الثقافة اليوم بين جسمانية الصورة المستبدة وروحانية الكلمة المحررة

لا جدال في أن العالم اليوم، تحت إمرة الثقافة الغربية الغالبة، يشهد هيمنة ثقافة الصورة (شترستوك)

يقدم لنا الواقع شواهد كثيرة تحملنا على أن نعتقد أن الإنسان لم يعد يتلذذ بشيء قدر تلذذه بمشاهدة الصور، ويحملنا هذا الاعتقاد على التفكير فيما لو كان في إدمان الإنسان على لذة البصر مسلبة للبصيرة ومذهبة للعقل. وإذا كان الإنسان كما نَصِف مسلوب العقل والبصيرة، فجدير بنا أن نسأل عن الجهة أو الجهات المستفيدة من إبقائه على هذه الحال. ولعل هذا يدعونا إلى توسيع مداركنا للتفكير في طبيعة العلاقة بين ثقافة الصورة بوصفها جزءا لا يتجزأ من الثقافة الحديثة، وبين الاستبداد.

يصدر الباحث الألماني "فولفغانغ أولريش" (Wolfgang Ullrich) في كتابه القيم حول الصورة والعولمة (Bilder auf Weltreise: Eine Globalisierungskritik) عن قناعة مفادها أن "أصحاب السلطة الأقوياء لا يخشون الصور بقدر ما يخشون الكتب والخطب". وهو بهذا يحيلنا على تأمل العلاقة بين الصورة والكلمة وتاريخ الصراع بينهما، وصولا إلى زمن العولمة.

فالصورة، بحسب رأيه، تستطيع أن تثبت الشيء ولا تستطيع أن تنفيه، على خلاف الكلمة التي بمقدورها أن تثبت وتنفي في نفس الوقت، فأنت قد تأتي بالصورة كبيِّنة لإثبات وجود غول في السوق، أو جُحا في المدينة مثلا؛ غير أنك لا تستطيع أن تنفي وجود الشيء اعتمادا على الصورة، كمن يريد أن ينفي وجود الله لأنه لا يراه. فالكلمة تستطيع أن تحمل من المعاني والأخبار أكثر مما تستطيعه الصورة، ذلك أنها تملك أن تحيل على الغائب غير المتعين. ولعل هذا مكمن قوتها وخطورتها، في مقابل الصورة.

يفتح كتاب فولفغانغ أولريش أمام القارئ حقلا معرفيا شاسعا، يتداخل فيه الحديث عن الصورة بالحديث عن الكلمة والاستبداد والسياسة والدين والأخلاق والمنطق وأشياء أخرى. إلا أن ما يستوقفنا في الكتاب، فضلا عن التقابل بين الصورة والكلمة، هو محاولة الكاتب إثبات العلاقة بين توسع الفكر الرأسمالي منذ القرن السادس عشر واستعمال الصور. نفهم من حديثه أن هذه العلاقة بين النزوع نحو الهيمنة على العالم والتوسل بفنون الصورة بلغت المنتهى في ثقافة الصورة كما تتجلى في زمن العولمة.

ويتضح لنا عند التأمل أن أمر العلاقة بين الصورة والكلمة كأمر العلاقة بين النزعة الجسمانية المتسلطة والنزعة الروحانية المحررة. فالصورة تحد آفاق الإدراك لتحيل على عالم متعين؛ فصاحب الصورة لا يرينا إلا ما يرى. على خلاف الكلمة التي تُنبِّه إلى عوالم غير مرئية لتحرر العقل من سطوة العالم المرئي، فالصورة تدعونا إلى تمثل عالم مغلق، على خلاف الكلمة التي تملك أن تحيلنا على تدبر المطلق. وأي دليل على هذا أوضح من قصة فرعون مع موسى عليه السلام.

الإنسان لم يعد يتلذذ بشيء قدر تلذذه بمشاهدة الصور
الإنسان لم يعد يتلذذ بشيء قدر تلذذه بمشاهدة الصو (شترستوك)

فقد جاء موسى عليه السلام ليدعو فرعون إلى الإيمان بالغيب، بأشياء غير مرئية غير أن فرعون رأى في هذه الدعوة ما قد يقوض أركان سلطته القائمة المرئية، لذلك سارع إلى مخاطبة قومه قائلا: " أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ" (الزخرف/ من الآية 51)، ولم يقل: أفلا تسمعون. فقد كان موسى عليه السلام هو من يدعو الناس إلى السماع، إلى الإصغاء إلى كلمات تُنبه على وجود أبعاد أخرى، وعوالم أخرى؛ أما هو فقد أراد أن يُرسِّخ دعائم سلطته المهيمنة بإحالة الناس على مظاهر قوته المتعينة.

لا جدال في أن الصورة هي، كما يقال بلغة العصر، جهاز من أجهزة الدولة أو النظام أو السلطة الأيديولوجية، توظفها لرسم الأفق السياسي وتشكيل النظام العالمي كما تراه. فالصورة أقدر على تخطي الحدود الثقافية وتجاوز ما يعلق بالكلمات في مجالات تداولها المختلفة من دلالات متعددة لا حصر لها. غير أن ارتباط الصورة بـ"المغلق" يضعفها أمام الكلمة بوصفها تعبيرا عن "المطلق". وبهذا الاعتبار يمكن التنبؤ بانهيار السلطة القائمة على الجسمانية المصورة أمام دعوة الروحانية المتكلمة.

بينما أنا أقرأ كتاب آرثر هيرمان (Arthur Herman) الذي هو عبارة عن سيرة مزدوجة لكل من غاندي وتشرشل والتنافس الملحمي بينهما (Gandhi and Churchill: The Epic Rivalry that Destroyed an Empire and Forged Our Age) وجدت شيئا أحسبه أبلغ في الدلالة على ما يدور حوله حديثنا هنا عن العلاقة بين الصورة والاستبداد، وبين الصورة والكلمة.

في نهاية الكتاب يأتي هيرمان بكلام لأحد السفراء يقول فيه مخاطبا تشرشل: "لن تستطيع أن تهزم غاندي، لأنه يدعو إلى المطلق". ونستخلص من هذا الكلام أن هناك من يدعو إلى "المطلق"، مثل غاندي، وغيره من يدعو إلى "المغلق" مثل تشرشل، وأن كفة الأول ترجح على حساب الثاني في نهاية المطاف. كل الصور التي حشدتها الإمبراطورية البريطانية لإبقاء الهند خاضعة لسلطتها تآكلت أمام كلمات الداعية غاندي في النهاية.

الإنسان الذي يُفْرِط في استعمال حاسة واحدة ويُفَرِّط في إهمال الحواس الأخرى هو كائن مبتور وليس إنسانًا كاملاً يُبقي على جميع حواسه متيقظة

الصورة في الثقافة الغربية الحديثة: من المهد.. وفي الطريق إلى اللحد

يحتفظ متحف قصر "ونيدزر" للعائلة المالكة في بريطانيا بصورة قلب من رسم ليوناردو دافنشي، فنان النهضة الأوروبية بامتياز. اللافت للنظر هو ما كُتِب بخط الفنان تحت الرسم من كلام يفيد بأنه، من الآن فصاعدا، يجب على طالب الحقيقة أن يتوسل بالصورة، أما الكلمة فليتركها للعميان.

ويعكس هذا الكلام وعيا متناميا بقدرة الصورة وفنونها على تشريح الواقع إلى أجزائه الصغيرة بحثا عن حقائق الأشياء الثانوية فيه حتى أن علم النهضة لم يقترن بشيء قدر اقترانه بالتشريح. وأذكر في هذا السياق كيف كان الشاعر المفكر كينت وايث، أثناء محاضراته التي كان يلقيها علينا في السوربون، كلما ذكر لفظة (science) شدد على جزء الكلمة الأول "sci-" وهو يقوم بحركة يدوية وكأنه يمسك بمنشار، أي "La scie".

يصف الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه في "هكذا تكلم زرادشت" مخلوقات بشرية مُشوهة، منها من تدلّت أذنه حتى اختفى وراءها، ومنها من جحظت عينه حتى غطت كامل وجهه، وهو بهذا الوصف يوجه نقدا للنهضة الأوروبية التي أنتجت لنا عباقرة مشوهين سِمَتهم الإفراط والتفريط، الإفراط في استعمال حاسة واحدة والتفريط في إهمال الحواس الأخرى.

وينطبق هذا الوصف على ليوناردو دافنشي بوصفه رمزا لثقافة همّشت الحواس الأخرى لفائدة حاسة النظر بحثا عن الحقيقة، فالإنسان الذي يُفْرِط في استعمال حاسة واحدة ويُفَرِّط في إهمال الحواس الأخرى هو كائن مبتور وليس إنسانا كاملا يُبقي على جميع حواسه متيقظة.

لا جدال في أن العالم اليوم، تحت إمرة الثقافة الغربية الغالبة، يشهد هيمنة ثقافة الصورة. ولقد صار مألوفا عندنا أن نرى أناسا يمشون أو يقودون الدراجة أو يسوقون السيارة أو أطفالا يلعبون وأعينهم مشدودة إلى شاشة هواتفهم النقالة، وكأنهم يبحثون عن حقيقة ضائعة، وهم في الحقيقة لا يشعرون، بمعنى أن وظائفهم الحسية معطلة لفائدة حاسة النظر.

لا تخلو ساحة الفكر والإبداع الأدبي في أوروبا والغرب عموما من كتابات اجترأ فيها أصحابها على نقد ثقافة الصورة نقدا يطال الجذور الفكرية التي تأسست عليها. من يقرأ كتاب "الأمير الصغير" لـ أنطوان سانت إكزوبيري يستوقفه كلام الثعلب وهو ينصح الأمير الصغير: "هذا سِرّي لك، إنه سر بسيط جدا، فالمرء لا يرى جيدا إلا بواسطة القلب. أما العين فتعجز عن الوصول إلى جوهر الأشياء". أرى في كلام الثعلب للأمير الصغير نقدا لمنظومة فكرية قائمة منذ ألفي سنة على أقل تقدير، منظومة تتوسل بحاسة النظر للوصول إلى جواهر الأشياء.

خلاصة لا بد منها

قد يحصل للقارئ انطباع أن القصد من وراء هذه المقالة هو القول بوجود تفاضل بين الحواس، خصوصا بين حاسة النظر وحاسة السمع، أو بين الصورة والكلمة، ولذلك ننبه في هذا السياق على أن مقصودنا ليس هو إقرار التفاضل بين الحواس، بل نقد ثقافة الصورة بوصفها ثقافة تمكُّن لسلطان البصر إلى درجة تَقْصر عندها البصيرة عن التمثل الصحيح للواقع الكوني الفسيح، واقع السماوات والأرض، وعن النظر في الأنفس.

فالظن عندنا هو أنه لا شيء يضمن للإنسان التوازن والاستقرار أفضل من تضايف الحواس وتداخل فنون الصورة والكلمة، الصورة بوصفها وسيلة لبناء الإدراك الإنساني، والكلمة بوصفها وسيلة لفتح هذا الإدراك على أبعاد غير مرئية توسع شعورنا بالوجود الحقيقي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان