رؤية خارجية متواضعة للمعارضة التركية

أهم رموز المعارضة التركية (مواقع التواصل)

أعلن تحالف أحزاب المعارضة الستة في تركيا نهاية الشهر الماضي عن وثيقة السياسات المشتركة التي سينتهجها في حال فوزه في الانتخابات المتوقع إجراؤها في منتصف مايو/أيار المقبل. وفي حين أن الحيز الأكبر من هذه الوثيقة خُصص للقضايا الداخلية، فقد أفردت الوثيقة بندا خاصة برؤيتها للسياسة الخارجية والأمن القومي ومكافحة الإرهاب.

بالنظر إلى الدور الخارجي المتنامي والمؤثر لتركيا في كثير من القضايا الإقليمية والدولية في ظل انخراطها العسكري في عدد من الصراعات المحيطة بها كسوريا وليبيا والتوازن الحساس الذي تُدير به موقفها في الحرب الروسية الأوكرانية، فضلا عن علاقاتها المتشابكة مع روسيا والغرب، فإن مستقبل الدور الخارجي لتركيا بعد الانتخابات يحظى باهتمام واسع في العواصم الإقليمية والدولية.

لقد بنى تحالف المعارضة جانبا من خطابه السياسي على معارضة معظم السياسات الخارجية للرئيس رجب طيب أردوغان من سوريا والإقليم إلى توتر العلاقات مع الغرب وتعزيز الشراكة مع روسيا وغيرها. مع ذلك، فإن المقاربة المثالية التي تطرحها المعارضة لإصلاح العلاقات الخارجية تبدو غير واقعية مقارنة بالظروف التي تتحكم بهذه العلاقات، كما أنها لم تُقدم رؤية واضحة وعملية لتحقيقها على أرض الواقع.

يُمكن ملاحظة أن هذه الرؤية مختلفة عن سياسة أردوغان في بعض القضايا كالموقف من الغرب، لكنها لا تُحدث تغييرا جذريا على السياسات الخارجية في القضايا ذات البُعد القومي، كالنزاع مع اليونان والقضية القبرصية وعلاقات تركيا مع العالم التركي في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز.

أناقش في هذه المقالة رؤية التحالف السداسي للسياسة الخارجية في 6 ملفات أساسية مؤثرة على تركيا، هي مكافحة الإرهاب، وسوريا، والسياسات الإقليمية، والعلاقات مع الغرب وروسيا، والموقف من الحرب الروسية الأوكرانية.

أولا: الأمن ومكافحة الإرهاب:

بالنظر إلى الدور المؤثر لعامل الأمن ومكافحة الإرهاب في تشكيل السياسة الخارجية التركية خصوصا في العقد الأخير، لا يُلاحظ تغيير جذري من حيث المبدأ في رؤية المعارضة عن السياسة التي يتبناها الرئيس رجب طيب أردوغان في هذه المسألة. فقد وعد التحالف السداسي بمواصلة محاربة كل التنظيمات الإرهابية باستخدام القوة دون انقطاع، مع إعطاء الأولوية لتجفيف مصادر الإرهاب، في إشارة إلى اعتزام التحالف مواصلة النهج التركي المعمول به منذ سنوات في مكافحة حزب العمال الكردستاني عبر العمليات العسكرية في شمال العراق.

لكن اللافت أن وثيقة السياسات المشتركة للتحالف لم تتطرق صراحة إلى الموقف من وحدات حماية الشعب الكردية السورية وكيفية التعامل معها. ويبدو أن تجاهل هذه المسألة يرجع إلى حرص المعارضة على تجنب تبني خطاب قوي وواضح في مكافحة الإرهاب من شأنه أن يُنفر ناخبي حزب الشعوب الديمقراطية الكردي الذي تشتد حاجة المعارضة لأصواته خصوصا في انتخابات الرئاسة. كما يرجع أيضا إلى أن هذه القضية كان لها تأثير سلبي للغاية على ديناميكية العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة في السنوات الماضية، وبالتالي فإن تجنب الخوض فيها يُريح التحالف من عبء تبني خطاب يُقر ضمنيا بصوابية سياسات أردوغان في التعاطي مع هذه المسألة وبالتهديد الذي يُشكله الدعم الأميركي للوحدات الكردية على الأمن القومي التركي.

ثانيا: سوريا

كان للحرب السورية تداعيات كبيرة على تركيا في مجالات الأمن والسياسة الداخلية والاقتصاد والعلاقات مع الخارج. وقد ركزت أحزاب المعارضة التركية عموما جانبا من خطابها المناهض لأردوغان على انتقاد سياساته في سوريا، لكن الرؤية التي يطرحها التحالف السداسي بخصوص سوريا تجاهلت تحديد موقف واضح في الملفين الأكثر أهمية لتركيا، وهما مستقبل الوجود العسكري التركي في شمال سوريا ووحدات حماية الشعب الكردية.

وعد التحالف بإجراء حوار مكثف مع جميع الأطراف ذات الصلة التي تمثل مختلف شرائح الشعب السوري والنظام في دمشق باستثناء الجماعات الإرهابية، من أجل إقامة سلام دائم في إطار قرارات الأمم المتحدة. في حين أن دمشق تُرهن أي مصالحة مع أنقرة بسحب قواتها من سوريا، فإنه لن يكون بمقدور تحالف المعارضة إحداث تغيير جذري على السياسة التركية في سوريا دون تقديم التزامات واضحة وصعبة بسحب القوات التركية.

كما أن ارتباط الوجود العسكري التركي في سوريا بحسابات الأمن القومي التركي بالدرجة الأولى تجعل من الصعب على المعارضة تجاهل هذه الحسابات في صياغة سياسة جديدة بشأن سوريا. من الواضح أن رؤية التحالف السداسي للملف السوري ومكافحة الإرهاب صُممت في بعض الجوانب لمراعاة الظروف الداخلية والحاجة الانتخابية للصوت الكردي.

نهج أردوغان المتوازن في الحرب محل إجماع داخلي نادر بين الحكومة والمعارضة كما أنه ساهم في منح مصداقية بين الأتراك للدور القيادي لأردوغان الذي نجح من خلال علاقاته الوثيقة مع بوتين وزيلينسكي في إبرام اتفاقية الحبوب ومحاولة لعب دور الوساطة لإنهاء الحرب

ثالثا: السياسة الإقليمية

وعد تحالف المعارضة بوضع حد للممارسات القائمة على الحسابات الداخلية والمقاربات الأيديولوجية في السياسة الخارجية وتعزيز العلاقات مع دول المنطقة. هذه النقطة تكتسب أهمية في ضوء أن السياسات الإقليمية التركية خلال العقد الماضي صُممت في بعض جوانبها على أساس المقاربة الأيديولوجية لحزب العدالة والتنمية وتوجهاته المحافظة التي يُعتقد أنها سبب لدعم أنقرة للتحولات العربية التي أدت لصعود تيار الإسلام السياسي في المنطقة بعد عام 2011.

رغم أن هذا الاعتقاد يبدو واقعيا بشكل جزئي، فإن تنامي الدور الإقليمي التركي بعد تلك الفترة ارتكز على جانبين أساسيين، هما الفراغ الأمني الخطير الذي خلفته الصراعات في دول الجوار على المصالح الحيوية لتركيا، ورغبتها في التحول إلى لاعب رئيسي في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية المحيطة بها. مع ذلك، فإنه في ضوء الانعطافة التي أحدثها أردوغان في السياسة الإقليمية خلال العامين الأخيرين من خلال إصلاح العلاقات مع القوى الفاعلة في المنطقة، التي كانت في بعض جوانبها نتيجة للمتغيرات التي طرأت على الإقليم بفعل تراجع تيار الإسلام السياسي، فإن رؤية تحالف المعارضة للسياسة الإقليمية لا تتعارض بشكل واضح مع التوجهات الحالية لأردوغان.

رابعا: العلاقة مع الغرب

تعهد تحالف المعارضة بإعادة الحيوية للشراكة مع الغرب من خلال اتخاذ بعض المبادرات الطموحة كإعادة تركيا لمشروع تصنيع مقاتلات "إف-35" F35 مع الولايات المتحدة، واستئناف استكمال مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. في الواقع، تُشكل هذه المسألة حجر الزاوية في السياسة الخارجية التركية.

خلال السنوات الأخيرة من حكم أردوغان وصلت علاقات تركيا بالغرب إلى مستويات متدنية للغاية بفعل مجموعة من العوامل، على رأسها الهوية الجيوسياسية الجديدة التي رسمها أردوغان لبلاده كقوة موازنة بين الشرق والغرب والنزعة الاستقلالية في السياسة الخارجية عن الغرب، فضلا عن الخلافات في قضايا الأمن والإرهاب والموقف الغربي من التحولات الداخلية التركية بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة عام 2016.

رغم أن الخسارة المحتملة لأردوغان في الانتخابات يمكن أن تعالج العامل المتمثل به شخصيا كأحد أسباب التوترات مع الغرب، فإن العوامل الرئيسية الأخرى المسببة للتوترات ستبقى قائمة، كملف اليونان والوجود العسكري الأميركي فيها وقضية قبرص والشرط الصعب الذي تفرضه واشنطن على أنقرة لإعادتها إلى مشروع تصنيع مقاتلات إف-35 وهو تخليها عن منظومة "إس-400" S-400 الروسية.

لم تقدم المعارضة رؤية واضحة لكيفية تعاملها مع هذه القضايا باستثناء تحول مهم عن سياسة أردوغان في المسألة القبرصية، حيث لم تتبن وثيقة المعارضة حل الدولتين الذي تبناه أردوغان في السنوات الأخيرة، وتحدثت بدلا من ذلك عن حل دائم وشامل للقضية القبرصية.

خامسا: العلاقة مع روسيا

وعدت المعارضة بتعزيز العلاقات مع موسكو من خلال التفاهم بين أنداد، وبحوار متوازن وبناء على المستوى المؤسسي. تُشكل العلاقة مع روسيا أحد التعقيدات البارزة في السياسة الخارجية التركية، فضلا عن كونها انعكاسا مباشرا لتردي علاقات تركيا مع الغرب في عهد أردوغان.

في حين أن أردوغان يقارب العلاقة مع موسكو من منظور الحاجة لموازنة مصالح تركيا بين روسيا والغرب، فإن المعارضة لم تُقدم رؤية واضحة لكيفية صياغة سياسة خارجية تعمل على استعادة الهوية الجيوسياسية لتركيا كجزء من الغرب، وتُساهم في الوقت نفسه بالحفاظ على علاقة ودية مع روسيا. كون المعارضة تُدرك أن إصلاح العلاقات مع الغرب لن يكون فقط بانتهاج الحوار كسبيل لمعالجة الخلافات معه في القضايا المباشرة، بل أيضا بالتحول نحو تبني نهج متشدد في العلاقة مع روسيا، فإنها تتجنب إبداء التزامات واضحة للغرب بهذا الخصوص، كما تجنبت تبني وعود من شأنها أن تدفع موسكو إلى التعامل مع تركيا كخصم وليس كشريك تنافسي.

التحول الأبرز في السياسة الخارجية للمعارضة عن سياسة أردوغان يكمن في التعهد ببناء علاقات مع روسيا والولايات المتحدة على أسس مؤسساتية، وهو ما يُفهم أنه تخل عن نهج أردوغان الذي اعتمد بشكل أكبر على العلاقات الشخصية التي أقامها مع بوتين والرؤساء الأميركيين في صياغة العلاقات الخارجية مع موسكو وواشنطن. في الديناميكية المتسارعة للتحولات الخارجية التي تؤثر على تركيا، فإن غياب عنصر العلاقات الوثيقة على مستوى القادة قد لا يكون مساعدا لتركيا بما فيه الكفاية للتكيف السريع معها.

سادسا: الحرب الروسية الأوكرانية

من المثير للاهتمام أن تحديد الموقف من هذه الحرب، التي تُعد أكبر قضية دولية في الوقت الراهن وتؤثر بشكل كبير على تركيا، غاب بشكل بارز عن وثيقة السياسات المشتركة لتحالف المعارضة. ويعكس هذا الغياب رغبة ضمنية للتحالف السداسي في الحفاظ على نهج التوازن بين روسيا وأوكرانيا، بالنظر إلى أهميته في تقليص تداعيات الحرب على تركيا ومصالحها الحيوية مع روسيا والغرب.

لقد كان نهج أردوغان المتوازن في الحرب محل إجماع داخلي نادر بين الحكومة والمعارضة، كما أنه ساهم في منح مصداقية بين الأتراك للدور القيادي لأردوغان الذي نجح من خلال علاقاته الوثيقة مع بوتين وزيلينسكي في إبرام اتفاقية الحبوب ومحاولة لعب دور الوساطة لإنهاء الحرب. كما أن تفعيل معاهدة مونترو ساعد في تقليص عسكرة الوضع في منطقة البحر الأسود التي تُعد حيوية لتركيا.

يبدو أن سبب تجاهل رؤية المعارضة لهذه المسألة يرجع لنجاح أردوغان بشكل بارز في إدارة موقف تركيا منها. أخيرا، في ضوء عدم استطاعة المعارضة صياغة سياسة خارجية يمكن أن تكون منافسة لسياسة أردوغان، فإن مشروعها للسياسة الخارجية بدا متواضعا ويعكس إقرارها بصعوبة تقديم نهج بديل ومقنع يتلاءم بشكل فعال مع الحالة الدولية المحيطة بتركيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.