"في ظلال القرآن" (4) | زيادات سيد قطب وإشكالاتها

المفكر الإسلامي "سيد قطب" (مواقع التواصل)

في النسخة الثانية المزيدة والمنقحة من كتاب "في ظلال القرآن"، صاغ سيد قطب أفكارا رئيسة تجاوز بها الأيديولوجيا الإخوانية التي أسسها حسن البنا، فقد اشتملت زياداته على أفكار ألهمت -فيما بعد- جماعات العنف، كالخروج على الأنظمة (الإسلام ثورة وانقلاب)، وتكفير المجتمعات المسلمة (التوحيد حاكمية سياسية وقانونية)، وأن النظام الإسلامي الشامل لا يقبل التبعيض (نظام مطلق)، ولا يتحرك إلا في محيط هو الذي يصنعه (الطهورية والعزلة الشعورية).

هكذا دفع سيد بفكرة النظام الشامل إلى أقصاها، ورتّب عليها أحكاما جديدة على الفكر الإخواني قرَّبته من الفكر الخارجي، ولهذا كان سيد مرجعية رئيسة من مرجعيات الجماعات المنتسبة إلى الجهاد. فقد صاغ -في واقع الأمر- البيان النظري أو المنهج الحركي القائم على الثورية والإطلاقية والطهورية، ثم جاءت جماعات العنف فأوجدت الوسائل لتنفيذ ذلك البرنامج النظري، ونقلته من "فقه الأوراق" إلى "فقه الحركة" بلغة سيد نفسه.

في هذا المقال، سأوضح ملامح التغير المنهجي الذي طرأ على سيد كما بدا في النسخة الثانية من "في ظلال القرآن"، وسأوضح البنية الفكرية أو ثمرة هذا التغير المنهجي الذي تغلغل في النسخة المزيدة والمنقحة، وسأخصص مقالا آخر لبيان أثر الظلال في جماعات العنف فيما بعد، وكيف أن منظريها بنوا على هذه التطورات الأخيرة لسيد، وخاصة في الظلال الذي اعتبره بعضهم "التفسير الحق".

تحدث سيد مِرارا عن استدارة الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين، وعن مشابهة أوضاعنا اليوم للأوضاع التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم، أو للأوضاع بعد وفاته وحدوث الردة، وأننا في حال "مثل ما كان عليه المؤمنون في بداية الجهاد"

ملامح التغير المنهجي في النسخة الثانية من الظلال

لنبدأ بملامح التغير المنهجي. أسس سيد -في النسخة الثانية من الظلال- لمنهجية جديدة تجاوز بها المنهج الذي سلكه في النسخة الأولى، تتمحور حول تأويل النص من منظور الواقع المعيش، حيث معنى أو حقيقة النص لا تظهر إلا من خلال 3 أمور توضح كيف قطع سيد مع التقليد الإسلامي التاريخي. وهذه الأمور هي:

أولا: أن المنهج الحركي هو الذي يكشف عن معنى النص وحقيقته

يعني المنهج الحركي لدى سيد الحركة بالنص أو المعركة مع ما يسميه "الجاهلية المعاصرة" أو "الجاهلية الحاضرة"، والجهاد لمواجهة التحولات التي عصفت بالأمة المسلمة. فالواقع والتحولات التي يمور بها مفتاح لفهم النص، ومن خلال هذا التفاعل بين النص والواقع يتشكل "فقه الحركة" الساعي إلى تغيير العالم. وفقه الحركة ضروري لمواجهة هذه التغيرات التي عصفت بالمجتمعات الإسلامية وأدخلتها في وحل الجاهلية الأولى من جديد، وفرضت استئناف الإسلام الذي انقطع وجوده وفق منظور سيد.

فالمعركة إذن ضرورية ليس فقط للدفاع ولا لضرورات واقعية، وإنما ضرورية أيضا لفهم معنى النص، فهي التي تولّد المعنى الحقيقي له، وهو معنى غضّ طريّ لا يدركه إلا المجاهدون المتحركون بالنص في الواقع لا الدارسون. ولهذا قرر سيد أكثر من مرة أن "اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس، ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق"، وأن "فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة، ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة"، وأن "الذين يتحركون بهذا الدين في مواجهة الجاهلية (…) هم وحدهم الذين يفقهون هذا القرآن، ويدركون الأبعاد الحقيقية لمدلولات نصوصه، وهم وحدهم الذين يملكون استنباط فقه الحركة".

فالمنهج الحركي عنى تجاوز "المنهج الفني" الذي سلكه في النسخة الأولى من الظلال وإن لم يرجع عنه نهائيا، لأنه بقيت له أهميته في تحليل شكل النص من منظور أدبي يتصل باللغة، ولكن سيدا بات يرى -في النسخة الثانية- أن الدراسة "البيانية أو الفنية" للنص إن هي إلا "قَعْدَة باردة ساكنة" لا يُدرك بها صاحبها شيئا من حقيقة النص، لأن "القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة، ويواجه مثل تلك المواقف التي تَنَزَّل فيها ليواجهها ويوجّهها".

ثانيا: أن مفهوم الحاكمية الذي هو أحد أركان بنية سيد الفكرية مفتاح لفهم النص

أي أنه مفهوم تأطيري له طاقة تأويلية تكشف عن مدلول النص. ومن ثم فالكلمة القرآنية "لا تعطي مدلولها الحقيقي إلا للقلب المفتوح لها، والعقل الذي يستشرفها ويتقبلها" وفق تصور الحاكمية. فالقرآن "لا يفتح كنوزه ولا يكشف أسراره ولا يعطي ثماره إلا لقوم يؤمنون" به ذلك الإيمان الخاص ذا المضمون السياسي الثوري والحديث القائم على الحاكمية السياسية والقانونية، ولهذا ألح سيد على فكرة استئناف الدعوة الإسلامية من جديد، وأن القرآن عاد لـ"يواجه البشرية كما واجهها أول مرة"، أي أن النص بات نصّا مقاتلا، وتأويله مثل تنزيله، والجاهلية الحاضرة مثل الجاهلية الأولى، وبقي للوجدان دوره المركزي لدى سيد في عملية الفهم وتلقي النص كما كان في منهجه الأول ولكن الإيمان صار إيمانا ثوريا. وهذا فارق مهم يميز تصور سيد عن تصور المتصوفة الذين يولون أهمية كبيرة لنقاء القلب وانكشاف البصيرة في القبض على معنى النص.

ثالثا: أن الجاهلية هي مفتاح لتوصيف الواقع القائم وتحولاته، أي السياق الذي يعين على فهم النص من جهة، وهو محل التغيير المطلوب من جهة أخرى. فالجاهلية المعاصرة تشبه الجاهلية الأولى، وهذا التشابه هو الذي يُعين على فهم النص في لحظة التنزيل، فجاهليتنا قرّبتنا من زمن التنزيل الأول للنص، ووضعتنا في لحظة تنزيل جديد ولكن لمعنى النص هذه المرة. ولهذا تحدث سيد مِرارا عن استدارة الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين، وعن مشابهة أوضاعنا اليوم للأوضاع التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم، أو للأوضاع بعد وفاته وحدوث الردة، وأننا في حال "مثل ما كان عليه المؤمنون في بداية الجهاد". ولكن هذه الرؤية التأويلية أدت إلى أمرين خطيرين:

  1. تكفير المسلمين، فـ "الذين يفرّقون -في الدين- بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين، مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا -بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى- أنهم مؤمنون"، وبهذا أدت كل المعاصي الصادرة عن المسلمين إلى ذهاب الإيمان من نفوسهم، ومن ثم تجاوز سيد هنا التمييز الذي يقيمه الفقهاء بين النظري والعملي، أي بين من لا يفعل تقصيرا أو كسلا (كمن اعتقد ولكن قصَّر به عمله)، وبين من هو غير مؤمن (منكِر اعتقادا وعملا)، وذلك لأن مفهوم سيد للتوحيد يتمركز حول الحاكمية السياسية والقانونية ولا ينسجم مع ذلك التفصيل أو التمييز بين النظري والعملي، أو بين العقدي والفقهي الذي هو مسألة منهجية مقررة لدى الفقهاء والمتكلمين.
  2. إسقاط أحكام الجاهلية الأولى على الواقع المعاصر. فتوصيف الجاهلية المعاصرة أو الحاضرة أو الشاملة (وهي تعبيرات تتكرر بكثرة في النسخة المزيدة والمنقحة) قاد إلى لوازم خاطئة لدى سيد، كاعتقاد أنه لا وجود لحكم فقهي واحد مستقل بذاته يعيش في فراغ جاهلي، وإنما يعمل الحكم في "محيطه الملائم"، وهو المحيط ذاته الذي نشأ فيه الحكم أول مرة وتَحَول إلى ممارسة أو عمل، ومن ثم فلا يجوز الاجتهاد لهذا المجتمع الجاهلي، لأن أي اجتهاد له هو ترقيع وخلط لنقاء الحق بشوائب الباطل، وهو فرع عن تصور الإيمان والتوحيد الذي لا يتبعض، وعن الحاكمية التي لا يمتاز فيها مجتمع عن سلطة حاكمة لدى سيد. ولهذا أسس لفكرة "العزلة الشعورية" و"الطليعة" المقاتلة المتحركة بالقرآن التي تقود زمام التغيير وتنشئ المجتمع المسلم من جديد.

وقد عنت هذه المنهجية بملامحها الثلاثة السابقة (الحركية والحاكمية والجاهلية)، استئناف الإسلام من جديد وتجاوز التقليد الإسلامي وإرثه، وقطيعة مع التجربة والفهم التاريخيين للإسلام، ومن ثم غدا النص بكرا كأنه لم يُفهَم من قبل أو أُسيء فهمه، أو انحرف تطبيقه أو تم تعطيله، أو لا معنى له إلا هذا المعنى الذي يذكره سيد والجهاديون من بعده، فانتفت المسافة الفاصلة بين النص والتأويل.

العالم ينقسم -"في نظر الإسلام وفي اعتبار المسلم" بتعبير سيد – إلى قسمين: دار إسلام ودار حرب، ولا ثالث لهما، ومدار هذه القسمة على معيار مركزي هو تطبيق أو عدم تطبيق أحكام الإسلام، أي الحكم بالشريعة أو عدمه. ومن ثم تصبح دار الحرب دار إباحة للنفوس والحقوق والأموال، إذ إن دار الإسلام فقط هي التي تستحق أن تُصان فيها الدماء والأموال والنظام العام

البنية الفكرية أو ثمرة هذا التغير المنهجي

أما بخصوص البنية الفكرية التي أثمرها التغير المنهجي في التعامل مع النص القرآني لدى سيد، فتدور على 3 أركان رئيسة هي:

  1. الحاكمية بمعنى أن الألوهية سلطة حاكمة على تفاصيل الحياة ودقائقها (سيادة بالمعنى الحديث).
  2. ورؤية العالم القائمة على الصدام والمفاصلة حيث الصراع على أَشُده بين الإسلام والجاهلية المعاصرة.
  3. الجهاد بوصفه انقلابا وثورة لتغيير العالم على يد "الطليعة المؤمنة" التي يُناط بها نقل الجمهور من الجاهلية إلى الإسلام.

أما الحاكمية، وهو مفهوم يهيمن على النسخة الثانية من الظلال، فهي قرينة شهادة التوحيد وإحدى مقتضياتها، وقد أخذ سيد هذه الفكرة من أبي الأعلى المودودي الذي صاغها في سياق صراع الهنود المسلمين لإنشاء كيان سياسي خاص بهم في باكستان. ويمكن أن نرصد 3 سمات للحاكمية عند قطب:

  • الأولى: أن الحاكمية هي المعبّر الرئيس عن معنى التوحيد، ويتكرر هذا في مواضع من النسخة الثانية من الظلال، فشهادة التوحيد (لا إله إلا الله) تعني "إفراد الله بالحاكمية التي تجعل التشريع -ابتداء- حقا لله، لا يشاركه فيه سواه، وعدم احتكام إلى الطاغوت في كثير ولا قليل، والرجوع إلى الله والرسول فيما لم يَرِد فيه نص". فسيد يشير هنا إلى 3 مكونات تشمل الحاكمية التشريعية من قبل الحكام، والخضوع لجميع تلك الأحكام من قبل المحكومين، والتسليم بالحاكمية حتى في حالة غياب النص. وقد قاد هذا المفهوم الثلاثي الأبعاد إلى إثبات "التلازم بين (دين الله) و(الحكم بما أنزل الله)" لدى سيد، وهكذا تداخل السياسي والقانوني والفقهي والعقدي معا ليُشكلوا أيديولوجيا سياسية مظهرها الأوحد هو نظام الحكم في العالم المعاصر.
  • الثاني: أن المعنى الثلاثي السابق، شمل تكفير الحكام والمحكومين ممن لم يحققوا مفهوم الحاكمية أو حتى تحاكموا إلى بعض القوانين الوضعية ومن هذا الوجه استحقت المجتمعات المعاصرة وصف الجاهلية. يقول سيد في النسخة الثانية من الظلال: "مَن أطاع بشرا في شريعة من عند نفسه ولو في جزئية صغيرة، فإنما هو مشرك. وإن كان في الأصل مسلما ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضا، مهما بقي بعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه، بينما هو يتلقى من غير الله، ويطيع غير الله. وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم في ضوء هذه التقريرات الحاسمة، فإننا نرى الجاهلية والشرك -ولا شيء غير الجاهلية والشرك- إلا من عصم الله فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدّعيه من خصائص الألوهية ولم يَقبل منها شرعا ولا حكما إلا في حدود الإكراه". بل إن العقيدة التي تبناها تنظيم القاعدة في أولوية قتال القريب على البعيد تجد جذرها في النسخة الثانية من الظلال حين يقول سيد: "إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهارا نهارا في العقيدة، ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمة باللسان تكذبها الأفعال. لا يتسامح مع من يقولون: إنهم يوحدون الله ويشهدون أن لا إله إلا الله، ثم يعترفون لغير الله بخاصية من خصائص الألوهية، كالحاكمية والتشريع للناس".
  • الثالث: أن الجهاد من مقتضيات الحاكمية. فإذا كانت السمة الأولى للحاكمية تصوغ مفهوم التوحيد، والسمة الثانية تقوّم الناس والواقع بناء على هذا المفهوم الجديد للتوحيد، فإن السمة الثالثة للحاكمية تقدم الوسيلة المناسبة لتغيير هذا الواقع ليطابق ذلك المفهوم. يقول سيد في الظلال: إن من مقتضيات الحاكمية "أن يجاهِد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض (…) فيصبح المنهجُ الذي أراده الله للناس (…) هو المنهج السائد والغالب والمطاع، وهو النظام الذي يُصرّف حياة الناس كلها بلا استثناء (…) وهو مدلول شهادة أن (لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) ومقتضاه، لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرُّخْص والتفاهة والضياع".

ليست الحاكمية -بمفهوم سيد- مفتاحا لفهم النص فقط، بل تضع الأساس لرؤية العالم لديه، وتدعي فهم تحولات الواقع التي تعيدنا إلى لحظة شبيهة بالجاهلية الأولى، ومن ثم يعاد فيها تَنَزل معنى النص. وثمة 3 ملامح رئيسة لرؤية سيد للعالم، وترد في مواضع متعددة من النسخة الثانية من الظلال، وهي كالآتي:

  1. الملمح الأول: أن العالم ينقسم -"في نظر الإسلام وفي اعتبار المسلم" بتعبير سيد- إلى قسمين: دار إسلام ودار حرب، ولا ثالث لهما، ومدار هذه القسمة على معيار مركزي هو تطبيق أو عدم تطبيق أحكام الإسلام، أي الحكم بالشريعة أو عدمه. ومن ثم تصبح دار الحرب دار إباحة للنفوس والحقوق والأموال، إذ إن دار الإسلام فقط هي التي تستحق أن تُصان فيها الدماء والأموال والنظام العام. أما دار الحرب "فليس من حقها ولا من حق أهلها أن يتمتعوا بما توفره عقوبات الشريعة الإسلامية من ضمانات (…)، لأنها لا تعترف بحاكمية الإسلام".
  2. الملمح الثاني: أن دار الإسلام قد غابت، لغياب الحاكمية، ولهذا يتحدث سيد في موضع عن "المنطقة التي كانت يوما دار إسلام تُحكم بشريعة الله"، وأن سبيل النجاة الوحيد هو الانفصال والعزلة العقدية والشعورية عن أهل هذه الجاهلية. والعزلةُ نظام حياة إلى أن تتسنى إقامة دار الإسلام. يقول سيد: "لا نجاة للعصبة المسلمة -في كل أرض- من أن يقع عليها هذا العذاب" إلا إذا:
  • انفصلت عقديا وشعوريا ومنهجَ حياة عن أهل الجاهلية من قومها إلى أن يأذن الله لها بقيام دار إسلام.
  • "وشعرت شعورا كاملا بأنها هي الأمة المسلمة، وأن ما حولها ومَن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه، جاهلية وأهل جاهلية".

3. الملمح الثالث: أن دار الإسلام التي تحولت إلى دار كفر، تأخذ كل أحكام دار الكفر التي ثبتت لدار الكفر الأولى مرحليا حتى توجد دار الإسلام من جديد. يقول سيد: "فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية وارتفع حكم الله -سبحانه- عن حياة الناس في الأرض، وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها، ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها. الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام -كالجولة الأولى- تأخذ في التنظيم كل أحكامها المرحلية حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة، ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى بإذن الله فلا تعود هجرة، ولكن جهاد وعمل كما حدث في الجولة الأولى".

أعاد سيد أيضا -في النسخة الثانية من الظلال- صياغة مفهوم الجهاد بالاستناد إلى أبي الأعلى المودودي. فالجهاد بمفهومه الجديد له 3 سمات رئيسة كما يبدو في النسخة المزيدة والمنقحة من الظلال، وهي:

  • السمة الأولى: أن الجهاد جزء من العقيدة وميزان لإيمان الرجل، فهو عنصر عميق وأصيل "في العقيدة الإسلامية وفي النظام الإسلامي وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني". وبما أن الحركة بالنص هي التي تُسفر عن معناه وحقيقته، فإن جهاد الجاهلية المعاصرة يُصبح ميزانا "يوزن به إيمان الرجل وإخلاصه للدين"، كما كان الأمر كذلك في الجاهلية الأولى. على حين أننا نجد أن بعض فقهاء الشافعية نصوا على أن الجهاد إنما يجب وجوب الوسائل لا وجوب المقاصد، وأن جهاد الكفار إنما المقصود به هدايتهم لا قتالهم.
  • السمة الثانية: أن المفهوم الجديد للجهاد يتأسس على التوحيد والحاكمية، ومن ثم فهو "ثورة على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب، وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله" كما يقول سيد. بل إن الجهاد يغدو السبيل لإيجاد الإسلام الذي انقطع وجوده في زمننا، و"السعي المتواصل والكفاح المستمر في سبيل إقامة نظام الحق ليس غير". بل إن الإسلام نفسه يغدو -لدى المودودي الذي ينقل عنه سيد- "فكرة انقلابية، ومنهاجا انقلابيا يريد أن يهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره ويأتي بنيانه من القواعد، ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكرته ومنهاجه العملي".
  • السمة الثالثة: أن السمتين السابقتين تقودان إلى أن الجهاد ليس حركة دفاعية "كما يريد المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر أن يصوروا" على حد قول سيد، بل هو "حركة اندفاع وانطلاق لتحرير الإنسان في الأرض بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري، وفي مراحل محددة، لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة"، ولهذا صار الجهاد مقصودا لتغيير نظم الحكم والواقع الجاهلي واستئناف الإسلام أو إيجاده.

هكذا أسفرت الزيادات التي أدخلها سيد على "في ظلال القرآن"، عن تغير في المنهج وتحول في الرؤية من المنهج الفني إلى المنهج الحركي، حيث أضاف مفاهيم تأويلية وبنى تصورات حادة وفاصلة قادت إلى معان جديدة خارجة على التقليد الإسلامي، وقطعت مع الفكر الإخواني الذي انتمى إليه أولا، وشكلت مَعينا للسلفية الجهادية كما سنوضح في مقال لاحق بإذن الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.