هل يهدأ حديث صعود الصين؟

الصين وأميركا قوتان عالميتان تنظران إلى بعضهما البعض بحذر شديد عبر المحيط الهادي. تتواصل الدولتان بشكل سيئ، ولا يجمع بين نخبهما السياسية سوى القليل من التعاطف تجاه الطرف الآخر.
تُقدر أميركا الحرية وتقدر الصين الاستقرار، تقدر واشنطن الحسم الإستراتيجي، في حين تتبنى بكين الصبر الإستراتيجي. بدا ذلك واضحا في طريقة تعامل الدولتين مع انتشار تفشي فيروس كوفيد-19 منذ نهايات 2019.
ومع بدء الإغلاقات العالمية الاحترازية في أبريل/نيسان 2020، نشر المفكر كيشور محبوباني -وهو دبلوماسي سنغافوري رفيع سابق، وخبير حاليا بجامعة سنغافورة الوطنية- كتابا مهما رسم خلاله مسار وسبيل تحدي الصين لتفوق الولايات المتحدة العالمي.
جادل محبوباني بأن الولايات المتحدة هي من أطلقت منافسة مع الصين، واتهم الإدارات الأميركية المتعاقبة بتجاهل النصيحة التي قدمها الحكيم الدبلوماسي الأميركي جورج كينان خلال الحرب الباردة، بضرورة المحافظة على الحيوية الأميركية الداخلية، وأن تكسب الأصدقاء في جميع أنحاء العالم، ولا تهين خصمها
وجاء عنوان الكتاب "هل انتصرت الصين؟ التحدي الصيني للهيمنة الأميركية"، لافتا الأنظار إلى أن محتواه أكثر من محاولة للترويج لنموذج الصين في الحكم والتنمية، إذ ذهب ليبشر بأفول الهيمنة العالمية، وبالنظام الذي أسسته واشنطن عقب الحرب العالمية الثانية، سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
وأثار الكتاب -وغيره من الأفكار التي عبرت عن بدء أفول الهيمنة الغربية لصالح الهيمنة الشرقية متمثلة فى الصين وربما الهند- الكثير من القلق فى الدوائر الفكرية الغربية، وبث الشكوك بين الكثير من صانعي القرار فى واشنطن في إمكانيات دولتهم وقدرتها التي يرونها استثناء.

إلا أن تجربة فيروس كورونا، التي لم تنتهِ فصولها بعد، عكست بدقة القدرات الحقيقية التي تتمتع بها الدولتان في المنافسة الجيوسياسية بينهما، وهي منافسة فاقمتها أزمة تفشي وانتشار الفيروس، وانتهت لصالح النموذج الغربي في التعامل مع الأزمة غير المسبوقة.
وجادل محبوباني بأن الولايات المتحدة هي من أطلقت منافسة مع الصين، واتهم الإدارات الأميركية المتعاقبة بتجاهل النصيحة التي قدمها الحكيم الدبلوماسي الأميركي جورج كينان خلال الحرب الباردة، بضرورة المحافظة على الحيوية الأميركية الداخلية، وأن تكسب الأصدقاء في جميع أنحاء العالم، ولا تهين خصمها، وأن تكون متواضعة.
ووفقا لمحبوباني، فإن التنافس الإستراتيجي بين الصين القوة الصاعدة والولايات المتحدة قوة الوضع الراهن قد اندلع بسبب الأخطاء والمفاهيم الخاطئة وسوء الفهم من كلا الجانبين. فأولا، ارتكبت الصين خطأ إستراتيجيا فادحا عندما نفرت مجتمع رجال الشركات الأميركي، جزئيا من خلال النقل القسري للملكية الفكرية والسرقة والاختراقات السيبرانية.
فى حين رأى محبوباني أن أميركا ارتكبت خطأ إستراتيجيا أكبر، وهو إطلاق منافستها الجيوسياسية مع الصين بدون أن يكون لديها إستراتيجية شاملة طويلة الأجل حول كيفية التعامل مع بلد مثل الصين، وهو أمر عبر محبوباني عن أمله أن تصححه إدارة جو بايدن، وهو ما لم يحدث.
وفي الوقت الذي يُنظر فيه إلى عسكرة الصين لبحر جنوب الصين على نطاق واسع على أنها دليل على تراجع الصين عن وعودها بعدم توسعها، وهو ما قوض ثقة جيرانها والدول الغربية بها؛ يقول محبوباني إن السلوك الصيني جاء ردا على تصعيد واشنطن أثناء حكم باراك أوباما من تكثيف البحرية الأميركية لدورياتها في المنطقة، وهو ما دفع الصين عندها فقط إلى الرد بعسكرة بحر جنوب الصين.
وعدّد محبوباني سلبيات النموذج الأميركي، والتي لا يجهلها أحد خارج أو داخل الولايات المتحدة، مثل عدم المساواة المتفشي، وأرقام المساجين المرتفعة، وغزوات واشنطن الحمقاء حول العالم، وموقفها الانتقائي تجاه الالتزامات الدولية. ولكن محبوباني -عندما يتعلق الأمر بالصين- لا يرى إلا كل ما هو جميل وواعد.
وفضّل محبوباني تجاهل مشكلات النسيج الاجتماعي والعرقي الصيني، وألقى قليلا من الاهتمام بالتغييرات الديموغرافية المقلقة التي بدأت تلوح فى الأفق في الصين وهي تتصارع مع شيخوخة السكان، أو فقاعة العقارات العملاقة خالية السكان.
ودافع محبوباني بحماس عن الحكم الاستبدادي في الصين، وهو يرى أن الحكومة الصينية ربما تكون الأكثر جدارة فى العالم، وبالتأكيد الأكثر نجاحا في تاريخ الصين الطويل. ويرى أن البديل أمام الشعب الصيني هو الفوضى، لذا فإن الحكم المركزي القوي هو الطريقة الأكثر فعالية للحفاظ على تماسك البلاد.
كذلك روج محبوباني للقيم الصينية مقابل القيم الأميركية، ولم يتطرق للانتهاكات الواسعة الموثقة من فرق تحقيق مستقلة تابعة للأمم المتحدة فى إقليم شينجيانغ الذي تسكنه أقلية مسلمة، أو أقاليم التبت، ناهيك عن قمع الحريات في هونغ كونغ والتهديد المستمر بغزو تايوان.
وأكد محبوباني أن الاقتصاد الأميركي ينزلق حتما إلى المرتبة الثانية عالميا، لكنه لا يذكر سوى القليل من التحديات العديدة التي تواجه الاقتصاد الصيني، مثل الديون وشيخوخة السكان وضعف نمو الإنتاجية. ويزعم أن الصين أكثر رأسمالية من أميركا، على الرغم من أن الرئيس شي جين بينغ يدفع الاقتصاد نحو المزيد من رأسمالية الدولة، ويضيق الخناق على رجال الأعمال الأكثر نجاحا في البلاد.
وحاليا، تمتلك الولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم بـ23 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022 وفقا لبيانات البنك الدولي، في حين أن الصين لديها ثاني أكبر ناتج محلي إجمالي عند 18 تريليون دولار.
ودفعت الإغلاقات وتبعات فيروس كوفيد-19 السلبية على الاقتصاد الصيني لفرملة سعي الصين لتصبح الاقتصاد الأول في العالم، ويشكك كثيرون في إمكانية حدوث ذلك على الإطلاق، وفي أن الصين قد وصلت قمتها بالفعل.
وليس سرا أن الصين تطمح تحت قيادة الرئيس شي جين بينغ إلى دور قيادي عالمي، إلا أنه يبدو متسرعا بشكل متهور، وهو ما أدى لارتكاب أخطاء كارثية في التعامل مع فيروس كورونا، وبالتالي تسببت تلك الأخطاء في فرملة عجلة التنمية الصينية بصورة لم يتوقعها حتى الصينيون أنفسهم ممن عاشوا تجربة إغلاقات قاسية وغير إنسانية يدفعون ثمنها حتى الآن، وربما لأشهر وسنوات قادمة.
وتبقى طموحات الصين في الزعامة العالمية شرعية بلا شك، إلا أن السعي للزعامة يجب أن يوفر نموذجا يتطلع إليه بقية العالم، شعوبا وحكومات، وكانت تجربة مواجهة فيروس كورونا، كفيلة بهز ثقة شعوب العالم، وثقة أغلب الصينيين في كفاءة نظامهم السياسي الذي أصبح معتمدا على تفضيلات شخص واحد هو شخص الرئيس شي جين بينغ.
في النهاية، أنصح أي شخص لديه اهتمام جاد بالصين، أو مستقبلها الجيوسياسي، بقراءة كتب أخرى حول مستقبل الصين، بعيدا عن كتاب الدبلوماسي السنغافوري.