كيف نحافظ على نجاحنا وإرثنا الثقافي بعد كأس العالم؟
أعترف لكم في البداية بأنه لم تكن تربطني بكرة القدم وشائج كبيرة، ولكن مونديال قطر شكل نقطة تحول عندي، وأدركت أهمية كرة القدم ليس فقط باعتبارها مجرد رياضة، بل لارتباط الملايين من البشر في العالم بها، مما يجعل لها أبعادا ثقافية واجتماعية تتخطى الرياضة.
أعتقد أن ما حدث لي من تحول في النظر إلى كرة القدم هو إدراك مشترك مع كثير من المثقفين في العالم، وقد وجدت في الكتاب الذي أصدرته مؤسسة "العربي الجديد" تحت عنوان "سحر كرة القدم، أدباء من الشرق والغرب يحكون عن الشغف باللعبة الأكثر بهجة" ما يترجم هذه التحولات التي عاشها كتاب وأدباء في كثير من مناطق العالم في علاقتهم بكرة القدم، وإذ أثني على هذا العمل الذي أعده وحرره الأستاذ معن البياري، فإني أثمن هذه المبادرات الثقافية التي تُغني المكتبة العربية بكتاب ممتع ومفيد واستثنائي، وأقدر للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات حرصه على تعزيز الوعي ومقاربة الظواهر الثقافية التي يعيشها الوطن العربي.
لقد وجدتُ في الكتاب تجارب وحكايات صادقة لمبدعين من كل القارات عرفوا كرة القدم في فترة من فترات حياتهم، فكانت مثل لحظة تحول في نظرتهم للحياة، وبعضهم مارسها فخلّفت في وجدانه ما يخلفه الحنين إلى ذكريات لا تُنسى، وبعضهم اتخذ مكان المُشاهد فلم يستطع أن يتغلب على التورط في المتابعة، فقد أصبح لهذه الرياضة نوع من السحر على الكتاب الذين عادة ما نعتقد أنهم في أبراجهم العاجية وليسوا في ملاعب كرة القدم أو أمام الشاشات يتابعون بحماسة البطولات المحلية والدولية.
لقد شدني ما قاله الكاتب الروماني إيون دياكونيسكو في وصفه كرة القدم إنها "تلك الأداة المميزة التي تنتقل من روح إلى روح، إذ إننا في حاجة إلى إيقاع حياة، إلى سلوك جديد إلى إنسانية جديدة، كرة القدم ليست منقذا بكل تأكيد، غير أنها تجعل الأرض مكانا أفضل"، ويعني هذا القول أن رياضة كرة القدم وسيلة من وسائل التقارب بين البشر، لما تتضمنه من قيم ثقافية.
لذلك، ليس من الغريب أن يتضمن "موسم الندوات" في دورته الثانية موضوعا يتعلق بمونديال قطر، بل إنني أثني على هذا الاختيار الذي يعكس فهما للظواهر الثقافية التي تحتاج إلى دراسة واستفادة، ويعد موضوع "الإرث الثقافي للمونديال" من الموضوعات المهمة التي تندرج ضمن قضايا الساعة الفكرية والثقافية، فقد ارتبط المونديال بالأبعاد الثقافية، وهو ما أشار إليه صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، حفظه الله، بقوله: "إننا لن نمنع أي شخص من القدوم إلى بلدنا والاستمتاع بكرة القدم، وإننا نحترم كل ثقافات العالم، ونتوقع من الجميع احترام ثقافتنا".
لقد حدد صاحب السمو بشكل واضح الموقف الثقافي لدولة قطر من هذا الوجود الدولي، وبيّن الهدف منه، بالإضافة إلى مهمته الأساس وهي الرياضة، وهو أن يكون المونديال مناسبة لتأكيد التفاعل والاحترام المتبادل بين الثقافات، ولم يكن هذا القول مجرد شعار لفظي، ولكنه تجسّم على أرض الواقع ليكون ممارسة ناجحة أثبتت أن دولة قطر لن تتخلى عن قيمها الثقافية وستتدخل لمنع التجاوز لهذه القيم عندما يحاول البعض ذلك. وقد قدمت قطر ثقافتها وقيمها على امتداد فترة المونديال، فأتاحت للزوار من الثقافات المختلفة التعرف على ديننا وثقافتنا وقيمنا الاجتماعية وتأكيد مبدأ الاحترام المتبادل بين الثقافات.
لذلك لم يكن هذا الحدث مجرد مناسبة رياضية عابرة، بل هو منعطف تاريخي لقطر وللعرب ولكل الدول التي تسعى لرقي الحضارة الإنسانية، حتى أنني أعتبر هذا المنعطف نقطة استئناف الحضارة العربية لدورتها.
وهدفي في هذه المداخلة أن أعمل بما ناديتُ به طويلا، وهو ضرورة تفعيل مكتسبات نجاح المونديال على المستوى الثقافي حتى لا تحُول فرحة النجاح دون مواصلة العمل على تعهد هذه الشجرة التي تحتاج إلى العناية كي تورق أغصانها وتطرح ثمارها على الدوام. ويعني ذلك أن نفكر في ما بعد المونديال حتى نبتعد عن ذلك الأسلوب في التفكير الذي يبقى مفتخرا بأمجاد الماضي من دون أن ينفع حاضره ولا يفكر في مستقبله. وإذا كان من حقنا وحق الأجيال العربية الفخر، فإن هذا الافتخار لن ينفعنا في شيء إن لم نستخدم نتائجه الإيجابية في إحداث تحولات حضارية.
لننظر في محصلة هذا الإرث الثقافي الكبير الذي حصدناه من أثر ما زرعنا، ولا نرمي به في متحف الذاكرة.
إن أول ما يتجلى من أثر هذا النجاح الذي أبهر العالم هو إثبات القطريين لقدرتهم على خوض التحديات وكسبها على منوال ما قام به الأجداد حتى صارت استجابتهم لما يعترضهم منها جزءا من شخصيتهم الوطنية، فقد أبهر القطريون العالم بأسره بالتنظيم المحكم، وبالإنجازات الضخمة التي شملت البنية التحتية من ملاعب وطرقات ووسائل نقل ساعدت على أن يقام المونديال في أفضل الظروف وبشروط الاستدامة، وهو ما سيبقى علامة فارقة لأجيال من القطريين في العقود القادمة.
ولم يقتصر هذا النجاح على تنمية دافعية العمل والإتقان لدى أبناء المجتمع القطري فحسب، بل إن فضيلة هذا النجاح الكبير أنه أعاد التفاؤل والأمل إلى العالم العربي في مرحلة تحتاج فيها الأجيال العربية إلى نماذج ملهمة للفعل الحضاري مثل حاجتها إلى الإيمان بقدراتها والخروج من أسر تلك الصورة الدونية التي رسمها لها الفكر الاستعماري الجديد. إذ إن الانتصار النفسي شرط أساسي لأي نهضة حضارية، وكم من شعوب تراخى فعلها الحضاري بسبب هزيمتها النفسية.
وحرك المونديال "الذاكرة الجماعية " للشعوب، فقد استعاد العرب والمسلمون خاصة أمجاد الحضارة العربية الإسلامية حين كنا نقود ركب الحضارة ونؤثر في المجتمعات الأخرى، ونتصدر "النموذج" الحضاري للتقدم.
ومن النتائج الرئيسية للمونديال استعادة الدور الأساسي الذي تلعبه الثقافة في تقديم الصورة المثلى لدولة قطر، التي أعادت "الثقافة" إلى قلب الاهتمامات الدولية، باعتبارها محددا مهما لطبيعة العلاقات الدولية، فقد كانت الحملة التي تعرضت لها قبيل انطلاق كأس العالم "حملة ثقافية" بالدرجة الأولى، وكان التعاطي معها ثقافيا. هناك من كان يجرُ نحو "صدام الحضارات" وبينما كانت المباريات تدار على أرضية الملاعب العجيبة والساحرة، كانت مباراة كبرى تدار على أرضية الثقافة العالمية بين دعاة الصدام ودعاة الحوار والتعارف.
لقد احتوى المونديال على تعبيرات ورسائل ثقافية منحت البطولة طابعا استثنائيا، وأكدت قيمة القوة الناعمة حيث أثرت مختلف تلك التعبيرات الثقافية على ملايين المشاهدين في العالم. وهذا ما يؤكد من جديد فاعلية الدبلوماسية الثقافية التي تُعد الدبلوماسية الرياضية جزءا منها، إذ تحتاج الدول دائما إلى وسائل ثقافية لترويج ثقافتها وتعزيز حضورها في العالم، وقد كان المونديال اختبارا حقيقيا لجدوى هذه الدبلوماسية التي تتطلب اليوم مزيدا من العمل من أجل المحافظة على مكتسباتها والاستمرار في تنويع أدواتها.
احتضنت قطر على امتداد شهر كامل جمهورا من مختلف دول العالم، ومن ثقافات ولغات ومعتقدات وأعراق متنوعة، وكان التحدي الأكبر يتلخص في وضع قيمنا وثقافتنا على محك التواصل مع هذا التنوع الإنساني، وقد كسب المجتمع القطري رهان التواصل الحضاري بجدارة أدت إلى إحداث "صدمة الغرب"، الذي اعتبر بعض مناوئي العرب والمسلمين فيه أن مدونتنا القيمية عاجزة عن قبول الثقافات الأخرى، وأن الإنسان العربي عاجز عن الإسهام في الحضارة الإنسانية، ومن نتائج تسفيه تلك المزاعم تسويق الصورة الحقيقية للإنسان العربي القادر على الفعل متى تحققت له ظروف الإبداع. وبدت بعض الخطابات الغربية أقرب إلى العنصرية منها إلى الشعارات البراقة التي تدعي احترام الخصوصيات الثقافية للشعوب، ولا شك فإن اختبار هذه الشعارات في المونديال كان واضحا أمام العالم.
قدمت دولة قطر من خلال المونديال درسا في مفهوم التبادل الثقافي، ألا وهو احترام الخصوصيات الثقافية وليس الإذعان إلى فرض تعبيرات ثقافية تتعارض مع سلم القيم العربية الإسلامية. هذه القيم التي كانت جزءا أساسيا من التعبيرات الثقافية للمونديال، وحددت منذ حفل افتتاح المونديال "بوصلة" جميع فعالياته. ولم تكن البوصلة مستمدة من مرجعيات غريبة عن المجتمع القطري، بل أقيمت على مفهوم "التعارف" القرآني من خلال الفقرة التي جمعت بين الشاب القطري غانم المفتاح والممثل الأميركي مورغان فريمان. وبينت رمزية الحفل بجميع مكوناته اعتزاز القطريين بانتمائهم إلى الحضارة العربية الإسلامية وافتخارهم بقيمها السمحاء، فلأول مرة في تاريخ المونديال يتلى القرآن الكريم على أرض عربية ومسلمة في حفل تابعه المليارات من البشر، ليدركوا رسالة دولة قطر إلى العالم بضرورة التزام أصل الاجتماع الإنساني القائم على الحوار والاحترام والتعارف، وليس الصدام والكراهية والتفاضل.
لذلك كانت الفعاليات الثقافية للمونديال تعزز مسألة الهوية، وتؤكد أن الثقافة العربية الإسلامية جزء من الهوية الوطنية، فكان من رهانات القطريين تقديم ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم باعتزاز كبير، مما أكسب المونديال طابعا استثنائيا، وكانت إقامة الصلاة والأذان من العلامات التي جلبت التقدير، مثلما كانت حفاوة القطريين بالجماهير في كل مكان ترجمة صادقة لكرم الضيافة، وفرصة لتقديم صورة حقيقية عن طبيعة القيم الاجتماعية التي عاش بها الأجداد وتوارثناها جيلا بعد جيل، مما عكس وحدة المجتمع القطري ثقافيا واجتماعيا في التعاطي مع مختلف ظواهر المونديال.
لم يمنع المونديال من تقديم قطر "نمطا ثقافيا" جديدا في الحوار بين الثقافات وفي الاعتزاز بالهوية الوطنية من دون الانغلاق، مثلما ساعد المونديال على تنشيط الصناعات الإبداعية، ومنها ما يتعلق بالصناعات الحرفية، فقد تزينت الجماهير القادمة من كل أنحاء العالم بالعقال والغترة، وأضحى للبشت القطري رواج كبير ورمزية بعد أن ارتداه قائد الفريق الأرجنتيني في مراسم تسلم كأس البطولة.
ومن مكاسب المونديال أنه لم يحجب القضايا العادلة التي تؤمن بها الجماهير في كل مكان، لأن الرياضة ليست مجردة من القيم الإنسانية، والشعوب لا تهتف لمنتخباتها فقط وإنما تصدح بموقفها الإنساني من بعض القضايا الإنسانية، لذلك كانت القضية الفلسطينية حاضرة في وجدان الجماهير وفي هتافاتهم وفي تعبيرهم عن مساندتها برفع العلم الفلسطيني في كل مكان، في إشارة إلى أن الضمير العالمي لا يزال حيا.
توصيات:
- كنت منذ عدة أيام في جولة في عدة مدن في أوروبا وما أن يعرف أحد أني قطري إلا وينهال علي بالإعجاب والثناء، وهذا يشعرني كما يشعر كل قطري، بل كل عربي، بالاعتزاز ويؤكد إمكانية نجاح العربي في وقت كدنا نفقد فيه الثقة بذلك، وبقدر ما أرى النجاح مصدر فخر واعتزاز، فإنه في الوقت نفسه مسؤولية للمحافظة عليه والانتقال من نجاح إلى آخر، وكلي ثقة بأن قيادتنا الحكيمة تملك الرؤية والخبرة التي تجعلها تقف عند هذه الحقيقة.ولذلك، أتطلع أن تكون هناك خطة متكاملة للتعامل مع مرحلة ما بعد المونديال والبناء على ما حققناه من نجاح وتحويل البنية التحتية التي بنيناها من فنادق وملاعب وأسواق ومراكز ثقافية وطرق إلى فضاءات لحركة ثقافية واقتصادية ورياضية تجعل من بلدنا مثلا يُحتذى به في نجاح متواصل، وليس (فيلا أبيض) كما حدث في بعض الدول التي استضافت فعاليات عالمية ناجحة ولكنها لم تواصل المسيرة.يجب أن نقف عند مؤتمر الأمم المتحدة المعني بأقل البلدان نموا، وانعقاده بهذا المستوى الرفيع من رؤساء الدول ورؤساء الوزراء، واختيار صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى رئيسا للمؤتمر، وننظر لهذا المؤتمر الذي يتعامل مع أقل البلدان نموا على أنه دليل على تقدير وثقة العالم بدولة قطر وقيادتها الحكيمة، وهذا نموذج لاستثمار بلادنا لمكانتها الدولية والنجاح الكبير الذي حققته في المونديال والاستفادة من الخبرة التنظيمية والبشرية، ومنها توفير المقرات لاستيعاب الآلاف من المؤتمرين والحكمة في القيادة القادرة على احترام العالم وإيصال المؤتمرات إلى أهدافها.
وإني أرى أن دولة قطر بما تملكه من بنية تحتية يمكن أن تكون مقرا للمؤتمرات الدولية والفعاليات الكبرى في كل المجالات. - إن من يؤرخ للدبلوماسية الثقافية، أو الناعمة كما يحلو للبعض تسميتها، سيتخذ من مونديال قطر أوضح مثال لهذه الدبلوماسية، وعلى الدبلوماسية القطرية الناجحة أن تستفيد من هذا الإنجاز وتجعل من الدبلوماسية الثقافية رديفا لها، وتستفيد من مؤسساتنا الثقافية كالحي الثقافي كتارا والمتاحف والبرامج التعليمية في مؤسسة قطر والسنوات الثقافية أدوات لهذه الدبلوماسية. وأشير إلى نموذج رأيته بعيني يمثل عملا ناجحا وفعالا، حبذا لو تكرر في العالم، فقد دشنت كتاب "على قدر أهل العزم" في طبعته الألمانية في "الديوان" المركز الثقافي العربي الذي تشرف عليه سفارتنا في برلين، وألقيت فيه محاضرة تلتها جلسة نقاش مع المثقفين، ولمست ما يقوم به هذا المركز الثقافي القطري من دور فعال في خدمة الثقافة العربية في بلد مهم كألمانيا، وتمنيت لو أصبح هذا المركز مثلا قطريا في العواصم الكبرى في العالم، وثقافتنا العربية العريقة جديرة بمثل هذا الاهتمام.
- أريد أن أؤكد أهمية نشر ثقافة التوثيق في مجتمعنا، وقد دعوت مرارا إلى أن يُوثق كل ما يتعلق بالمونديال منذ أن بدأ التفكير فيه إلى أن تحول نجاحا لقطر وللعرب، ويجب أن نسجل كل تفاصيله من جهود للقيادة والأفراد والمؤسسات كتابة وصوتا وتصويرا، ونحن في مكتبة قطر الوطنية -بما نملكه من إرادة وخبرة وكفاءات فنية- قادرون على المساهمة الكبرى للقيام بهذه المهمة بالتعاون مع الجميع وبالذات مع اللجنة العليا للمشاريع والإرث التي أنجزت جل أعمال المونديال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.