الأصول الثقافية للاستبداد وطريقة التغلب عليه.. نستمر في التفكير مع الشنقيطي

لا مفر من أن كل لقاء بين المسلمين والمجتمعات الأخرى تؤثر عليهم بشكل أو بآخر. حين نتحدث عن المسلمين فإننا لا نتحدث عن روبوتات تتصرف وفق آلية محددة لها سلفاً، بل هم بشر يخضعون لمثل ما يخضع له جميع الناس من تغيرات مجتمعية سريعة. وهناك تداخل كبير بين الثقافات يحدث في عالمنا السنوات الأخيرة، يخضع فيه المسلمون لكافة أشكال المؤثرات التي من شأنها أن تبعث على التغير وإنتاج نسخ جديدة من عقولنا وميولنا واتجاهاتنا وتصرفاتنا تجاه مجتمعاتنا وتجاه العالم.
والحديث المستمر عن أن المسلمين تغيروا عن تلك النسخة التي كانوا عليها في الماضي وأن لهذا أثرا كبيرا في تخلفهم الحضاري، هو كلام شديد البساطة والسطحية -من وجهة نظري- لأنه لا بأس في التغير ما لم يمس المبادئ والأسس والعقائد عند المسلمين.
ومن يتشدقون بهذه الأقوال، أراهم وكأنهم يطالبون المسلمين بالانحسار في نسخة واحدة منهم، والبقاء قيد ثقافة تاريخية لم يعاصروها فيصبحون أسرى الماضي لا يعرفون كيفية الرجوع إليه، مع عدم القدرة على الانخراط في الواقع الحقيقي الذي يعيشونه والذي قد يتمكنون من فهمه وتغييره للأفضل.
ذكر الشنقيطي أن هناك خيرًا في جوهر كل الحضارات، لكن الجوهر الإسلامي يمكن كشفه بمسح الغبار والصدأ المتراكم عليه مع الوقت، لذلك حين يتم مناقشة الأفكار باسم الإسلام مع الآخر في لقاءات ثقافية ينبغي ألا يتم تفسيرها كنوع من الانبطاح أمام الآخر أو الذوبان فيه
أنا هنا لا أدعو إلى التفاعل غير المشروط أو الذوبان التام في ثقافة الآخر والخضوع لما تمليه علينا تلك الثقافات الأخرى وما يصدرونه من أفكار ومبادئ، هذا لا أعتبره تفاعلا وإنما هو انحطاط وذوبان غير مقبول. إن طريقة المسلم في التفاعل هي أن يبقي عينه وأذنه مفتوحتين بالكامل، ويقوم بغربلة كل ما يقدم له فيأخذ ما قد يطوّر منه ويسهم في بناء حضارته ويلفظ كل ما قد يؤثر عليه سلباً.
وقد حاول المفكر المسلم الموريتاني مختار الشنقيطي -الذي واصلنا معه جولته في الأفق في مؤتمره بمعهد الفكر الإسلامي في أنقرة- أن يؤكد على المسلمين الذين يتفاعلون بقوة مع المجتمعات الأخرى التمسك بثوابتهم الخاصة. وذكر أن موقف المسلمين الطبيعي من الحضارة الغربية يجب أن يكون بالإيضاح التام الذي يميز النافع من الضار والحسن من القبيح والحق من الباطل.
فالاستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار، أما النافع منها فهو من الناحية المادية وتقدمها في جميع الميادين المادية -وهو أوضح من أن أحاول إبرازه- وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور، فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة. أما الضار منها فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير، ولا خير البتة في الدنيا بدونها، وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه، وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة، ويرسم له الخطط الحكيمة في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة "ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته".
ويذكر الشنقيطي أن هناك خيرًا في جوهر كل الحضارات، لكن الجوهر الإسلامي يمكن كشفه بمسح الغبار والصدأ المتراكم عليه مع الوقت. لذلك فحين تتم مناقشة الأفكار باسم الإسلام مع الآخر في لقاءات ثقافية لا ينبغي أن يتم تفسيرها كنوع من الانبطاح أمام الآخر أو الذوبان فيه، بل على العكس من ذلك، فإن هذا يمكن اعتباره بداية طريق التفكير في واقعنا الذي يؤدي بدوره للتغيير والشمول في التفكير وتوسيع النظرة التي تساعد على بناء لبنات حضارة قوية متماسكة.
هذه الفكرة من أبرز ما كتبه مارشال هودجسون في كتابه "مغامرة الإسلام.. الضمير والتاريخ في حضارة عالمية" الذي قال عنه النقاد إنه أهم ما كُتب في التاريخ الإسلامي في القرن العشرين، حيث رفض فيه فكرة المركزية الغربية في دراسة التاريخ وفهمه وتهميش الحضارات والثقافات الأخرى، وقوض كثيراً من النظريات والسرديات الاستشراقية حول العالم وتاريخ الإسلاميين، واعتُبر الكتاب ثورة على الكتابات الاستشراقية التي كرَّست فكرة المركزية الأوروبية.
عمل الاستبداد على اختزال العقل الجماعي للمسلمين في عقل واحد داخل عقل السلطة السياسية، فتُستهلك العقول سواء بالتغرير بها أو بمحاولات مقاومة هذا الاستبداد، فلا يصبح هناك مجال للتحاور والنقاشات الثقافية والفكرية وتصبح فكرة النهضة محض خيال
الحضارة الإسلامية عند مارشال
يشير مارشال في كتابه إلى أن الحضارة الإسلامية استطاعت إدماج العناصر الثقافية السريانية والفارسية والإغريقية داخل بنيتها، فكانت المنطقة التي وضعها محل الدراسة في كتاب "مغامرة الإسلام" هي المنطقة الممتدة من نهر النيل إلى نهر جيحون باعتبار الحضارة الإسلامية كانت خلطة ثقافية من هذه المنطقة ككل.
كما يرى أن الحضارة الإسلامية عالمية، وأن العصر الزراعاتي الإسلامي لا يقل ازدهارًا عن عصر النهضة الأوروبي، كما يُدهشنا بقوله: "إن المجتمع المسلم اشترك في التحول الطفري الحديث، وذلك في دراسته (في المجلد الثالث) لكيفية مواجهة البنغال والهند ومصر والتتار في حوض الفولغا للعصر التقني. كما أنه لقّب الحضارة الإسلامية بأنها أصالة وسيطة ".
ورصد مارشال أيضا في كتابه التحولات الحديثة التي شهدتها أوروبا الغربية (جيل 1789) والاستجابة الإسلامية لهذه التحولات على مستوى إمبراطوريات البارود، لكن هنا لا بد من تقرير حقيقتين أكَّد عليهما هودجسون: أن العصر الزراعاتي الإسلامي لا يقل ازدهارا عن عصر النهضة، وأن أهم 3 اختراعات في عصر النهضة (البارود – المطبعة – البوصلة) لم تكن أوروبية أصيلة، بل تم استيرادها من الشرق. بهاتين الحقيقتين يخرج هودجسون عن إطار المركزية الأوروبية، بل يطرح فكرة صادمة ومخالفة للسرديات الشائعة عندما يقول إنّ أوروبا في بدايات عصر النهضة كانت متأخرة سياسيًّا حتى عن العثمانيين.
لم يرغب الغربيون أبدًا في الديمقراطية للمسلمين. كتبوا كثيراً وصنعوا مؤلفاتهم الخاصة عن عدم التوافق بين الإسلام والديمقراطية. ورأوا في الديمقراطية الحقيقية للمسلمين كابوسًا لن يستطيعوا التعامل معه، فحاولوا خنقها دائماً بالتعاون مع الطغاة في العالم الإسلامي
الاندماج الثقافي والاستبداد
منذ القرن الـ 19، والنقاشات محتدة حول كيفية فصل ثقافة وتقنية الغرب عن ثقافتنا. ومن قراءتي للتاريخ أرى أن المسلمين الذين نقلوا رسالة الإسلام إلى جميع أنحاء العالم كاوا أكثر راحة بهذا الصدد. هناك أصوات تدعو لعدم أخذ تقنيتهم لأنها تحمل في طياتها ثقافتهم، وأقول إن هذا الصوت هو من تمام السذاجة والعبثية.
ويمكنهم الادعاء بأن العلوم والتكنولوجيا الغربية دخلت حياتنا محملة بتلك الثقافة كدليل على ادعاءاتهم السابقة، لكن ما ينسونه هو أن الثقافة الغربية -خاصة التي لا يمكن قبولها من وجهة نظر إسلامية- في الحقيقة دخلت لنا من باب تفتحه السياسة وليس من باب يفتحه العلم والتكنولوجيا.
وفي بلدنا تم فرض الأبجدية الغربية واللباس الغربي والثقافة والوعي التاريخي وأسلوب الحياة تحت اسم "الثورة" على المجتمع وتقاليده المتخلفة ليس من خلال العلم والتكنولوجيا، ولكن بطريقة من أعلى السلطة إلى الأسفل وليس العكس.
وبالرجوع إلى الشنقيطي، نجد أنه يرى أن المشكلة الرئيسية في العالم الإسلامي هي بالطبع أكبر كثيراً من مثيلتها التي بدأت القرن الماضي، ألا وهي مشكلة الاستبداد التي ابتليت بها الأمة منذ أن تحولت الخلافة إلي سلطنة.
ومنذ "الفتنة الكبرى" التي بدأت مع الأمويين، لم تستطع حتى العقيدة أن تهرب من كونها أداة في السياسة، يمكن استخدامها من وقت لآخر. ويعمل الاستبداد على اختزال العقل الجماعي في عقل واحد داخل عقل السلطة السياسية، فتستهلك العقول سواء بالتغرير بها أو بمحاولات مقاومة هذا الاستبداد، فلا يصبح هناك مجال للتحاور والنقاشات الثقافية والفكرية، وتصبح فكرة النهضة محض خيال. ولا يترك الاستبداد فرصة لتقييم العقول والأفكار، والأخذ منها والرد، فكل أنواع التفكير في مدرسة الاستبداد محض انحراف وخيانة يجب مقاومته، وهذا يُنتج أجيالاً تتسم بالعقم الفكري التام.
وبينما تعمل هذه الآلية على هذا النحو في السياسة، فإن الجماعات والتشكيلات الدينية تنتج أيضًا نفس الاستبداد من خلال تقليده -ربما أحياناً بشكل لا إرادي- بدلا من الاعتراض على استبداد السلطة السياسية وإنتاج البدائل التي تساعدها على مقاومة هذا العقم الفكري. إنها مأساة حقيقية أن أتباع دين شعاره المشاورة والمحاورة والانفتاح على الآخر أن يقوموا بتحويل الاستبداد الذي يعيق العقل الحر إلى ثقافة منتشرة بينهم على هذا النحو. إن طريقة تجاوز هذه المأساة هي إدارة نوع من المجلس الدستوري من أعلى إلى أسفل أو من أسفل إلى أعلى لمحاربة الاستبداد.
وقبل الربيع العربي وبعده، ظهر أن الفاعلين الحقيقيين المرشحين للتغلب على هذا الاستبداد في العالم الإسلامي ما زالوا بشكل أو بآخر من الإسلاميين.
ولم يرغب الغربيون أبدًا في الديمقراطية للمسلمين. كتبوا كثيراً وصنعوا مؤلفاتهم الخاصة عن عدم التوافق بين الإسلام والديمقراطية. ورأوا في الديمقراطية الحقيقية للمسلمين كابوسًا لن يستطيعوا التعامل معه، فحاولوا خنقها دائماً بالتعاون مع الطغاة في العالم الإسلامي. وخير مثال على ذلك موقفهم وموقف المثقفين الذين صدروهم في دولنا خلال العمليات المضادة للثورة في الربيع العربي. والدوائر نفسها التي تشكك في الديمقراطية في تركيا هي مثال آخر جليّ على هذه التناقضات.
وتبقى الكثير من الأسئلة التي تطرح نفسها علينا: هل الإسلاميون أنفسهم يشكون في قدرتهم على أن يكونوا ديمقراطيين؟ هل لا يزالون غير قادرين على القيام بهذا الانفتاح الثقافي ليأخذوا ما يشاؤون ويردوا ما يشاؤون! إنني أرى أن كتاب "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية" للشنقيطي نصا قويا يمكن أن يحفز النقاشات المثمرة التي قد تؤدي بالضرورة لقيامنا بمهمتنا تجاه حضارتنا المنكوبة.