمل المعنيين السياسي والاجتماعي، ومن يدرك طبيعة هذا الدين -الذي هو ثورة وانقلاب- "يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان، ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية بالمعنى الضيق".

ولتوضيح "مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية وفي النظام الإسلامي وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني" يقول سيد "قد عدته الشيعة ركنا من أركان الإسلام، ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا؛ لولا ما ورد في حديث: «بُني الإسلام على خمس…». ولكن قوة التكليف بالجهاد، وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية، وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض؛ الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية: كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته" (2: 746). فالجهاد -إذن- كفاح انقلابي وحتمي، وليس دفاعيًّا، وأصيل في العقيدة والنظام الإسلاميين، وتفرضه واقعية المنهج الرباني، وهو ضرورة فطرية لا زمنية. بل إن قوة التكليف به وأصالته وضرورته كادت تؤدي إلى ركنيته في الإسلام لولا حصر الأركان في خمسة، ولكن ذلك لا يحول دون اعتباره جزءًا من كينونة الإسلام ونظامه عند سيد.

أما جماعات العنف، فقد تبنت هذا المفهوم الجديد للجهاد وطوّرته، ويمكن الحديث عن 4 مكونات لمفهوم الجهاد عندهم تأسست على فكر سيد مع بعض الفروق، وهي كالآتي:

  1. المكون الأول: أن "قوة التكليف بالجهاد" عند سيد حولت الجهاد عند جماعات العنف إلى فرض عين في الواقع المعاصر للدولة، وهو ما يتلاءم مع أولوية الحركي على العلمي عند سيد كما أوضحت سابقًا. وهذا الوجوب العيني يجد تسويغه في مفهوم الحاكمية الذي صاغه سيد، لأن غياب الحاكمية أدى إلى سيادة المجتمع الجاهلي وانقطاع الإسلام، ومن ثم فإن الجهاد هو السبيل الوحيد لاستعادة الحاكمية من خلال إنشاء "الدولة الإسلامية" التي ستكون نواة للخلافة الإسلامية. يقول أبو مصعب السوري -على سبيل المثال- إن "أحكام الشريعة تقرر أن الجهاد يكون فرض عين على كل مسلم في مثل هذا الواقع اليوم"، و"هو الحل لكافة أزماتنا كمجاهدين وكصحوة وكشعوب مسلمة".
    ويقول محمد عبد السلام فرج -مثلا- إن الجهاد هو "السبيل الوحيد لعودة ورفع صرح الإسلام من جديد"، وقد "أجمع المسلمون على فرضية إقامة الخلافة الإسلامية. وإعلان الخلافة يعتمد على وجود النواة، وهي الدولة الإسلامية". وهذا هو التطبيق العملي للمنهج الحركي الذي وضعه سيد، الذي صاغ مفهومًا ثوريًّا للدين حتى في جوانبه التعبدية والعقدية على أساس مفاهيم الحاكمية والجهاد والفتنة عن الدين كما سبق. ولكن ثمة فارق بسيط هنا، وهو أن سيدًا يرى أن الجهاد إعلان يجمع بين الحركة والبيان في مواجهة الواقع البشري بكل جوانبه "بوسائل مكافئة لكل جوانبه" أمس واليوم وغدا، أما الجهاديون فقد اقتصروا على الجانب القتالي منه فقط.
  2. المكون الثاني: أن قوة التكليف بالجهاد وأصالته وضرورته لحركية الدين عند سيد، كل ذلك جعل منظّري العنف يرون أن الجهاد ملازمٌ للإسلام في كل أحواله، بل لا يُتَصور وجوده من دون الجهاد القتالي. فالجهاد -بحسب أبي بكر ناجي مثلا- "من أهم أبواب هداية الخلق إن لم يكن أهمها"، و"تَرْك الجهاد من أهم أسباب نزول العذاب". والقتال -بحسب أبي محمد العدناني- "جزء من الدعوة أيضًا، والناس يجب أن تُجر إلى الجنة بالسلاسل". وبهذا نفهم سر النقد القاسي الذي كرره سيد ل"فقه الأوراق" وللقائمين بالاجتهاد الفقهي في المجتمع المعاصر، كما نفهم سر انحياز سيد الدائم لصالح "فقه الحركة". وبهذا أيضًا نفهم سر نقد جماعات العنف لأنصار الخيار السلمي في التغيير كما نجد -مثلا- عند أيمن الشربجي زعيم الطليعة المقاتلة في الثمانينيات، وأبي بكر ناجي أحد منظري تنظيم الدولة الذي تحدث عن "ضلال" الحركات الإسلامية السلمية.
  3. المكون الثالث: الجهاد عند جماعات العنف ذو طبيعة عنفية أصيلة وتكوينية، وهو ما افترقت به هذه الجماعات عن فكر سيد. فالجهاد -كما يقول أبو بكر ناجي- "ما هو إلا شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان"، وهذا كله مطلوب ومقصود. ويرى أبو عبد الله المهاجر أن ما في القتل بقطع الرأس من الغلظة والشدة "أمر محبوب لله ورسوله"، فعنصر البأس "من أعمدة أمة الرسالة"، "والذين يتعلمون الجهاد النظري -أي يتعلمون الجهاد على الورق فقط- لن يستوعبوا هذه النقطة جيدًا… ومن مارس الجهاد من قبل؛ علم أن الجهاد ما هو إلا شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان"، بحسب المهاجر. وقد توافق منظرو العنف على صيغة محددة للصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) يوصف فيها بـ"الذي بُعث بالسيف بين يدي الساعة"، كما تواردوا على الاستشهاد بحديث "جئتكم بالذبح" لبيان أن العنف تكويني في الرسالة الإسلامية. قال أبو محمد العدناني -في إحدى خطبه- إن "السلمية خلاف نهج الرسول ولا تؤدي إلى حق"، وقال في موضع آخر: "اعلموا أن لنا جيوشًا في العراق وجيشًا في الشام من الأسود الجياع، شرابهم الدماء، وأنيسهم الأشلاء". ورأى أبو بكر ناجي أن "اتقاء الدماء كان سبب الفشل" في ما سبق، ولذلك أصر على اعتماد منهج الشدة في أسلوب الدعوة وفي اتخاذ المواقف وفي أسلوب عمليات الجهاد. بل إن تنظيم الدولة حرص -في بعض خطبه- على الجمع بين الرحمة والسيف في عبارة واحدة، وحرص أبو بكر ناجي على شرح ذلك وأفاض فيه تحت عنوان "منهاجنا رحمة للعالمين".
    ترجع بدايات هذا الفهم والاستشهاد بحديثي "بُعثت بالسيف" و"جئتكم بالذبح" إلى محمد عبد السلام فرج الذي كانت رسالته عن الجهاد تأسيسية في التنظير للعنف، وهو ما بدأ به الافتراقُ عن تفكير سيد قطب الذي ما كان يرى الشدة والغلظة، بل اتخذ موقفًا متحفظًا منها. يقول سيد: "ينبغي أن نعرف وأن يعرف الناس -جميعا- أنها الغلظة على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم -وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين- وليست هي الغلظة المطلقة من كل قيد وأدب!" وقدّم سيد صورة مغايرة وحاسمة لمنهج الإسلام في مقاتلة أعدائه يقول فيها: "وهكذا تتواتر الأخبار بالخط العام الواضح لمستوى المنهج الإسلامي في قتاله لأعدائه، وفي آدابه الرفيعة، وفي الرعاية لكرامة الإنسان. وفي قَصْر القتال على القوى المادية التي تَحول بين الناس وبين أن يخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وفي اليسر الذي يُعامل به حتى أعداءه. أما الغلظة فهي الخشونة في القتال والشدة، وليست هي الوحشية مع الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة غير المحاربين أصلا، وليست تمثيلا بالجثث والأشلاء على طريقة المتبربرين الذين يسمون أنفسهم متحضرين في هذا الزمان. وقد تضمن الإسلام ما فيه الكفاية من الأوامر لحماية غير المحاربين، ولاحترام بشرية المحاربين. إنما المقصود هو الخشونة التي لا تُميع المعركة وهذا الأمر ضروري لقوم أُمروا بالرحمة والرأفة في توكيد وتكرار، فوجب استثناء حالة الحرب؛ بقدر ما تقتضي حالة الحرب دون رغبة في التعذيب والتمثيل والتنكيل".
  4. المكون الرابع: أن الجهاد عند جماعات العنف حربٌ على العالم بأسره، ولذلك لا عصمة لأحد في هذا العالم؛ إلا بإيمان أو أمان؛ لأن الجهاد جزاء الكفر، و"الكفر وإباحة الدم والمال قرينان لا ينفكان في دين الله" عند أبي عبد الله المهاجر. والسيف مركزيّ عند جماعات العنف، فقد جعل الله فيه -بحسب أبي بكر ناجي- "وقفا للكافرين عند حدهم ومَنْعا لتماديهم وهداية لبعضهم"، ومن "أسياف المسلمين التي نزلت على من يستحقها من البشرية" سيف على المشركين من العرب حتى يُسلموا، وسيف على اليهود والنصارى والمشركين من غير العرب حتى يُسلموا أو يُستَرَقُّوا أو يُفادوا بهم، وسيف نزل على الممتنعين ممن ينتسب إلى القبلة، وسيف على كل مرتد حاكم أو محكوم، حسب ما يقول ناجي. أما سيد فلم ينشغل بالحكم على الأفراد وقتالهم كما سبق أن أوضحت في مقال سابق.
  5. المكون الخامس: أن الجهاد -وفق هذا المنهج الحركي- وسيلة لإيجاد المجتمع الإسلامي المُغيَّب أو "المجتمع المسلم المتحرك المجاهد" بتعبير سيد. وقد قدم سيد هنا 3 أمور شديدة الأهمية "للمشروع الجهادي المعاصر":
  • الأمر الأول نظري، ويتمثل في تقرير أن واقعية هذا الدين الحركي تكمن في كونه يواجه كل واقع بشريّ بما يكافئه من الوسائل، وهو ما أخذه منه أبو مصعب حين قرر أن وسائل الجهاد متغيرة.
  • الأمر الثاني تشخيصي، ويتمثل في كون المجتمعات المعاصرة جاهلية ومن ثم لا شرعية لها. فسيد يرى أنه في القرنين الأخيرين "خلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام" حيث "حلت شرائع البشر محل شريعة الله" (4: 2013)، ومن ثم فالمنهج الحركي يواجه جاهلية اعتقادية تصورية تقوم على أنظمة واقعية تُسندها سلطات. يقول سيد: "إن هذا الدين لا يعترف -ابتداءً- بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية، ولا يرضى ببقائها"، وإن المتاهة التي يقع فيها المجتهدون لتطبيق أحكام الشريعة في هذا المجتمع القائم تتمثل في "افتراض أن هذه المجتمعات القائمة هي المجتمعات الإسلامية، وأنه سيُجاء بأحكام الفقه الإسلامي من الأوراق لتُطَبق عليها"، في حين أن "العمل في حقل الفقه والأحكام التنظيمية هو مجرد خداع للنفس"، و"الذي يحول دون تحول هذه المجتمعات الجاهلية إلى النظام الإسلامي هو وجود الطواغيت التي تأبى أن تكون الحاكمية لله… وتخرج بذلك من الإسلام خروجًا كاملا" (4: 2009-2013).
  • الأمر الثالث حركي عملي، وهو أنه في ظل الأمرين السابقين: الأساس النظري والتشخيص الواقعي، على "الحركة الإسلامية" أن تواجه هذا الواقع بأمرين: الدعوة إلى تصحيح التصورات، "والقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها" (3: 1432)؛ لأن الطواغيت -كما سبق- هم العقبة الكبرى أمام الحاكمية التي هي مفتاح الحل، وههنا نشأت عقيدة أولوية قتال القريب على البعيد لدى جماعات العنف كما سبق.

هكذا يرفض سيد الواقع القائم: أنظمةً ومجتمعات، ويرفض -أيضًا- الاجتهاد الفقهي له؛ إذ لا بد من إيجاد المجتمع الإسلامي أولا ثم الاجتهاد له، وهذا لا يتم إلا بإزالة الأنظمة القائمة وإيجاد المجتمع المسلم الذي يقوم على الحاكمية، وهو ما تمسك به منظرو العنف.

يرى فرج -مثلا- أن "حكام العصر قد تعددت أبواب الكفر التي خرجوا بها من ملة الإسلام"، وأن "قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد"، وأكد أيمن الظواهري وجماعة الجهاد المصرية هذا المعنى فقالوا إن جهاد الحكام "مقدم على جهاد اليهود، لسببين: القُرْب والردة، بل إن اليهود لا يستقر لهم مقام بفلسطين إلا في كنف هؤلاء الحكام الطواغيت المرتدين". وقد استند أبو مصعب -في بيان حيثية فرضية الجهاد على كل عين- إلى أن بلاد الإسلام اليوم في حالة احتلال مباشر أو غير مباشر، وحكومات بلاد المسلمين اليوم مرتدة كافرة، والخروج عليها فرض على المسلمين بالإجماع، وأحكام الشريعة تقرر بالإجماع كفر وردة من تعاون مع الكفار وأعانهم على المسلمين وتوجب قتاله، وأن أحكام الشريعة تقرر وجوب أو جواز قتال الصائل على دين المسلمين أو أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم حتى لو كان مسلمًا. ونحوه يرى سيد إمام الذي يقول "إن جهاد هؤلاء الحكام فرض عين على كل مسلم؛ لأنهم عدو كافر حَلّ بين المسلمين، وهذا من مواضع وجوب الجهاد العيني باتفاق أهل العلم". واستنادًا إلى هذا الإرث، جاء العدناني فقال إن "الحل في إعلان خليفة واحد في الأرض جميعًا، يُعلِن كفره بالطاغوت ويتبرأ من الكفر والشرك وأهله"، وجعل لذلك عنوانًا هو "هذا داؤنا ودواؤنا".

هكذا وضع سيد الأسس الفكرية للتيار الجهادي المعاصر؛ بالرغم من وجود فروق واختلافات بينه وبين التطورات اللاحقة التي طرأت على ما سمي "الفكر الجهادي". وأرجو أن أناقش هذه المقولات مناقشة نقدية وأبين أوجه الإشكال فيها في مقال لاحق يكون ختامًا لهذه السلسلة التي قادني إليها النقاش حول الطبعة الأولى من الظلال، فكان كل مقال يسوقني إلى ما بعده من دون سابق تدبير أو تخطيط، ولكن الفكر عرَضٌ يطرأ ويزول، ولذلك أحببت أن أقيده، والله المسؤول أن يعصم من الزلل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.