نظرية الهيمنة في تحليل وقراءة الأفلام

صورة من فيلم American Sniper
لقطة من فيلم "القناص الأميركي" للمخرج الأميركي كلينت ستود 2014 (مواقع التواصل)

يصعد جندي أميركي بهدوء على سلم معدني فوق كتلة خرسانية ليعدّل من خُطَّاف رافعة آلية قبل أن تصله رصاصة قناص عراقي من بعيد فترديه قتيلا. يسود الارتباك بين الجنود في المكان، وهو الشعور ذاته الذي باغت جنودا أميركيين آخرين -بينهم قناص- يراقبون الوضع من أعلى إحدى البنايات، إذ يكتشفون أنهم كانوا يبحثون عن القناص العراقي في الاتجاه الخطأ.

عندها يستخدم القناص الأميركي نظارته المكبرة في اتجاه معاكس ليخبر جنوده بأنه اكتشف شيئا ما على مسافة تبلغ نحو كيلومترين. يتردد الجنود في إطلاق النار لبُعد المسافة، لكنه يأخذ الإذن ويطلق النار، فيقتل القناص العراقي في الحال في فيلم "القناص الأميركي" (American Sniper) للمخرج الأميركي كلينت ستود عام 2014.

يمكن لنظرية "الهيمنة الإعلامية" أن تقدم تفسيرا واضحا لقراءة هذا الفيلم الفج وعديد من الأفلام المشابهة. وملخص هذه النظرية -طبقا لمرجع جامعة أكسفورد البريطانية- هو أن النخبة تتحكم في وسائل الإعلامية وأن وسائل الإعلام تروج للأيدلوجيا المهيمنة

الفيلم مأخوذ عن مذكرات جندي أميركي -يدعى كريس كايل- كان يعمل قناصا في أثناء حرب العراق. وقد أثار الفيلم غضبا عارما بين المشاهدين العرب عند عرضه، لتقديمه رؤية شوفينية تمجد القوات الأميركية التي غزت العراق في حرب غير شرعية من دون تفويض من الأمم المتحدة.

صورة من فيلم American Sniper
الممثل الأميركي برادلي كوبر في فيلم "القناص الأميركي" (مواقع التواصل)

رغم أن تركيز الفيلم كان يدور حول الظروف النفسية التي يمر بها المجندون الأميركيون، فإن تصويره لكل ما هو عراقي على أنه شرير وخائن أثار حفيظة العرب وانتقادهم. ولا يزال الفيلم يمثل علامة للرواية الغربية عن احتلال دولة عربية، يتذكره شباب العراق بكل حسرة لأن صوت معاناتهم لم يصل إلى السينما العالمية.

لهذا ذكره المخرج العراقي أحمد ياسين الدراجي في حواره مؤخرا مع صحيفة "آيرش تايمز" (Irish Times) الأيرلندية، وأنه من الأعمال التي لا تزال عالقة في ذهنه منذ عرضه، وذلك في إطار عرض الصحيفة نماذج من المبدعين العراقيين الذين يحاولون تقديم رؤيتهم لبلادهم.

هنا يمكن لنظرية الهيمنة الإعلامية أن تقدم تفسيرا واضحا لقراءة هذا الفيلم الفج وعديد من الأفلام المشابهة. ملخص هذه النظرية -طبقا لمرجع جامعة أكسفورد البريطانية- هو أن النخبة تتحكم في وسائل الإعلامية وأن وسائل الإعلام تروج للأيديولوجيا المهيمنة. هي نظرية مستمدة من المدرسة الماركسية، وتحديدا أفكار أنطونيو غرامشي.

غرامشي كان ناشطا ومنظرا إيطاليا معروفا حاول أن يفسر سبب فشل الحركات الاشتراكية في أوروبا مطلع القرن العشرين قبل صعود الفاشية. واعتبر أن القوة الرسمية والقهرية للدولة ليست وحدها التي تحافظ على المجتمعات الرأسمالية، ولكن هناك مستوى آخر من الهيمنة متمثلا في عمليات ثقافية وأيديولوجية معقدة لضمان الموافقة الشعبية على النظام القائم.

حازت هذه النظرية -ولا تزال- شعبية كبيرة بين المحللين والنقاد وحتى بين المشاهدين العاديين، حتى وإن لم يعرفوا جذورها، لأنها تقدم عددا من التفسيرات السهلة والبسيطة. فهي تقدم ثنائية الجاني والمجني عليه أو الظالم والمظلوم. وهي تصلح ربما في وصف بعض الحالات أو بعض وسائل الإعلام أو الأفلام. لكن اعتبارها معيارا يتم قياس به كل المنتج البشري المعاصر، من آداب وفنون وحركة مجتمع، فيه اختزال كبير وتوصيف غير دقيق للظرف التاريخي والحضاري الذي نمر به.

إذا أردنا الرد على الأفلام التي تسيء لصورة العرب والمسلمين، نقوم بإنتاج سينمائي بديل يضعهم في صورة إيجابية، لكن هذا ليس أفضل رد على ميزان الهيمنة المختل لأن هذا البديل سيغفل كثيرا من العناصر الجمالية والذاتية الإخراجية والتراكمات الثقافية التي هي مكونات رئيسية في السينما الغربية

نقد تعميم نظرية الهيمنة

يمكن أن تندرج كثير من الأفلام الأميركية التي تتناول صراعات الجيش الأميركي في الخارج في إطار الهيمنة، لكن ليست كل الأفلام الأميركية مصنوعة بهدف الهيمنة، لأن هذا يفترض قدرا من التحكم الدقيق في كل منتج سينمائي وهو أمر غير صحيح. كما يفترض أن وسائل الإعلام والأفلام مقررات دراسية والجمهور هم مجموعة من الأطفال الصغار مسلوبي الوعي، وهذا أيضا غير صحيح. وهنا لا يمكن نفي وجود الهيمنة كأحد أوجه الميزان الحضاري الحالي المائل لمصلحة القوى الغربية، ولكن وصف هذه الهيمنة وطريقة تأثيرها ومقاومتها هو ما يحتاج لتوصيف وتشريح آخر.

جاء المفكر اليساري ستيوارت هال -وهو بريطاني من أصول جامايكية- بمفهوم جديد للهيمنة الثقافية يوصف بأنه ما بعد الغرامشية، إذ يرى أن هناك دورا للجمهور، وأن المشاهد ليس سلبيا ويطور معاني خاصة به عند مشاهدة أي عمل.

هذه القراءة تتم عبر 3 طرق: القراءة السائدة، والقراءة المعارضة، والقراءة التفاوضية للنصوص المعروضة عليه سواء في شكل مكتوب أو مرئي أو مسموع. وأطلق على نظريته التشفير وفك التشفير، وجادل بأن الجمهور لديه القدرة على فك شفرات ما يعرض عليه من أعمال إبداعية في وسائل الإعلام. ففي القراءة الأولى هو التماهي بين الجمهور والرسالة التي يتلقاها مشفرة من دون أي تعديل، والقراءة الثانية تفترض معارضته لها، والثالثة هي الدخول في تفاوض مع مضمون هذه الرسالة.

المفكر البريطاني Stuart Hall
المفكر البريطاني ذو الأصول الجامايكية اليساري ستيوارت هال (مواقع التواصل)

ولهذا، فإن التسليم المطلق لنظرية الهيمنة في تفسير وقراءة وتحليل الأفلام يجعل المرء محصورا بين القراءتين الأولى والثانية، إما قابلا لها أو معارضا لها. وفي حال المعارضة، غاية ما يطمح إليه هو رفض هذه الهيمنة من دون فعل بديل وهو عمل سلبي، وفي حال الإقدام على تقديم بديل فيكون إنتاج ما يراه صوابا وتعميمه، وبالتالي، التأسيس لهيمنة جديدة، أي استبدال هيمنة جديدة بأخرى قديمة ليس إلا.

بمعنى آخر، إذا أردنا الرد على الأفلام التي تسيء لصورة العرب والمسلمين، والتي تصورهم في صورة سلبية، نقوم بإنتاج سينمائي بديل يضعهم في صورة إيجابية، وهذا ليس أفضل رد على ميزان الهيمنة المختل لأن هذا البديل سيغفل كثيرا من العناصر الجمالية والذاتية الإخراجية والتراكمات الثقافية التي هي مكونات رئيسية في السينما الغربية.

إن إدراك جوهر الهيمنة الثقافية الحديثة -والسينما في القلب منها- يتطلب إدراك أمرين: أولهما أن هناك معارضة داخلية لهذه الهيمنة، فعلى سبيل المثال هناك في بريطانيا مثلا مخرجون مثل كين لوتش وفي الولايات المتحدة مايكل مور وغيرهم ممن لديهم استقلال فني وتميز إبداعي وجمهور عريض ومحتوى سينمائي معارض للهيمنة الثقافية الغربية. والأمر الثاني هو أن ترشيد التعامل مع هذه الهيمنة لا يعني القبول غير المشروط بها، ولكن يعني تصحيح زاوية النظر من الفعل السلبي إلى الفعل الإيجابي ومن مجرد الرفض إلى الاستكشاف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.