بعد تهديد أميركا.. هل تغير أنقرة موقفها من حماس؟
يبدو أنَّ الإدارة الأميركية قد حسمت أمرها، وقرّرت المضي قدمًا في سياستها العدائية ضد تركيا باعتبارها حليفًا جاحدًا خرج عن إطار الدور المرسوم له، ويسعى للتعامل معها بمنطق الندية، وهو ما لا ترضى به ولا تقبله إدارة بايدن؛ مما يستلزم – من وجهة نظرها – ضرورة معاقبة أنقرة بشدة وحزم حتى تعي خطأها، وتعود مجددًا إلى صوابها، وتدخل بكامل إرادتها إلى حظيرة الولاء التام للسياسات الأميركيّة، مطيعة لأوامرها، ومنفذة لتعليماتها، كما كان الحال سابقًا، خصوصًا خلال فترة الحرب الباردة.
كانت تركيا آنذاك بمثابة التلميذة النجيبة التي طبقت بكل دقة الإستراتيجية الأميركية التي رُسمت لها، منذ انضمامها لحلف الناتو في عام 1952.
فكانت بحقّ خير حائط صد، ومثّلت خط الدفاع الأوّل في مواجهة روسيا، ونجحت في تقليص قدراتها، والحدّ من تأثير محاولاتها فرضَ نفوذها في آسيا الوسطى، وبعض مناطق القوقاز.
واشنطن وسياسة العصا مع أنقرة
لكن تباين المصالح، واختلاف الرؤى، واتساع هوّة الخلاف بين البلدين، جعل واشنطن تصرّ على اتباع سياسة ليّ الذراع، وتطبيق مقولة: " العَصَا لمن عصى" في تعاملها مع تركيا.
وهو التوجه الذي بدا واضحًا في استمرار سيرِها على نهج فرض عقوبات اقتصادية جديدة كلما اختلفت وجهات النظر السياسية بينهما بشأن الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك إقليميًا أو دوليًا، دون أدنى اعتبار للمصالح المشتركة، والعلاقات الإستراتيجية التي طالما ربطت بينهما على مدى عقود طويلة.
إذ من الملاحظ أنّ واشنطن تسارع عند نشوب أي خلاف مع أنقرة إلى فرض حُزمة جديدة من العقوبات على كيانات اقتصادية، وشخصيات عامة تركية دون النظر إلى ما قد يسبّبه ذلك من زيادة حدة التوتر في علاقات البلدين، أو ما ينتج عنه من تباعد قد يفضي مستقبلًا إلى تحويل بوصلة التحالفات التركية إلى اتجاهات ووجهات من شأنها الإضرار فعليًا بالمصالح الأميركية في المِنطقة.
السعي للوقيعة بين تركيا وحماس
التهديدات الأميركية بفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على تركيا، تأتي هذه المرة بذريعة قيام أنقرة بالسماح لعدد من منظمات المجتمع المدني، وجمعيات خيرية بجمع أموال من داخل تركيا وتحويلها إلى حماس.
وهو الأمر الذي يزيد من سيولتها المالية، ويرفع من قدرتها على مواجهة إسرائيل، ويمكّنها من إطالة أمد عملياتها ضد تل أبيب، وهو ما يسبّب إضرارًا بالغًا باقتصاد دولة الاحتلال، الذي لن يتمكّن من الصمود طويلًا إذا استمرّت هذه الحرب أكثر من ذلك.
وفي محاولة لحثّ تركيا على الاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية- كون ذلك يصبّ في صالح خطط الكيان الإسرائيلي، الرامية إلى خنق حماس والقضاء عليها ليس عسكريًا فقط بل اقتصاديا أيضًا- تم إيفاد براين نيلسون وكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والمخابرات المالية لمناقشة الأمر مع المسؤولين داخل الحكومة التركية، وتحذيرهم من إمكانية إقدام قيادات حماس على انتهاك القوانين المحلية التي تنظم عمليات جمع الأموال وتحويلها، حتى ولو كانوا يتعاملون معهم كجهة تتمتع بشرعية سياسية داخل قطاع غزة.
وقد أكد أنَّ الفرصة لا تزال سانحة أمامهم لمعالجة هذا الأمر وَفق القوانين السائدة لديهم، بغض النظر عن مشاركتهم أو عدم انضمامهم لتطبيق العقوبات الأميركية المفروضة على هذه القيادات والمتعاونين معها.
تحذيرات أميركية لتركيا
لم يكتفِ نيلسون بالسعي للوقيعة بين حماس وتركيا، لكنه سعى أيضًا لتحذيرهم من مغبة استمرارهم في السماح بدعم حماس ماليًا، من خلال ما سماه: " قلق بلاده العميق جراء السماح لحماس بجمع أموال في داخل تركيا".
ثمّ ألمح إلى أن لتركيا سابقة مباشرة بعمليات جمع أموال لحماس من مانحين، ومحافظ استثمارية، ومنظمات مجتمع مدني، وجمعيات خيرية، مشيرًا إلى أن محفظة استثمارات حماس التي تقدر بمئات الملايين من الدولارات تشمل شركات وكيانات اقتصادية متعددة تعمل داخل تركيا وعدد من الدول الأخرى في المنطقة.
المسؤولون الأتراك من جانبهم، كرّروا على مسامعه أنّ بلادهم لا تعتبر حماس منظمة إرهابية، بل سلطة منتخبة داخل قطاع غزة، ولها الحق في أن يكون لها تعاملات مالية خارج حدودها، ومع ذلك فإنهم لن يسمحوا بأية محاولة تستهدف خرق القوانين المالية المحلية سواء كانت تبييض أموال أو تمويلًا مباشرًا لأعمال العنف، فلتطمئن واشنطن ولتهدأ بالًا.
عقوبات أميركية
كانت واشنطن قد فرضت عقب اندلاع "طوفان الأقصى" عقوبات على العديد من الكيانات وتسعة أشخاص، منهم أربعة في تركيا، وَفق قائمة تم إعلانها على الموقع الرسمي لوزارة الخزانة؛ بهدف الحد من قدرات حماس المالية، ومنع تدفق الأموال إليها، خاصة تلك التي تأتيها من خلال أسواق العملات المشفرة، وبعض الجمعيات الخيرية، والشركات، والاستثمارات في تركيا، أو في إيران.
وبصفتها الحليف الأول لإسرائيل، سعت إدارة بايدن إلى تلبية رغبة بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء دولة الاحتلال، في القضاء على حماس ماليًا من خلال سد جميع المنافذ التي تتدفق منها الأموال إليها، حيث أصدرت وزارة الخزانة تقريرًا هامًا، أشارت فيه إلى وجود ثغرة في النظام المصرفي التركي تمنح حركة حماس القدرة على تفادي العقوبات الأميركية المفروضة عليها وعلى قادتها، من خلال حُزمة تعقيدات إدارية تتُخذ عند إجراء تعاملات مالية بينها وبين جميع دول العالم.
اتهامات لبنوك تركية
اتهمت كل من واشنطن وتل أبيب بنوكًا بعينها داخل تركيا بتخزين ودائع وأموال لحماس لديها، منها عدة بنوك إسلامية كبرى، وهو الأمر الذي نفته تركيا مرارًا في مناسبات مختلفة على مدى الأعوام الماضية.
بيدَ أن استمرار الاتهامات الإسرائيلية والأميركية، دعا الهيئة الرقابية المعنية بالإجراءات المالية التابعة لمجموعة السبع في عام 2021 إلى وضع تركيا ضمن القائمة الرمادية للدول التي تتغاضى عن تجميد أصول التنظيمات والكيانات التي توصم بالإرهاب.
تركيا تدفع ثمن دعم حماس
ولما كانت الاتهامات لتركيا بدعم حماس ليست وليدة اليوم، ولا هي نتاج لـ " طوفان الأقصى"، يبقى من الطبيعي أن المسألة ترتبط بصورة مباشرة بموقف تركيا عمومًا الداعم لحماس، والرافض لكل ما يتعرض له المدنيون في قطاع غزة من عمليات وحشية، واستهداف ممنهج، وحرب إبادة جماعية يقوم بها جيش الاحتلال بتعليمات من قادته، الذين قررت أنقرة ملاحقتهم قضائيًا، والسعي لمحاكمتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية؛ بتهمة التسبب في حرب إبادة ضد المدنيين من النساء والأطفال في قطاع غزة.
تحذير تركي للموساد
أجج هذ الموقف التركي من حالة الغضب لدى كل من إدارة بايدن وإسرائيل، كونه أطلق رصاصة الرحمة على جميع الجهود التي بُذلت خلال العامين الماضيين لرأب الصدع في العلاقات التركية – الإسرائيلية، ما دفع الأخيرة للإفصاح عن نيتها هي الأخرى ملاحقةَ قادة حماس في جميع دول العالم فور الانتهاء من تصفية الحركة داخل قطاع غزة.
وهو التهديد الذي أخذته أنقرة على محمل الجد، محذرة الموساد الإسرائيلي من القيام بأية محاولة تستهدف المساس بأي من قادة حماس على أراضيها، خاصة أنه سبق للسفيرة الإسرائيلية مطالبة الحكومة التركية بإغلاق مكتب حماس لديها.
فرض عقوبات أميركية على تركيا لم يعد أمرًا مفاجئًا للساسة الأتراك، الذين قرروا من جانبهم المضي قدمًا في تحديد مسارات سياسات بلدهم، بما يخدم مصالحها، والانحياز لما يرونه يتوافق مع قناعاتهم الأخلاقية بغض النظر عن الخسائر التي قد يتعرضون لها نتيجة هذه العقوبات التي أصبحت ورقة الضغط الوحيدة- على ما يبدو- في يد إدارة بايدن.
لذا تحاول استغلالها لأقصى درجة علها تؤتي أكلها ذات يوم، وهو ما يبدو أمرًا صعب المنال في ظل استمرار النخبة السياسية الحالية في سدّة الحكم في البلاد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.