الأواصر الممزقة.. الأزمة الوجودية للإخوان المسلمين في مصر (2013/2022)

Broken Bonds: The Existential Crisis of Egypt's Muslim Brotherhood
كتاب "الأواصر الممزقة.. الأزمة الوجودية للإخوان المسلمين في مصر" (الجزيرة)

الكتاب الذي صدر من أيام قليلة باللغة الإنجليزية بعنوان  "الأواصر الممزقة.. الأزمة الوجودية للإخوان المسلمين في مصر"  ( Broken Bonds: The Existential Crisis of Egypt’s Muslim Brotherhood) هو جزء من جهود كثيرة تحاول أن تقدم "إطارا تفسيريا" لفهم 3 لحظات هامة تعرض لها الإخوان في مصر على مدار العقد الماضي:

  • أولاً:  ثورة يناير/كانون الثاني 2011 التي كانت لحظة كاشفة لتفاعل تنظيم محافظ اجتماعيا وسياسيا مع انتفاضة تحلم بتغيير متسع لمجمل أوضاع المصريين.
  • ثانياً: حكم الإخوان لمصر (2012 /2013) لأول مرة في تاريخهم- الدولة المركزية في الإقليم ذات الثقل السكاني الكبير وتقاليد حكم تراكمت على مدار عقود.
  • ثالثاً: ما تلا ذلك من قمع غير مسبوق، وما تولد عنه من أزمات نتجت -أساسا- عن غياب وتآكل التنظيم الهرمي الذي احتل موقعا مركزيا لدى أعضائه، والذي لم يعد قادرا على التكيف.

هناك لحظة رابعة لم يتعامل معها الكتاب -وإن أشار إليها سريعا- وهي لحظة تغير البيئة الجيوسياسية في المنطقة الناتجة عن إعادة صياغة الترتيبات والتحالفات بين دول الإقليم فيما بعد 2013.

وافترض الباحثون الثلاثة (عبد الرحمن عياش وعمرو العفيفي ونهي عزت) -الذين يمثلون جيلا جديدا من شباب الباحثين الذين اهتموا بظاهرة الإسلاميين، ويتميز شغلهم بالرصانة والجدة في المفاهيم المستخدمة لتحليل الظاهرة- أن المنظمة تعاني من 3 أزمات وتحديات رئيسية؛ في وقت تفاقمت بسبب حملة القمع التي أعقبت 2013، إلا أنها لم تكن بالضرورة ناجمة عنها:

  • أزمة هوية.
  • أزمة شرعية.
  • أزمة عضوية.

غير أن الباحثين لم يستطيعوا أن يوضحوا بشكل كاف العلاقة بين الأزمات الثلاث، وكيف تتفاعل فيما بينها وتتداخل تداعياتها بما يؤثر على تعامل الإخوان مع اللحظات الثلاث التي أشرنا إليها. صحيح أنهم قد حاولوا أن يبنوا هذه العلاقة بين الأزمات الثلاث من خلال التعرض لطبيعة المنظمة: "لقد أُسيء فهم جماعة الإخوان المسلمين على أنها منظمة سياسية أو أيديولوجية أو حتى عسكرية".

"نحن نجادل، بناءً على قراءتنا لتاريخ الإخوان المسلمين على مدى العقد الماضي، بأن التنظيم يُفهم بشكل صحيح على أنه منظمة اجتماعية نخبوية، ذات عضوية صغيرة ولكنها ملتزمة بشدة." ويضيفون: "فإن سلسلة الأحداث من ثورة يناير 2011 إلى الانقسامات الإدارية الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين في المنفى في عام 2022؛ تكشف عن وجود تنظيم لكوادر النخبة مندمجين في الوسط الاجتماعي أكثر من كونه مشروعًا سياسيًا أو أيديولوجيًا".

ومن هنا كانت قوة الكتاب وضعفه في نفس الوقت؛ قوته جاءت من أنه تعامل مع كل أزمة من الأزمات الثلاث على حدة فسمح للباحثين بتتبعها وتحليلها وبيان تداعياتها على تعامل المنظمة مع لحظة من اللحظات الثلاث وليست جميعا، ولكنه في نفس الوقت حال دون تقديم إطار تفسيري كلي يسمح بمزيد من الفهم، مثلاً: لماذا تفاعل الإخوان بهذا الشكل مع اللحظات الثلاث؟

وربما يجد هذا الضعف تفسيره في غياب المنهاجية البحثية؛ فقد خلت المقدمة من إشارة إليها -وإن تضمنت سيرة ذاتية لواحد من الباحثين الثلاثة- تضمنت تطورات علاقته بالمنظمة. وقد أثر غياب المنهاجية من زاويتين: الأولى أشرنا إليها وهي غياب العلاقة بين أزمات الهوية والشرعية والعضوية.

والثاني: هو تكرار الحديث في نفس الموضوع في فصول مختلفة برغم أنه كان يمكن أن يُجمع في موضوع واحد؛ كما في مسألة العنف التي توزعت بين الفصلين الثاني والثالث من القسم الثاني. استخدام قطاع من الإخوان للعنف بعد 2013؛ كان يمكن أن يكون "حالة دراسية" (case study) جيدة لدراسة تفاعل الأزمات الثلاث بما أنتج هذا الشكل من العنف السياسي وليس الديني (حين تم استخدام لفظ المقاومة وليس الجهاد) واللاأيديولوجي (حين تم استخدام ديباجات براغماتية لتبريره).

كما ساهمت الأيديولوجيا الغامضة والفضفاضة للمنظمة في وجود صراع حول استخدامه، وأخيرا وليس آخرا؛ فإن غياب أو تآكل حضور التنظيم بين أعضائه في ظل قمع غير مسبوق لم تستطع الجماعة أن تتكيف معه قد سمح لجزء من التنظيم بتبني استخدام العنف.

وإذا قدر لي أن اقترح إعادة هيكلة للكتاب؛ فإني اقترح أن يخصص فصلا للإطار التفسيري الذي يبحث العلاقة بين الأزمات الثلاث الهوية والشرعية والعضوية، ثم تخصص الفصول التالية لتحليل كيف يمكن أن نفهم الظواهر المتعددة وهي هنا:

  • ظاهرة العنف
  • الخلافات الإدارية
  • الصراع القيادي
  • الإخوان في المنفي
  • ومن قبل الإخوان ويناير
  • وأخيرا الإخوان في السلطة.

وكان يمكن للباحثين أن يستخدموا الخاتمة لشرح الإطار التفسيري الذي ستتعاظم أهميته ليس من جهة قدرته التحليلية فقط؛ ولكن أيضا لقدرته التنبؤية لمستقبل سلوك الإخوان وغيرهم من الحركات الاجتماعية التي تعمل في بيئة قمعية.

وانقسم الكتاب إلى قسمين، خُصص الأول منه لتقديم تعريف لجماعة الإخوان على مدار تاريخها، في حين انقسم القسم الثاني إلى 3 فصول تناول أولهما مشكلة الهوية في حين تناول الثاني مشكلة الشرعية، أما الفصل الثالث فتناول مشكلة العضوية بالتفصيل.

الإخوان وعقيدة الحصن/ القلعة

يقدم لنا الكتاب مفهوم "عقيدة الحصن/القلعة" لفهم سلوك الإخوان السياسي في التعامل مع يناير أو في السلطة، "والتي سمحت لها بترسيخ وجودها كمنظمة اجتماعية على طول خطوط التصدع للدولة القومية المصرية، لكنها أجبرتها على التخلي عن هويتها المؤسسية، كحزب سياسي وطني".

وفي شرحه لهذا المفهوم يضيف الباحثون: "مرت جماعة الإخوان المسلمين بعملية إعادة توزيع بطيئة للسلطة داخل المنظمة لضمان بقائها طوال العقدين اللذين سبقا عام 2011، بالإضافة إلى تحول في جمهورها المستهدف ودائرتها الانتخابية التي دفعتها نسبيًا إلى هامش المجتمع المصري عندما كان الأخير يمر. من خلال التغيرات الاجتماعية والاقتصادية السريعة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. أدى هذا التحول إلى تقليص جماعة الإخوان المسلمين إلى مجرد مخزون من الأصوات الدينية أقل فاعلية بكثير في التأثير على السياسة في المركز على الرغم من عددها الهائل وأفسد قدرة الإخوان على لعب دور سياسي على المستوى الوطني بعد عام 2011″.

وميزة المفهوم هو ربطه بطبيعة الاقتصاد السياسي لفترة مبارك (1981-2011) التي تعاظم فيها غير الرسمي ليصل إلى 60%؜ من الناتج المحلي الإجمالي -وفق تقديرات البنك الدولي- بالإضافة إلى طبيعة دور الدولة المصرية في هذه الفترة التي انسحبت من مجالات كثيرة لتتفرغ للسيطرة على المركز السياسي والاقتصادي -كما أشار الفصل- وأخيرا وليس آخرا؛ التحول البيروقراطي في الدولة المصرية الذي تمثله الإخوان أيضا.

وبرغم أهمية مفهوم عقيدة الحصن/القلعة الذي كان يمكن استخدامه أيضا لتحليل وفهم أزمتي الشرعية والعضوية، برغم قدرته التفسيرية العالية؛ إلا أن هذه القدرة التفسيرية كانت يمكن أن تتعاظم إذا تكاملت مع العناصر التالية والتي أشير لأحدها سريعا في فصول أخرى والذي حمل عنوان: "منظمة أكبر من مجموع بعض أعضائها".

نحن بإزاء تنظيم له عدد من الخصائص والسمات أبرزها:

التنظيم المفارق لعضويته

هذا التنظيم الذي بُني لينظم الأمة داخله ويسعى لإعادة صياغتها وفق مُثلِه وقيمه؛ هذا النوع من التنظيم لم يسع لتنظيم الفئات الاجتماعية التي جرى تهميشها في عهد مبارك واستطاع أن يملأ المجالات التي انسحبت منها الدولة، ويظل التشكل التنظيمي للفئات الاجتماعية المبني على المصالح أحد عناصر الضعف الأساسية التي عانت منها السياسة في مصر، ويفاقم الأمر ما يلي.

السياسة في نظام مبارك القمعي

اتسمت السياسة في عهد مبارك بأنها من طبيعة ثقافية وليس لها إلا تأثير محدود على السياسة الواقعية. (انظر مقالي: "الدين وجمهورية الجدل" وقد أدى هذا إلى ظاهرة الجدل الإسلامي العلماني الذي امتد على مدار ربع قرن من حكم مبارك. والتقط الكتاب هذه النقاط وإن لم يضعها في نسق تحليلي متكامل؛ فقد "كان هناك هوس بالعلمانية، بدلاً من الاستبداد"، و"استمر قادة الإخوان المسلمين الأكبر سنًا في النظر إلى رأسمالهم الاجتماعي من خلال المنظور الضيق للدين مقابل العلماني، وفي هذه العملية بالغوا في تقدير حجم أتباعهم بافتراض أن مجرد التدين كان تصويتًا مضمونًا في صناديق الاقتراع".

العلاقة بين مشروع الإخوان والدولة الوطنية

هذه العلاقة أدت بهم -على حد قول محمود هدهود في فصله الهام عن الإخوان في كتاب النقد الذاتي لثورة يناير الصادر عن دار المرايا بمصر 2020- إلى الاغتراب الجذري الذي بلغ عند الإخوان؛ ليس فقط رفض الدولة الوطنية والسمو فوقها، بل محاولة إعادة بناء الأمة المصرية نفسها على أساس هوية وشرعية جديدة. ووفق هذه المقولة يمكن فهم لماذا عجز الإخوان على أن يلعبوا دورا سياسيا وطنيا بعد يناير؟

خطاب الإخوان المتصدع

عانى خطاب الإخوان من عدد من السمات التي أثرت في قدرته على ممارستها في إطار وطني -كما أشار الكتاب- فقد اتسم هذا الخطاب بالأخلاقوية، وغلبة الاحتجاجي على تقديم سياسات بديلة، والغموض المتسم بالبراغماتية، والمتلبّس بلبوس دعوي ديني وليس سياسيا. (انظر مناقشة تفصيلية لهذا في مقالي عن الإخوان والمسألة الاجتماعية)

وعبّرت صفحات الكتاب عن هذه الخصائص بما أطلق عليه: الإسلاموية المتعرجة "متعرجة باستمرار بين المواقف الراديكالية لإرضاء قاعدتها الشعبوية على الهامش، والأفكار الإصلاحية الأكثر اعتدالا لاحتواء الوسط".
والنتيجة النهائية -كما رصدها الفصل- أن نواياها الحقيقية ظلت غير واضحة لشريحة كبيرة من المصريين المتعلمين، حتى أولئك الذين تعاطفوا معها على أساس التدين. وهنا ملاحظة جديرة بالرصد وهي أن قطاعا عريضا من المصريين قد تعاملوا مع الإخوان في 30 يونيو/حزيران 2013 باعتبارهم تنظيما سياسيا وليس دينيا.

لقد أنتجت هذه الخصائص وغيرها ما يمكن أن نطلق عليه "تسييس الإخوان دون امتلاك مشروع سياسي وطني لحكم مصر"، وقد كتبت عن تضخم المكون السياسي في مشروع الإخوان محذرا منه أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وهنا قد يكون مفيدا متابعة الجدل الذي أحدثه تصريحات إبراهيم منير -القائم بأعمال المرشد- رحمه الله لرويترز حول انسحاب الإخوان من التنافس على السلطة في مصر.

أذكر عندما كنت في السجن 2018 وقد جاورني في الزنازين قيادات من مكتب الإرشاد وقيادات وسطى، كيف أصابهم الذهول عندما أتى وافد جديد وهو عضو أحد المكاتب الإدارية بالقاهرة، وأخبرهم بتبخر التنظيم تماما، وقد استوقفتني هذه الظاهرة طويلا لأن استثمارا استمر لنصف قرن (من أوائل السبعينيات من القرن الماضي) -كان هدفه هو الحفاظ على التنظيم كغاية في حد ذاته- كيف له أن يتبخر!

الإخوان والعنف

بغض النظر عن التفاصيل، يناقش الكتاب ما أطلق عليه إضفاء الطابع المؤسسي على العنف فيما بعد 2013؛ حيث أنه كاشف لأزمة الشرعية عند الإخوان؛ وإن تعرض الفصل التالي له ولكن من منظور العضوية. يمكن استخدام عقيدة الحصن/ القلعة لتفسير تحول قطاع من الإخوان نحو العنف. فغياب التعبئة الجماهيرية المتسعة حول مشروعهم، مع مصادرة الاحتجاج السلمي من قبل النظام وجعل تكلفته مرتفعة، بالاضافة إلى التجاوزات غير المسبوقة لمواجهة الاحتجاجات يدفع بشكل أو آخر إلى تبني العنف.

لكنه كان في جزء منه هو صراع حول من يملك التفسير الصحيح لفكر الإخوان، وهي سمة باتت واضحة للخلاف الإخواني بعد ذلك؛ حيث بات الخلاف حول من يمثل الإخوان ويعبر عن القيادة الشرعية للتنظيم، وليس كما جرى سابقا من فصل أو انسحاب الأعضاء والقيادات التي تختلف مع التنظيم.

نرجع إلى مسألة الإطار التفسيري للعنف والذي يمكن أن نجد جذوره في عقيدة الحصن/ القلعة كما قدمت، لكن العوامل الأخرى التي أثرينا بها المفهوم في تعليقنا على الفصل الأول يمكن استدعاؤه هنا أيضا، وقد أشار الكتاب إلى بعضها وإن لم يكن بهذا الوضوح، وأضيف إليها عناصر جديدة هنا يمكن أن نشير إليها:

أولاً: الطبيعة الغامضة لأيديولوجية الإخوان

هذه الطبيعة تجعلها منفتحة على تفسيرات متعددة يفرضها تحديات الواقع؛ فأفكار الإخوان حمالة أوجه، والوجه الذي يسود هو ما تقدمه القيادة التاريخية للجماعة في ظرف تاريخي محدد، والمقصود بهذه القيادة هو منْ تعرض للصمود في وجه قمع وسجون عبد الناصر.

ثانياً: من مقتضيات عقيدة الحصن

من مقتضيات عقيدة الحصن أن يتحول التنظيم إلى هدف في حد ذاته؛ هؤلاء القادة التاريخيون اعتبروا تنظيم الإخوان غاية في حد ذاته. لم تكن فعالية جماعة الإخوان المسلمين هي القضية بالنسبة لهم، فقط بقاؤها على قيد الحياة، وقد انعكست هذه العقلية في قرارات القيادة وبياناتها.

ويبدو أنهم أكثر تركيزًا على الديناميكيات الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين وكيفية الحفاظ على التسلسل الهرمي والعضوية في مكانهم أكثر من التركيز على مواجهة التحديات الخارجية. وأشار الكتاب إلى بعض النقاط الجديدة التي تثري وتطور إطارنا التفسيري ومنها:

أولاً: معيار النجاح عند التنظيم اجتماعي/ ديني وليس سياسي

بهذا يمكن فهم ارتداد التنظيم إلى المكون الديني أو ما أطلقت عليه في مقال سابق أيديولوجيته الدينية الناعمة لضمان الحفاظ على التنظيم والحفاظ على علاقته بالجمهور الأوسع، وهو ما استفاد به من فكرة التنظيم الشامل المنوط به أداء أدوار متعددة؛ فإذا أغلق المجال السياسي انتقل إلى الديني للحفاظ على فاعليته الداخلية والخارجية – كما قدمت.

ثانياً: تركيبة عضوية المنظمة من الطبقة الوسطي المهنية التي تؤمن بالتغيير التدريجي

لقد صيغت الحركة وفق هذا المنطق لسنوات لذا كان يصعب التحول الواسع داخلها نحو العنف، وكما يشير الكتاب فإنه "تم تشكيل النسيج الاجتماعي للحركة حول فكرة التغيير التدريجي، وتغيير هذه الفكرة يعني إحداث اضطراب جذري في تكوين جماعة الإخوان المسلمين كمجموعة اجتماعية".

ثالثاً : تنازع الشرعيات

يشير الكتاب إلى تنازع الشرعيات داخل المستوى القيادي في المنظمة التي تكونت على التضحية في عهد عبد الناصر. ولكنه لم يناقش بالتفصيل التحول الجاري في هذه الشرعية المستندة إلى المظلومية التاريخية والتضحية من قبل قيادات تاريخية تقبع في السجون الآن ويجاورها أجيال جديدة كثيرة بخلاف هذه القيادات.

فهل يمكن أن نشهد شرعيات تأسيسية جديدة وتنازع حولها بعد خروج هذه الكوادر من السجون؟

غياب التنظيم وأزمة العضوية

يناقش الكتاب في أحد فصوله تجربة الأعضاء سواء في السجون وخارجها أو في المنافي في ظل غياب المنظمة التي كانت تحتل مجمل حيواتهم الشخصية والأسرية والاجتماعية؛ وهو ما أطلق عليه "الفراغ الهرمي والتربوي للمنظمة".

أذكر عندما كنت في السجن 2018 -وقد جاورني في الزنازين قيادات من مكتب الإرشاد وقيادات وسطى- كيف أصابهم الذهول عندما أتى وافد جديد، عضو أحد المكاتب الإدارية بالقاهرة، الذي أخبرهم بتبخر التنظيم تماما، وقد استوقفتني هذه الظاهرة طويلا لأن استثمارا استمر لنصف قرن من أوائل السبعينيات من القرن الماضي -كان هدفه هو الحفاظ على التنظيم كغاية في حد ذاته- كيف له أن يتبخر!

هذه الحقيقة وهي "تآكل الأخوة" التي ظهرت في المنفى بشكل كبير تطرح السؤال حول ما إذا كان هذا الإحساس بالحصانة الذي اعتاد الإخوان على إشاعته هو في الواقع أسطورة أكثر منه حقيقة

يحاول الكتاب أن يقدم لنا ملامح إطار تفسيري أولي يحتاج إلى العمل عليه لتطويره، وأهمية وجود هكذا إطار أنه يسمح لنا بالتنبؤ بمستقبل المنظمة وشبيهاتها التي تعمل في بيئة قمعية.

أولاً: القدرة على التكيف مع قمع محسوب أو محدود، أما القمع غير المحدود فقد أدى إلى الفراغ الهرمي والتربوي للأعضاء الذين اعتادوا على التوجيه المركزي الهرمي. هذا التوجيه المركزي الهرمي يضمن السيطرة والهيمنة للقيادة التاريخية على مفاصل التنظيم والأعضاء في نفس الوقت، لذا فإن أية محاولة للتركيز على لامركزية صنع القرار والتي تعطي صوتًا في عملية صنع القرار للمكاتب المحلية والإقليمية للإخوان المسلمين أمر جدير بالمتابعة.

ومن هنا تأتي أهمية تجربة محمد كمال -عضو مكتب الارشاد الذي تبنى العنف وقُتل خارج إطار القانون- الذي اعتمد اللامركزية التي كانت "ذات أهمية قصوى في كيفية نجاح الإخوان في ذلك الوقت. انتقلت القرارات من نظام طاعة الأوامر إلى العمل داخل عالم التوجيه العام" كما اشار الكتاب.

ثانياً: أدى الفراغ الذي تركه التنظيم إلى غياب أية إستراتيجية شاملة للمنظمة في ظل سياقات جديدة لم تعد التعامل معها، وقد قدم الكتاب هذا كأحد العوامل المفسرة للعنف حين قال: "فإن مسألة العنف بين بعض الإخوان في فترة ما بعد رابعة ليست مسألة تطرف بل هي قضية عدم وجود إستراتيجية شاملة".

ثالثاً: الانتقال من السلطة الأبوية إلى المؤسسية؛ فجماعة الإخوان المسلمين هي منظمة لا تقودها أنظمة داخلية بل سلطة أبوية، وإن وجدت اللوائح والنظم فهي مندمجة في السلطة الأبوية الممتزجة بالشرعيات التاريخية. في ظل الإخوان، كانت الهياكل جامدة للغاية، وأدى الصراع بين المجموعات المختلفة وكيف تمت إدارته من قبل الجميع إلى "الكثير مما يستمر الإخوان في مواجهته حتى اليوم: شرعيات متنافسة، وغياب عمليات داخلية متماسكة ومتسقة، والتناقض بين منظمة لديها آليات التمثيل ولكنها تبني شرعيتها على أقل من الوسائل التمثيلية".

رابعاً: الفصل الذي يناقش أزمة العضوية يشير إلى مشكل كان يجب أن يتم تتبعه وهو "هناك شعور بأن الأدوات التي طورها الإخوان في وقت ما للحفاظ على نفسها كمنظمة؛ نمت لتصبح نفس الأدوات التي أدت إلى الانقسامات والانفصال"، وذلك لأنه تم تطوير هذه الأدوات في ظل نوع ومستوى معين من المخاطر الأمنية، ولكن في ظل ديناميكية جديدة لعنف الدولة لم تتمكن المنظمة وأعضاؤها من التأقلم.

خامساً: تآكل مفهوم الأخوة؛ فإذا كان التنظيم يملأ مجمل حياة العضو الشخصية والأسرية والاجتماعية والتربوية -كما قدمت-  فإن مفهوم الأخوة بين الأعضاء يمثل مرتكزا أساسيا للرأسمال الاجتماعي الذي تقوم عليه الجماعة؛ خاصة أن الأفراد وأسرهم عاشوا حياة خاصة بهم. وهذه الحقيقة (تآكل الأخوة) التي ظهرت في المنفى بشكل كبير تطرح السؤال حول ما إذا كان هذا الإحساس بالحصانة الذي اعتاد الإخوان على إشاعته هو في الواقع أسطورة أكثر منه حقيقة.

ختاماً: مستقبل الإخوان

بدلا من أن تخصص الخاتمة لتجميع شتات الكتاب جميعا لتنتظم في إطار تفسيري واحد، يقدم لنا الباحثون مدخلا تحليليا؛ وهو وإن كان مثيرا للاهتمام وجديرا بالمتابعة، إلا أن علاقته بالدراسة لا تتضح لي، وهو فكرة سبق وعالجتها في مقال سابق وهي نفي الاستثنائية التي يحاول مؤيدو جماعات الإسلام السياسي وخصومهم -على السواء- تناولهم من خلالها، وبالمناسبة فإن فكرة الاستثنائية تجد جذورها في جزء من النظر الغربي للمنطقة.

وهنا فإن الخاتمة تعقد تشابها بين سلوك الإخوان وقيادتهم وبين سلوك السيسي ونظامه بعد 2013، بما يدفع الباحثين إلى القول: "إن الطرق التي يرتبط بها الإخوان تقريبًا من الناحية الوجودية بالدولة المصرية جديرة بالملاحظة".
وبعد؛ فإن هذه المراجعة سعت إلى الاشتباك مع الكتاب ليس وفق منطق يتتبع التفاصيل الهامة التي تضمنها، ولكن بهدف استكشاف واستخلاص الإطار التفسيري الكامن بين ثناياه، بما يسمح لنا مستقبلا بدراسة الحركات الاجتماعية التي تتعامل مع أنظمة قمعية تسلطية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.