ماذا وراء المنطاد الصيني؟ (2)

ما الذي جعل الولايات المتحدة تصرّ على أنه منطاد تجسّسي (رويترز)

كانت الصين حاضرة بقوة في خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن حول حالة الاتحاد، أمام مجلسي الشيوخ والنواب، يوم الثلاثاء الماضي، إذ لا تزال الصين الخصم والمنافس الدولي الوحيد الذي يهدد الحلم الأميركي في مواصلة التربع على قيادة العالم. الصين التي أصرّت على أن المنطاد الذي عبر الأجواء الأميركية قادما من كندا أوائل الشهر الجاري، مدني خاص بأبحاث الطقس والمناخ، وقد خرج عن السيطرة.

فما الذي جعل الولايات المتحدة تصرّ على أنه منطاد تجسّسي؟ وما حقيقة المعلومات حول المناطيد السابقة التي لم تكتشفها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب؟

الرئيس بايدن كان صريحا في التعبير عن الخطر الذي تمثله الصين بالنسبة للولايات المتحدة، حين اعتبرها تسعى إلى الهيمنة على المستقبل، ولذا شدد على أنه لن يتهاون في الاستثمار في الابتكار الأميركي الذي يجعل الولايات المتحدة تتفوق على الصين

الصين وحدها مصدر القلق

حرص الرئيس بايدن في كلمته أمام مجلسي الشيوخ والنواب، على أن يظهر بمظهر المتقدم على سلفه الرئيس ترامب فيما يخص العلاقة مع الصين، موضحا أن قوة الصين لم تعد متفوقة على قوة الولايات المتحدة، مثلما كان يتردد في أروقة السياسة والإعلام عند استلامه للحكم قبل عامين، مؤكدا أن الوضع لم يعد كذلك، وأن الولايات المتحدة اليوم في وضع أقوى مما كانت عليه منذ عقود، وأنها يمكنها التنافس مع الصين أو أي دولة أخرى في العالم.

بيد أن الرئيس الأميركي كان صريحا في التعبير عن الخطر الذي تمثله الصين بالنسبة للولايات المتحدة، حين اعتبرها تسعى إلى الهيمنة على المستقبل. ولذا شدد بايدن على أنه لن يتهاون في الاستثمار في الابتكار الأميركي الذي يجعل الولايات المتحدة تتفوق على الصين، وكذلك الاستثمار في تطوير القدرات العسكرية لتكون قادرة على حماية الاستقرار وردع العدوان.

كما أوضح أن سياسته مع الصين ستكون قائمة على المنافسة وليس النزاع، وأنه ملتزم بالعمل مع الصين لتعزيز المصالح الأميركية، وأنه لن يتوانى عن حماية الولايات المتحدة ضد أي تهديد صيني، مذكرا بموقف إدارته من أزمة المنطاد، وتوجيه الأمر بإسقاطه، بطريقة لا تنسجم أبدا مع روح التنافسية التي يتحدث بها.

حرص الرئيس بايدن على تأكيد روح السيطرة الأميركية كقوّة عظمى وحيدة تهيمن على العالم حتى الآن، وهذا التأكيد المتكرر من شأنه أن يزيد التوتر مع الصين، وأن يزيد من تصعيد التنافس العسكري المحموم لتحقيق التفوّق في القوّة والقدرة على الحسم في أي مواجهة قادمة، وإن كانت لا تبدو قريبة. ومن هذه التأكيدات المستمرة زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركية لتايوان العام الماضي، والتأكيدات المستمرة بالدفاع عن تايوان إذا تعرّضت لأي اعتداء صيني.

ويزيد من حرص الولايات المتحدة على تأكيدها المتكرر لروح السيطرة والاستعلاء، مواجهة النجاحات والاختراقات الإقليمية والدولية التي حققتها الصين مؤخرا على المستويات الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي، في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا على وجه الخصوص، رغم الانحياز الصيني لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، ورغم التحذيرات الأميركية المتكررة من خطر الصين على النظام الدولي، وعلى الاستقرار العالمي.

ففي أوروبا على سبيل المثال، ورغم التدهور الذي شهدته العلاقات الأوروبية الصينية في السنوات الأخيرة، فإن الدول الأوروبية حافظت على علاقاتها التجارية والاستثمارية مع الصين بشكل ثنائي، وظل الاتحاد الأوروبي ينظر إلى الصين باعتبارها صاحبة دور حاسم في مواجهة التحديات العالمية والإقليمية.

فقد ارتفعت الاستثمارات الأوروبية في الصين العام الماضي لتصل إلى 92.2% مقارنة بعام 2021، بعد أن انخفضت بحدة في الفترة 2017-2021. ونمت استثمارات ألمانيا وحدها بنسبة 52.9%، لتصل إلى 10 مليارات يورو في النصف الأول من العام الماضي مقارنة بالعام الذي قبله. وكانت الحصة الكبرى في هذه الزيادة لشركة سيارات "بي إم دبليو" (BMW) في مشروعها المشترك مع الصين، حيث رفعت حصتها من 50% إلى 75%، إثر قيام الصين بتخفيف القيود على حصص الملكية الأجنبية في صناعة السيارات العام الماضي. وقد توّجت هذه الاستثمارات الألمانية بزيارة المستشار الألماني أولاف شولتز إلى الصين في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

حرصت إدارة الرئيس بايدن على استغلال حادثة المنطاد الصيني لتوجيه ضربة قوية للرئيس السابق دونالد ترامب الذي ينوي الترشّح للانتخابات القادمة، وضربة قوية أخرى للحزب الجمهوري لكسب تأييده لخطط وموازنات العامين القادمين، والاصطفاف معه للفوز في المنافسة مع الصين.

فشل استخباراتي وتنافس انتخابي

أحد العوامل الرئيسية التي دفعت الرئيس بايدن ليتعامل على هذا النحو مع أزمة المنطاد، هو التنافس الداخلي لتعزيز موقفه الانتخابي في الدورة الرئاسية القادمة، وإظهار تفوّق قدرة الحزب الديمقراطي على الحزب الجمهوري في مواجهة الصين، والدفاع عن مصالح الولايات المتحدة والشعب الأميركي، وقد تجلى ذلك فيما يأتي:

فقد صرّح المتحدث باسم البنتاغون الجنرال باتريك إس. رايدر بأنه لوحظت حالات نشاط مثل هذا المنطاد على مدى السنوات العديدة الماضية. وقد ذكرت المصادر أن هذه المناطيد رُصدت في المحيط الهادي، وبعضها بالقرب من هاواي، حيث تتمركز قيادة المحيطين الهندي والهادي، إلى جانب الكثير من القدرات البحرية ومعدات المراقبة لأسطول المحيط الهادي.

وقد اتضحت هذه المنافسة بصورة أكبر حين وجّه بعض الجمهوريين النقد للبيت الأبيض لعدم قيام الرئيس بايدن بإسقاط المنطاد على الفور، مما دفع جون إف كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي إلى التصريح بأن مناطيد التجسس الصينية مرّت فوق الأراضي الأميركية ثلاث مرات على الأقل خلال فترة الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي سارع هو ووزير دفاعه السابق مارك إسبر بنفي علمهم بهذه الحالات.

هذه التصريحات تثير العديد من الأسئلة حول مدى صحة المعلومات الواردة فيها، ولماذا تم إخفاؤها حتى عن رئيس الدولة؟ وكيف نفسر ارتباك الروايات التي صدرت عن المسؤولين الأميركيين حول هذا الموضوع، مثل تصريحات القائد العسكري الأعلى الذي يشرف على المجال الجوي لأميركا الشمالية، من أن بعض الاختراقات السابقة التي شنتها بالونات التجسس الصينية خلال إدارة ترامب لم يتم رصدها في الوقت الفعلي، بل علم البنتاغون بها في وقت لاحق.

قال مسؤولون في البنتاغون إنه تم التكتم على المعلومات لتجنب إخبار الصين بأن جهود المراقبة التي تقوم بها قد تم الكشف عنها. ومن ذلك أيضا تصريح الجنرال غلين دي فانهيرك قائد القيادة الشمالية في البنتاغون، بأنه لم يتم اكتشاف تلك التهديدات في حينها، وهو ما اعتبره فجوة في الوعي بهذا المجال. ثم تصريح مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، بمناسبة استضافة تحالف القيادة العالمية للولايات المتحدة، من أن إدارة الرئيس بايدن عززت القدرات الدفاعية لتكون قادرة على اكتشاف الأشياء التي لم تتمكن إدارة ترامب من اكتشافها.

ومن بين هذه الأشياء منطاد التجسس الصيني الذي عبر الولايات المتحدة مرورا بهاواي وفلوريدا عام 2019 أثناء طوافه حول العالم، وكان يطير على ارتفاعات تصل إلى 328 ألف قدم، ولعدة أشهر، أي حوالي 10 أضعاف ارتفاع طائرات الركاب النفاثة.

مجتمع الاستخبارات الأميركية (IC) الذي يضم وكالات الاستخبارات الحكومية الأميركية والمنظمات التابعة التي تعمل بشكل منفصل وجماعي لإجراء أنشطة استخباراتية تدعم السياسة الخارجية ومصالح الأمن القومي للولايات المتحدة؛ هذا الكيان أصدر بعد تولّي بايدن الرئاسة أول تقرير علني له عام 2021، عن الحوادث غير المعروفة، والتي تقدّر بـ144 حادثة، دون أن يقدّم تفسيرات لها. وحسب تقرير صحيفة نيويورك تايمز الاثنين الماضي، فإن البنتاغون ووكالات الاستخبارات الأميركية شاركوا في أغسطس/آب الماضي في جلسة استماع مفتوحة مع لجنة المخابرات بمجلس النواب، كما قدّمت إدارة الرئيس بايدن إحاطة مغلقة للكونغرس بشأن جهود المراقبة الصينية. وفي الشهر الماضي سلّمت الإدارة إلى الكونغرس تقرير متابعة للحوادث غير المبررة وغير المعروفة، وصل عددها 366 حادثة، من بينها 163 حادثة مناطيد.

وحسب الصحيفة، فإن المسؤولين الأميركيين يعتقدون أن الصين استخدمت كذلك طائرات مسيّرة رباعية المروحيات للتجسس على الجيش الأميركي.

هذه الأحداث والحيثيات التي كشفت عنها إدارة الرئيس بايدن، تشير إلى ما يأتي:

  • ضخامة وقِدم النشاط التجسسي الصيني في الولايات المتحدة خاصة، وفي العالم بشكل عام.
  • وجود خلل كبير في نظام عمل أجهزة الاستخبارات والدفاع الأميركية، والعلاقة الهيكلية بين هذه الأجهزة والرئاسة.
  • حرص إدارة الرئيس بايدن على استغلال هذه الأحداث لتوجيه ضربة قوية للرئيس السابق دونالد ترامب الذي ينوي الترشح للانتخابات القادمة، وضربة قوية أخرى للحزب الجمهوري، لكسب تأييده لخطط وموازنات العامين القادمين، والاصطفاف معه للفوز في المنافسة مع الصين، على حد قوله.

التجسس المتبادل بين الولايات المتحدة والصين قديم، ومن أبرز محطاته الحادثة التي وقعت فوق جزيرة هاينان عام 2001، حيث اصطدمت طائرة استطلاع أميركية مع مقاتلة نفاثة صينية في الأجواء الصينية، مما أدى إلى مقتل الطيار الصيني والهبوط الاضطراري للطائرة الأميركية على الأراضي الصينية. وقد تسببت هذه الحادثة في أزمة دبلوماسية بين البلدين استمرت لعدة سنوات. فهل ستعيد حادثة المنطاد الأخيرة التوتر من جديد بين الدولتين، لتزيد العلاقات تعقيدا فوق ما هي عليه؟ المعلومات التي ستتمكن الأجهزة الأميركية من استخلاصها من حطام المنطاد ستجيب عن هذا السؤال.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان