تراجع الحضارة الغربية.. لماذا يحتاج العالم إلى أساليب جديدة لإنتاج المعرفة؟

االبرلمان الفرنسي - غيتي PARIS - DECEMBER 3: General view of the hemicycle during a weekly government questions session December 3, 2003 at the Parliament in Paris. (Photo by Pascal Le Segretain/Getty Images)
البرلمان الفرنسي (غيتي إيميجز)

العالم يحتاج إلى علماء يتمتعون بالشجاعة لإنتاج نوعية جديدة من المعرفة بهدف إنقاذ البشرية، فهناك الكثير من العوامل التي تتجمع لتشكل خطرا يهدد وجود العالم كله؛ لكن بالرغم من وضوح هذه العوامل فإن الدول الغربية تتجاهلها، فلماذا تتجاهلها؟!

لكي ينتج العلماء هذه المعرفة الجديدة التي تساهم في إنقاذ البشرية يجب أن يحرروا أنفسهم من التبعية العلمية للغرب، وأن يبتكروا المناهج والأدوات العلمية التي تفتح آفاقا جديدة لاكتشاف الحقائق، وزيادة وعي الشعوب وتشكيل الرأي العام، هذا يشكل وظيفة حضارية ودورا تاريخيا جديدا للعلماء بعد أن ركزوا كل جهودهم خلال القرنين الماضيين على تطوير الإنتاج المادي والصناعة ووسائل القوة وأسلحة الدمار والإبادة، فهل يقوم العلماء والباحثون بدورهم الجديد في إنقاذ الإنسانية من التقدم المادي المعقد الذي كان نتيجة لتطبيق المناهج العلمية التي تركز على التجربة والملاحظة؟

رؤية من المستقبل

في دراسة نشرتها جامعة كولومبيا، تشير نعومي أورسيكس وإريك كونوي إلى مفهوم جديد هو "فشل السوق" الذي يريان أنه أصبح نتيجة حتمية لارتفاع التكاليف الاجتماعية والشخصية على المجتمعات، وأن النظرية الرأسمالية أصبحت عاجزة عن مواجهة هذا الفشل وتقديم حلول جديدة. ومع وضوح هذا الفشل ظل المنظرون الرأسماليون ينكرونه، ولا يعترفون بالتغيرات التي يمكن أن تؤدي إلى كارثة وشيكة.

هذا الإنكار يؤدي إلى الفشل في تحليل الأحداث العالمية وفهم تأثيرها، وهذا يشير إلى أن المعرفة التي يمكن الحصول عليها عن طريق الحواس والتجربة والملاحظة العلمية محدودة، وأن العالم يحتاج إلى توسيع مصادر المعرفة.

أقلية تتحكم في صنع القرارات

أدى التركيز على العقل واستخدام المناهج العلمية الغربية إلى نمو الرأسمالية الصناعية، وتركيز الثروة والقوة في أيدي قلة تتحكم في إرادة الأغلبية، فرجال الأعمال الأثرياء يتحكمون في عملية صنع القرارات، ويعملون على تعطيل التفكير في بدائل لمواجهة التغيرات المناخية، وفشل السوق ودفع وسائل الإعلام إلى تجاهل الأحداث التي توضح المخاطر التي تهدد الدول الغربية، وعدم تحليل هذه الأحداث وتفسيرها.

هكذا تم تقييد الحريات الأكاديمية والإعلامية، وتم تقييد عملية إنتاج المعرفة التي يمكن أن تكشف الحقائق، وتحذر المجتمعات من المخاطر التي تهدد وجودها، لذلك يحتاج العالم إلى مرحلة جديدة من الكفاح لحماية الحرية العلمية، وفتح المجال أمام العلماء لإنتاج معرفة بأساليب ومناهج جديدة لا تخضع للشروط الغربية الرأسمالية.

التقدم الغربي ازداد خطورة عندما لم ترشده الحكمة وفقد الأخلاقيات والضمير، وشكل العدوان الأميركي على العراق جريمة تم فيها تدمير الشواهد التاريخية لأعظم حضارة عرفتها البشرية، وهي الحضارة الإسلامية التي كانت بغداد مركزها وكانت أجمل وأعظم مدن العالم التي تطور فيها العلم والأدب والشعر

كورونا تكشف حقائق جديدة

من أهم الحقائق التي كشفها وباء كورونا أن العقل له حدوده، وأن الإنسان يجب أن يعيد التفكير في الكثير من الأسس التي بنى عليها حياته خلال القرن العشرين، ومن أهمها التركيز على المادة واستخدام الحواس في الحصول على المعرفة وتطبيق المناهج العلمية.

كان التقدم الطبي من أهم الإنجازات العلمية الغربية، حيث نجح العلماء في إنتاج معرفة تتعلق بجسد الإنسان وإصلاحه عندما يتعرض للمرض عن طريق العلاج الذي ساهمت في إنتاجه البحوث العلمية التجريبية التي طبقتها شركات الأدوية؛ فأصبحت تشكل مصدر قوة اقتصادية وتجارية للدول الغربية، ومن المؤكد أن هذا يشكل إنجازا حضاريا عظيما.

لكن ذلك التقدم أدى إلى شعور الشعوب المتخلفة بالدونية والعجز؛ حيث يتم تداول القصص والنكت التي توضح التقدم الغربي في مجال إصلاح الجسد والعمليات الجراحية في مستشفيات حديثة، وتنتشر الكثير من النكت في العالم العربي التي تدور حول تفاخر الغربي الأبيض بأنه نجح في نقل قلب إلى مريض توقف قلبه، وبالطبع لا نستطيع أن نذكر بقية النكتة لأنها يمكن أن تعرّضنا للخطر بالرغم من معرفة الجميع بها. هناك نكتة أخرى حول الطالب العربي الذي تزوج ممرضة أميركية فأعترض أبوه، لكنها عندما نجحت في علاجه، قال مقولة لا نستطيع أيضا أن نكررها.

خطورة هذه النكت أنها تشكل اعترافا بالعجز أمام التقدم الغربي في مجال واحد فقط هو الطب، وأن الغربي المتقدم مؤهل بعلمه ليحكم العالم ويسيطر عليه ويقوم بإدارته، وهذا يرتبط بالمبرر الذي استند عليه الاستعمار الغربي في احتلال العالم العربي وأفريقيا وآسيا وهو العبء التاريخي أو دور الرجل الأبيض في تمدين البشرية، وهذا يوضح خطورة دور النكت في تشكيل حالة العجز والدونية والخضوع للاستعمار.

أين التقدم العلمي؟!

شكّل وباء كورونا صدمة حضارية عالمية، فالمنظومات الصحية في كل دول العالم كانت عاجزة أمام هذا الوباء الذي انتشر بسرعة، وجعل كل إنسان يتوقع الموت في أية لحظة، وهو يتناول الأدوية التي يوصي بها الأطباء، لكنه يعرف جيدا أن فائدتها محدودة وهو يرى أجساد الموتى أمامه دون أن يملك لهم نفعا، والأطباء يرون أجساد المرضى تنهار أمامهم تماما كما يرى المهندسون كيف تنهار المباني الجميلة التي أبدعوا في تصميمها وإنشائها بفعل الزلزال.

إنه الموت أمامنا، تلك هي الحقيقة التي تدفعنا لمراجعة الكثير من أساليب إنتاج المعرفة بالاعتماد على العقل وحده وترغم الجميع على التواضع وإدراك زيف الخرافات العنصرية الغربية؛ فالأبيض لا يملك من أمر نفسه شيئا أمام الموت الذي ينتظره الجميع دون النظر إلى ألوانهم وأجناسهم وانتمائهم، الموت قادم، والجميع عاجز عن مواجهته وإن انتهت كورونا ظهر وباء آخر أو جاء زلزال أو مات الناس خوفا وقهرا واكتئابا وحزنا وحسرة.

الاستكبار الغربي بأسلحة الإبادة

كان من أهم الأدلة على التقدم الغربي تطور الأسلحة التي تستخدم في التدمير والإبادة والتي شكلت صدمة حضارية للمصريين عندما قام نابليون بحملته على مصر فشاهدوا الموت والقنابل (القنبر) تنهال عليهم كالمطر، فتمزق الأجساد وتقهر الأرواح وتملأ القلوب خوفا ورعبا.

في الجزائر، استخدمت فرنسا أسلحة الدمار لإبادة البشر وتدمير العمران وإحراق القرى وإهلاك الزرع والضرع، ثم مضى علماء الغرب يطورون تلك الأسلحة لزيادة قدرتها التدميرية فكانت التجربة في هيروشيما وناغازاكي، لكن التقدم الغربي ازداد خطورة عندما لم ترشده الحكمة وفقد الأخلاقيات والضمير، وشكل العدوان الأميركي على العراق جريمة تمّ فيها تدمير الشواهد التاريخية لأعظم حضارة عرفتها البشرية وهي الحضارة الإسلامية التي كانت بغداد مركزها وكانت أجمل وأعظم مدن العالم التي تطور فيها العلم والأدب والشعر.

هذه الأسلحة المتقدمة -والتي تشمل الأسلحة النووية- أصبحت تهدد المدن الأوروبية، فالحرب الروسية الأوكرانية تتطور ولا يستطيع أحد أن يتوقع نتائجها، لكنها أصبحت تشكل خطرا على وجود أوروبا كلها.

هذه الحرب أصبحت تؤثر على مستوى حياة الشعوب كلها، فارتفعت أسعار السلع، وتزايد التضخم فانتشر الفقر في أوروبا ، وأصبح الأوربيون يعانون ويخافون من المستقبل ويشعرون بالاكتئاب والإحباط وعدم اليقين.

أميركا تصرّ على هزيمة روسيا، لكن بوتين يمكن أن يوجه أسلحته النووية إلى أوروبا إذا شعر بالهزيمة، وهناك مؤشرات على أن العالم يمكن أن يشهد حربا عالمية يتم فيها إبادة الملايين، وتدمير المدن وهذه الحرب يطلق عليها الأصوليون الإنجيليون المسيحيون "أرمجدون" استنادا إلى الإنجيل.

ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الأسلحة المتقدمة التي تمّ استخدامها طوال القرنين الماضيين في فرض الاستعمار الغربي وفي إبادة المسلمين والأفارقة، يمكن أن ترتد اليوم إلى صدور الأوروبيين فتدمر كل ما أنجزوه من تقدم مادي تفاخروا به على البشرية وعلوا واستكبروا وسخروا من تخلف الشعوب التي فرضوا عليها الدونية والعجز والتخلف.

الفقر يهدد الجميع

كان من أهم نتائج الاستعمار الغربي أن الدول الغربية نهبت ثروات الشعوب في آسيا وأفريقيا، فازدادت الدول الغربية غنى بينما ازدادت الشعوب فقرا وجوعا وتخلفا، فمن المؤكد أن التقدم الغربي مصنوع بثروات تم نهبها، وكان على حساب الشعوب الضعيفة التي يسخر منها الغرب ويصفها بالتخلف. فباريس تم إعادة بنائها بالذهب الذي تم نهبه من الجزائر، وتم تزيين قصورها بجماجم الشهداء الجزائريين الذين دافعوا عن بلادهم وقاوموا الاحتلال الفرنسي.

من المؤكد أن الدول الغربية بالغت في استخدام قوتها الغاشمة التي كانت من أهم تجليات التقدم العلمي ضد الشعوب، لكن يمكن أن نلاحظ الآن بوضوح نتائج استخدام هذه القوة، وأنها يمكن أن ترتد إلى صدور الأوروبيين، فتستخدم في تدمير مدنهم وإفقارهم وإعادتهم إلى مرحلة ما قبل الثورة الصناعية والنهضة الأوروبية.

سقوط الديمقراطية الغربية

هناك الكثير من الأدلة على أن الدول الغربية تعاملت مع الديمقراطية وحقوق الإنسان بمعايير مزدوجة، فعملت على فرض نظم استبدادية تابعة لها على الشعوب. لكن هذه النظم قامت بقهر شعوبها واستخدام القوة الغاشمة لإخضاعها، وفرض الثقافة الغربية عليها لمنعها من المقاومة والكفاح لتحقيق مصيرها وبناء مستقبلها.

تزايد إدراك الشعوب لدور الدول الغربية في فرض التخلف والفقر عليها، لذلك تزايد عداء هذه الشعوب للغرب، وارتبط غضبها على نظمها الاستبدادية بالعداء لأميركا التي أجهضت تجاربها الديمقراطية لتفرض عليها نظما أغرقتها في الفقر والديون.

لكن من أهم نتائج مساندة الغرب للنظم الديكتاتورية العسكرية الشمولية في قهر الشعوب، أن تدفقت الهجرات إلى الدول الغربية وللحد من تدفق الهجرات قامت الدول الغربية بفرض الكثير من الإجراءات الاستثنائية وانتهاك حقوق الإنسان والتعامل بعنصرية مع المهاجرين، لكن هل تشكل هذه الإجراءات خطرا على المواطنين الغربيين الذين كانوا يتمتعون بالأمن، ويتفاخرون بقوانينهم التي لا تميز بين المواطنين!

بشكل أوضح، هل تسقط الديمقراطية الغربية وينتقل الاستبداد إلى دول الغرب بعد أن تزايدت شعبية الاتجاهات اليمينية المعادية للمهاجرين، وزيادة فرص وصولها للحكم؟ وماذا يمكن أن يحدث لو أجبرت التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية الغربيين الذين يتمتعون الآن بالأمن على الهجرة إلى الدول العربية والأفريقية، هل يمكن أن يحدث ذلك؟

إن طرح الأسئلة غير المتوقعة اجتهاد علمي إبداعي يمكن أن يحفز العقول للتفكير.

هل تنهار الحضارة الغربية؟

إنني يمكن أن أوجّه نقدا علميا للحضارة الغربية، وأوضح للشعوب الكوارث التي نتجت عن سيطرتها على العالم، وإضعاف الحضارات الأخرى، لكنني لا أتمنى انهيارها وأعترف بفضلها في تطوير ثورة الاتصال التي تشكل إنجازا حضاريا عظيما تستحقه البشرية، لكن التفكير بالأمنيات عمل غير علمي، وهناك الكثير من العوامل التي تتجمع لتدفع هذه الحضارة نحو الانهيار وإنقاذ تلك الحضارة مشروع يقوم على كفاح الشعوب الغربية لترشيد هذه الحضارة، والمشاركة مع الشعوب الضعيفة في إقامة عالم يقوم على العدل والحرية وتبادل المعرفة، وتخلي الغربيين عن الأنانية والاستكبار على الشعوب، والاعتذار عن جرائم الإبادة والتدمير التي قام بها الغربيون خلال القرنين الماضيين، وفتح المجال أمام الشعوب لتقرير مصيرها وإقامة نظمها الديمقراطية التي تتمكن من المحافظة على ثرواتها، واستثمارها للتغلب على الفقر وإسقاط كل الديون عن الشعوب الضعيفة.

لكن هل يمكن أن يتحقق ذلك؟ الإجابة تحتاج إلى علماء يمتلكون شجاعة العقل والضمير والقلب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.