بحث الروائي "ياسمينة خضرا" عن الفضيلة أو انسحاب المثقف من السياسة

يُعدّ الروائي الجزائري الأصل محمد مولسهول -الملقب بـ"ياسمينة خضرا"- هرما من أهرام الأدب الناطق بالفرنسية. ففضلا عن قلمه السيال، لا يكاد القارئ ينتهي من قراءة عمل من أعماله حتى يُفاجأ بعمل جديد، فهو ذو أسلوب مميز قلما يجاريه الكتاب الفرنسيون فيه، كما أن كتابته لا تخلو من عمق فكري يؤشر على التحولات الكبرى التي تشهدها المجتمعات المغاربية خصوصا.
ولعل القارئ يشعر بأن ياسمينة خضرا يصدر في رواياته عن حس فني جديد وهو يحاول تفكيك البنية الشعورية للمجتمعات المغاربية في مرحلة ما بعد الاستعمار. وقد يذهب هذا القارئ إلى حد القول بأن ياسمينة خضرا قد أفرغ عبارة "ما بعد الاستعمار" من كل المعاني، وأن أعماله الأدبية تسهم في رسم ملامح علاقة جديدة بين الإسلام والغرب.
على خلاف أولئك الكتاب الذين يعجزون عن الانعتاق من أسر ثنائية "المُستَعمِر-المُستَعمَر" وهم يقلبون النظر في ذواتهم ومجتمعاتهم في مرحلة ما بعد الاستعمار، فإن ياسمينة خضرا يدير ظهره لهذه الثنائية، وكأنه يريد أن يقول بأن آثار الحدود الفاصلة بين الذات -بوصفها مستعمَرة سابقا- والغير -بوصفه مستعمِرا سابقا- قد عفت وانمحت.
هذا ما نلمسه بوضوح في روايته "الفضلاء" (Les Vertueux)، حيث يحرص الكاتب على الظهور بمظهر المثقف الذي ينسحب من كل أنواع الصراع السياسي والسجال الأيديولوجي، يطلب العزاء في الخلوة، آملا أن يجد في الكلمات ما يرمم به جروحه.
وما الفضيلة إلا أن يشيخ المرء وحيدا، بعيدا عن الأنظار…
في رواية "ماذا تنتظر القردة؟" يقوم البطل بإذلال المستبِد الحاج سعد والتنكيل به وإخضاعه لأنواع الإهانة التي كان يُخضع الآخرين لها قبل أن يقتله شر قتلة. فلعل ياسمينة خضرا في هذه الرواية يعرب عن ثقته بأن مع موت المستبد ونهاية الاستبداد ينعتق الفرد ويشفى ليصبح كائنا كاملا حيا. لم يكن حينها قد فقد الأمل في التغيير، في التخلص من سطوة نظام يستقي شرعية البقاء جاثما على الصدور من سردية الكفاح ضد الاستعمار فقط، لا من أفق سياسي جديد؛ لذلك كان خضرا يستحث ذاته وغيره على الفعل السياسي.
كان ياسين راعي غنم مغمورا يحيا حياة بسيطة، قبل أن تختطفه أيادي الغدر من بين أحضان عائلته الفقيرة ليصبح مجندا في صفوف الجيش الفرنسي من دون رغبة منه، فيُزج به في خنادق الحرب العالمية الأولى الدائرة رحاها في أوروبا
وفي محاولة منه لتقمص الدور البطولي الذي قام به بطل روايته "ماذا تنتظر القردة؟"، أعلن ياسمينة خضرا ترشحه لخوض غمار الانتخابات الرئاسية في الجزائر. غير أنه لم يلبث طويلا ليكتشف أن انخراطه في الصراع على السلطة بهذا الشكل لم يكن إلا ضربا من الوهم، ما كان ليفضي إلى شيء آخر غير الإحباط. فبعد الإقرار بالهزيمة والاعتراف بـ"العجز عن الإقناع"، انطلق المثقف ياسمينة خضرا في رحلة نحو الذات ينشد السكينة والاطمئنان الداخليين.
يدور محور رواية "الفضلاء" حول هذه الرحلة، رحلة انسحاب المثقف من الحياة السياسية. فـ"ياسين شَرّاكة" (تنطق الكاف هنا مثل الكاف المثلثة) بطل هذه الرواية، لا يستطيع مقاومة نداء الصحراء، حيث سيقضي بقية أيامه، يرعى النجوم، "يكفيه أن يرفع ذراعه ليقطف نجمته، نجمة الراعي" بعد أن بلغ قمة القمم، وهي "القمة التي عندها يتصالح الإنسان مع ذاته ويدخل في السلم مع نفسه" كما سبق أن أخبره أحد رعاة الإبل الحكماء، ممن صادفهم في أثناء رحلة التيه بحثا عن أسرته المهجرة.
يقول ياسين مخاطبا ذاته في نهاية الرواية: "من حقي أن أتزود من رحلتي كمنبوذ بما أراه زادا ضروريا يصلح لأيام شيخوختي". وقد أصبح يؤمن إيمانا راسخا بحقيقة صارت مقدسة عنده، مفادها أنه "مهما خلعت الرياح العاتية الصخور الكاتدرائية، ومهما حركت العواصف كثبان الرمل الهلالية، ومهما عصفت الأعاصير في البحر، فلا بد أن يسكن كل شيء وتؤول الأمور إلى الهدوء التام". وحتى يحدث هذا الهدوء التام، لا بد من النسيان والعفو والغفران. وياسين على استعداد كي يعفو عما سلف، يقول: "لقد سامحت الجميع، كل شيء".
لقد اختار ياسين العفو والصفح عما اقتُرِف في حقه من دسائس شنيعة وهو يقاوم رغبته في الانتقام، وذلك بعد أن بلغ درجة عالية من الوعي أصبح عندها يدرك أنه من العبث أن يحاول المرء فك الارتباط بين أنواع الشر المختلفة. ذلك أن الأمور قد بلغت درجة من التشابه أصبح عندها الشر مفهوما ملتبسا، حيث صار ممكنا أن تجد شرا في طيات شر أشر منه، أو أن تجد خيرا في طيات شر، أو شرا في طيات خير.
مراتع الظلم في قصة ياسين شَرّاكـة الحزينة
كان ياسين راعي غنم مغمورا يحيا حياة بسيطة، قبل أن تختطفه أيادي الغدر من بين أحضان عائلته الفقيرة ليصبح مجندا في صفوف الجيش الفرنسي من دون رغبة منه، فيُزج به في خنادق الحرب العالمية الأولى الدائرة رحاها في أوروبا. لقد تم تجنيده تحت اسم "حمزة بوسعيد"، اسم أحد أبناء القايد براهيم، الإقطاعي الفاسد والزعيم الخائن الذي يخلو قلبه من الرحمة. بعد عودته من الحرب اكتشف ياسين أن القايد براهيم ينوي التخلص منه إلى الأبد حتى يتسنى لعائلته الظفر بشرف المشاركة في الحرب في صفوف الجيش الفرنسي وحتى يحتفظ ابنه -عوضا عن ياسين- بالنياشين العسكرية التي قُلِّد بها بعد خوضه غمار الحرب في فرنسا.
فرّ ياسين من الموت المحقق ليجد نفسه في دروب التيه، يعاني ويلات محن لا تنقضي. وخلال رحلة بحثه عن عائلته التي هجرها القايد براهيم كُتِب له أن يلتقي مجددا ببعض رفقاء السلاح من زمن الحرب بفرنسا، كما صادف في طريقه أناسا جددا. وقد شاءت الأقدار أن يلتقي مجددا بـ"زُرْق" الذي سبق وأن خبر أطواره الغريبة في أثناء التجنيد بالجيش الفرنسي. لم يجد ياسين بدا من الانخراط معه في حرب العصابات التي كان يخوضها ضد المُعمِّرين الفرنسيين في الجزائر. ولما سقط "زرق" ميتا ضحية تدبير القايد براهيم الخائن، اختار ياسين الاستقرار في مدينة سيدي بلعباس، وكله رجاء أن ينعم بحياة هادئة سعيدة رفقة مريم، الفتاة التي تزوجها خلال إحدى رحلاته إلى قبائل بني ڭـيل (بني عقيل) في شرق المغرب الأقصى.
لم يمض وقت طويل حتى حلت بساحته مصيبة أخرى، ليجد نفسه مختطفا من حضن مريم، يعاني الأمرين في سجن الأعمال الشاقة، حيث حكم عليه بقضاء 20 سنة بتهمة قتل خادمين من خدم القايد براهيم. وبينما يكابد آلام الشوق لزوجته وابنه الصغير وحرقة الجهل بمصيرهما في هذا العالم الغاشم، شاءت الأقدار أن يصل خبره إلى أحد ضباط الصف الفرنسيين من الذين عاينوا دماثة أخلاقه خلال فترة التجنيد، فهب إلى نجدته ليخلصه من الأشغال الشاقة بعد أن قضى أكثر من نصف مدة الحكم.
حين يسأل ياسين ما الذي اقترفه حتى استحق أن يجني ما جناه من المآسي والفواجع، تعود به الذاكرة إلى أيام الحرب في فرنسا، فتشخص أمام عينيه لحظة إطلاقه النار بدم بارد على شاب ألماني بريء، لا يدري كيف قسا قلبه أمام نظراته المستعطفة.
الأرض والسماء وحدهما موطن هوية ياسين الراعي
من خلال رواية "الفضلاء" يسعى ياسمينة خضرا إلى تبليغ رسالة جريئة مفادها أنه لا ناقة ولا جمل لياسين وأشباهه في النزاعات العسكرية والصراعات المسلحة التي كُبكِبوا فيها كما يُكَبْكب الغاوون يوم القيامة في الجحيم. بل هي البراءة في الصفين، براءة ياسين القاتل، وبراءة الشاب الألماني المقتول.
يستعصي على ياسين الراعي أن يتماهى مع كل القضايا التي استدعت منه حمل السلاح، من قضية الجيش الفرنسي، مرورا بقضية القايد براهيم، إلى قضية زرق. وهو يأخذ مسافته من الجميع، تجده لا يحلم إلا بشيء واحد: استعادة هويته المسلوبة، هوية الراعي الذي تحددها علاقته القوية بالسماء والأرض، لا غير.
ويشي اسم ياسين العائلي "شَرّاڭـة" بهوية متأصلة في الانزياح والجولان والانتقال الحر بين الغرب والشرق، فـ"الشرّاقة" في أصلها لفظة تعني أولئك الذين يطلبون الشرق منتجعا حين تضيق أمامهم سبل العيش. وإذا كان "الشراقة" يقيمون في أقصى غرب الجزائر، فمعنى أنهم ينحدرون من أقصى شرق المغرب. لم يكن اختيار ياسمينة خضرا لاسم بطل رواية الفضلاء اعتباطيا، بل كان القصد وراءه التنبيه إلى أواصر الأخوة القوية التي تتخطى الحدود المصطنعة لتجمع بين الشعوب المسلمة.
يزكي هذا القول أن ياسين ومريم، زوجته المغربية من بني عقيل، قررا ترك المدينة للعيش تحت سماء الصحراء، تحديدا تحت نجوم القنادسة، منطقة تقف شاهدة على تاريخ من التعايش يدحض زيف الهويات المصطنعة الحديثة.
يقول ياسين: "في كل ليلة، قبل أن أنام بين ذراعي مريم، أتذكر كلمات حادي الإبل الذي أنقذني قبل سنوات خلت في منطقة الحمادة: إذا أردت أن تبلغ قمة المَلِك، القمة فوق جميع القمم، فما عليك إلا أن تعيش في سلام مع ذاتك".