الدكتاتورية من الاستبداد إلى الازدراء
قبلَ مائة عام بالتمام والكمال، في خاتمة 1923م، ومطلع 1924م، كانت مصر على موعد مع أول انتخابات ديمقراطية وَفق أول دستور حديث، انتصرت فيها إرادة الشعب، وفاز حزب الوفد المصري بالأغلبية، رغم أن الذين وضعوا الدستور، ثم الذين أداروا الانتخابات ونظموها وأشرفوا عليها كان هدفهم هو حجب الوفد عن الفوز وقطع الطريق على سعد زغلول حتى لا يحظى بشرف القيادة.
لكن فاز الوفد وخسروا، وفوز الوفد كان يعني فوز الحركة الوطنية ضد من يمالِئون القصر الملكي، ومن يهادنون الاستعمار. لم يحققوا مبتغاهم، بل إن رئيس الوزراء الذي أدار الانتخابات أخفق في دائرته أمام مرشح الوفد.
الشعب المُعلم
كانت لحظة تاريخية شهدت الاعتراف بقوة الشعب كصاحب إرادة حرة، وكذلك حقه في اختيار حكّامه، ومن ثم كانت لحظة تأسيسية في ميلاد الديمقراطية البرلمانية التي تعني فيما تعني: نهاية الحكم الفردي المطلق.
ومن ثمَّ فإن الشعب مصدر السلطات، والسلطات بينها توازن، فلا تطغى إحداها على الأخرى، ويتم ذلك من خلال الدستور والقانون والمؤسَّسات، في إطار ضمانات ثلاث: استقلال القضاء، حرية الصحافة، الانتخابات الدورية المنتظمة.
عقب إعلان نتائج الانتخابات في 12 يناير 1924م، ألقى سعد زغلول بيانًا كاشفًا لمعنى المعركة، ثمّ لدلالة نتائجها. قالَ: " أعلنوا حربَ الانتخاب، وحدّدوا ميدانها، واختاروا بأنفسهم زمانها، وأعدوا بأيديهم أسلحة القتال، فلم نتردد في نزالهم، بل أقدمنا واليقين بالنصر يملأ قلوبنا، والإخلاص للوطن العزيز يقودنا، والاعتماد على الله يسندنا، وما زلنا بهم حتى انكسر غاربُهم، واندحر جانبهم ".
ثم يتحدث عن الممارسات التي اتبعوها للتأثير في نزاهة الانتخابات، وكيف أنها لم تفلح في صدّ الشعب عن الانتصار لإرادته وللحق، فيقول: " لم يسعفهم تأجيل اكتسبوه، ولا تأويل تعسّفوه، ولا نفعتهم قواعد ابتكروها، لدرجات في الانتخاب عدّدوها، ولا قيود لخنق حرية الاجتماع فتلوها، ولا خطب ألقوها بالقذف والسباب، ولا صحف نشروها بالكذب والضلال، بل ارتد كل هذا عليهم نكرًا، ولم يزدهم إلا خِذلانًا وخُسرًا، وما أكسبهم التحالف مع الحاقدين إلا ضعفًا، ولا الأموال التي طافوا بها على المعدمين من الناخبين إلا فقرًا".
كان سعد زغلول على وعي كافٍ بأنّ في هذه اللحظة تولد أمة جديدة، أمة بدأت التمرين على رياضة الحرية، والتدريب على الممارسة الديمقراطية، فيقول: " نتقدّم بأخلص عبارات التهاني إلى أمتنا الكريمة، على تلك النظرة الصائبة، وعلى ذلك الإجماع المهيب، ونرفع إلى جلالها الأسمى آيات الشكر الأوفى، على هذه النعمة الكبرى التي فاقت كل النعم، ولم يسبق لها نظير في سائر الأمم".
هذه الأمة- التي يرفع سعد زغلول إلى جلالها الأسمى آيات الشكر الأوفى- بات اسمها الشعب المعلم، والشعب القائد بعد ثورة 23 يوليو 1952م، ثم بات اسمها: " إنْتوا يا مصريين في السنوات العشر الأخيرة 2013م – 2023م .
سيطرة أجنبية محْكمة
في ظلال هذه الديمقراطية – على النمط الليبرالي الغربي من 1923- 1953م- تمكّن المصريون من أمرَين: وضعوا القيود على استبداد الملوك من سلالة محمد علي باشا، ثم أجهزوا على الكثير من تركة وأعباء الاستعمار الأوروبي الذي بدأ فور وفاة محمد علي باشا 1849م، إذ بدأ كتدخل مدني وتجاري ومالي واستغلالي، كان أخطر من الاحتلال قبل أن يقع الاحتلال العسكري 1882م.
كان الأجانب يكبلون البلد بديون سعيد وإسماعيل عبر صندوق الدين، الذي كان دولة داخل الدولة، وكانوا يمتلكون الأراضي حتى وصلت ملكيتهم في بعض السنوات نصف إجمالي الأرض، سيطروا على ميادين المال والصناعة والتجارة، احتلوا المناصب الكبيرة في الحكومة والشركات، تمتعوا بالامتيازات الممنوحة لهم باتفاقات بين دولهم والدولة العثمانية، فكانوا لا يخضعون لقانون مصر، ولا يخضعون للضرائب، ولا يمثلون أمام القضاء المصري.
كانوا اثنتي عشرة جالية أوروبية في مقام اثنتي عشرة دولة مستقلة داخل الدولة، ثم كان الاحتلال ذروة ذلك كله.
السيطرة الأجنبية لم تكن في الاحتلال البريطاني فقط، كانت أسبق من الاحتلال، وكانت أعمق من الاحتلال، الاحتلال فقط كان بنيتها الفوقية، بينما هي كانت بنيته التحتية. كانت السيطرة الأوروبية الشاملة هي التي مهدت للاحتلال وبرَّرته ومكّنته من رقاب البلاد والعباد.
تعدد جبهات العمل الوطني
لقد كانت الحركة الوطنية- وهي تكافح الاستبداد والاحتلال- على وعي بذلك، وكان الشعب، أيضًا، على وعي بذلك، لذلك تعددت جبهات العمل الوطني، فلم تقتصر على مواجهة الاحتلال فقط، وإنما ذهبت تستأصل الأسس والأصول والجذور والبنى التحتية التي أرساها الأوروبيون في أنحاء البلاد.
وكلها أعقبت اعتراف الإنجليز باستقلال مصر بشروط أربعة: السودان، قناة السويس، الأجانب، ضمان المواصلات الإمبراطورية، فمن هذه الجبهات التي انتصرت فيها الإرادة الوطنية وترتّب عليها تصفية البنى التحتية للسيطرة الأجنبية:
-1 في عام 1929م، قررت الحكومة المصرية الأخذَ بنظام التعريفة الجمركية؛ لحماية الصناعات الأهلية، وبدأ العمل بها في حكومة الوفد 1930 م.
وينقل الدكتور عبد العظيم رمضان ــ في كتابه: " الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952م إلى نهاية أزمة مارس 1954م"، في ص 44 طبعة 1988م عن مكتبة مدبولي ــ عن مؤرخ اقتصادي، قوله: " اتفقت جمهرة الاقتصاديين المصريين على أن النهضة الصناعية المصرية – بالمعنى الحديث – لم تبدأ إلا بتقرير النظام الجمركي الجديد ". إذ إن التعريفة الجمركية منحت الصناعات المصرية الناشئة الحماية في الأسواق الداخلية ضد منافسة الواردات الأجنبية.
تصفية الاستعمار الثقافي
2- اتفاقيّة عام 1936م، أجهزت على وجود الموظّفين الأجانب في الإدارات الحكومية، وأبعدت جميعَ الموظّفين البريطانيين عن وظائفهم في الجيش المصري، وألغت وظيفة مفتش عام الجيش، التي كان يشغلها بريطاني، وألغت إدارة البوليس الأوروبي، وأبعدت جميع الموظفين الأوروبيين عن البوليس، وأطلقت يد الحكومة في الاستغناء عن المستشارَين البريطانيَين: القضائي والمالي.
3- في عام 1940م، تم إلغاء صندوق الدَّين، وكان دولةً داخل الدولة، له حقوق الرقابة والتشريع، فيما يخص حقوق الدائنين، بغض النظر عن عدالتها، وبغض النظر عن حقوق المِصريين .
4- في عام 1942م، أصدرت حكومة الوفد القانون رقْم 62، الذي أوجب استعمال اللغة العربية في تعاملات الأفراد والهيئات مع الحكومة ومصالحها، وكان القصد من ذلك تصفية الاستعمار الثقافي، حيث كانت الشركات والجاليات الأوروبية – في تعاملاتها الرسمية مع الحكومة المصرية – تتعامل بلغاتها الأوروبية، وليس باللغة العربية.
5- في عام 1943م أصدرت حكومة الوفد مشروع القرض الوطني؛ لتسديد جزء من ديون البلاد، وتحويل الباقي إلى ديون أخف حملًا. ويصف الدكتور عبد العظيم رمضان، في المرجع المذكور أعلاه، أن هذه الخطوة قضت على أي أثر من آثار السيطرة الأجنبية.
ربع قرن من الكفاح
6- في عام 1919م، كان اقتصاد البلاد – بالكُلية – في يد الأجانب، وبعد ربع قرن من الكفاح، وفي عام 1946م أصبح ما يزيد على 40% من مجموع رؤوس أموال الشركات في يد المصريين.
7- عام 1947م، صدر القانون رقْم 138 بشأن بعض الأحكام الخاصة بالشركات المساهمة، بحيث لا يقل عدد المصريين العاملين في الشركات المساهمة عن 75% من مجموع العاملين، ولا يقل مجموع ما يتقاضونه من أجور ومرتبات عن 65%، من إجمالي الأجور والمرتبات.
8- الفترة من الاستقلال المشروط 1922م، حتى ثورة 23 يوليو 1952م كانت فترة ازدهار الحركة العمالية وحقوق العمال، فيما يخصّ عمالة النساء والأطفال، والتعويض عن أمراض المهنة، والتأمين ضد حوادث العمل، والاعتراف بالنقابات العمالية التي تطورت من 28 نقابة عمالية عام 1922م، إلى 558 نقابة عام 1952م.
9- هذا فضلًا عما أنجزته الفترة من نهضة التعليم الجامعي، وتمصير القضاء والفقه والقانون، وحرية الصحافة، واحترام الحقوق والحريات الفردية.
10- وحتى التفاوتات الفاضحة في الأوضاع الاقتصادية بين مَن يملكون، ومن لا يملكون، كانت مطروحة للنقاش داخل الأحزاب والبرلمان والصحافة والمجتمع، ولم يكن أحد- مهما كانت قوته- ليستطيع منع مثل هذا النقاش أو إيقافه. هذه الفترة هي التي فتحت ملفات العدالة الاجتماعية والإصلاح الزراعي وتحديد الملكية.
ديمقراطية منتجة
كانت الديمقراطيةُ – رغم تعثرها ورغم عيوبها ورغم كل القيود عليها – كفيلةً بتمكين المصريين من الكفاح على كل الجبهات من مكافحة استبداد القصر، إلى سيطرة الأوروبيين على مقدرات البلاد، إلى سطوة الاحتلال العسكري، إلى استغلال الطبقات المتميزة من كبار الملاك وكبار الرأسماليين.
ثلاثون عامًا 1923 – 1953م لم تكن كافيةً لإنضاج تجربة ديمقراطية مكتملة، لكنها كانت تمرينًا وتدريبًا على تمكين الشعب من السعي نحو فضائل الحرية، والتحرر، والكرامة، والديمقراطية، وحكم الدستور والقانون.
الديمقراطية كانت أداة نضال وطني، كانت آلة منتجة ومثمرة، لم تكن لغوًا من الكلام ولا ثرثرةً من الخطاب، ولا أمانيَ وتمنيات وغايات، كانت فعلًا اجتماعيًا وسياسيًا نشطًا وخلاقًا ومبدعًا للوجود وللفكر وللطريق وللنور وللحياة، كانت الديمقراطية بصيرة الأمة وعقلها وحكمتها.
وقد نحَرت البنية التحتية لكل من: السيطرة الأجنبية، ثم الاحتلال العسكري. نحرتها نحرًا كاملًا حتى تآكلت وتداعت جذورها وأسسها وقواعدها العميقة، فلم يتبقَّ إلا أن يسمح الإنجليز والأميركان بتمرير ونجاح حركة الضباط ليلة 23 يوليو 1952م، ثم تيسير التفاوض معهم على الجلاء 1954م، ثم الجلاء الفعلي الكامل 1956م.
وذلك على أمل أن الضباط سوف يقبلون ما لم تقبله حكومات العهد الديمقراطي، وهو: الاعتراف بإسرائيل، والدخول في أحلاف غربية تطوّق الاتحاد السوفياتي، والسماح بحق العودة لاستخدام منطقة القناة في حال نشوب حرب في المنطقة.
وقد خابت ظنون الإنجليز والأميركان؛ لأن هذه القضايا الثلاث كانت قد ترسخت في الوجدان الوطني في العهد الديمقراطي، ولا يجرؤ كائن من كان أن يخرج على الإجماع الوطني المنعقد ضد إسرائيل، وضد الأحلاف الغربية، وضد العودة لاحتلال أو استغلال منطقة القناة بعد الجلاء عنها.
فالعكس هو ما حدث، تمسّك الضباط بهذا الميراث الوطني، وزادوا عليه، ونسبوه لأنفسهم – معتمدين على ضعف الذاكرة – وجعلوه من أسس شرعيتهم المستجدة.
سحق الخصوم والحلفاء
لما قرّرت ثورة 23 يوليو عزل الملك، ثم إلغاء الملكية، ثم تصفية الوجود السياسي لسلالة محمد علي باشا، ثم إلغاء الدستور، ثم إلغاء الأحزاب، ثم تحديد الملكية والإصلاح الزراعي، ثم إبعاد القضاء عن النظر في قراراتهم باعتبارها من أعمال السيادة، ثم فرض الأحكام العرفية، ثم فرض الرقابة على الصحافة، ثم مصادرة السياسة في الجامعات، ثم تقييد النقابات.
لما فعلت ثورة 23 يوليو كل ذلك، فإن قادتَها ــ الاثني عشر ضابطًا الذين وُلدوا وتربوا وعاشوا والتحقوا بالجيش، وقاموا بالانقلاب، في ظل نظام ديمقراطي؛ بمعنى أنهم يعرفون عن خبرة ومعايشة مزايا العهد الديمقراطي وعيوبه ــ كانوا على وعي كامل بأنهم ينهون عهد الديمقراطية نهايةً أكيدةً، ويؤسسون لحقبة دكتاتورية جديدة بصورة لا غبش فيها ولا التباس .
كانوا على وعي بأن تصفية الطبقة السياسية القديمة، تعني تأسيس طبقة حكم جديدة، وإذا كانت الطبقة القديمة جاءت من صفوف كبار الملاك والطبقة الوسطى، فإن طبقة الحكم الجديدة سوف تكون من الجيش، ومن يتحالف معهم من موقع التابع الصغير لا من موقع الأنداد الأكْفاء.
لهذا فإنَّ ثورة يوليو بعد أن سحقت خصومها من الطبقة القديمة، استدارت وسحقت حلفاءها المؤقتين من الإخوان والشيوعيين الذين أرادوا أن يكونوا أندادًا أكْفاء ورفضوا أن يكونوا تابعين أصاغر. كانت الصورة لدى الضباط واضحة في كلمتَين: انتهى عصر الديمقراطية، وبدأت حقبة الدكتاتورية.
لكنها كانت دكتاتورية لها ما يبررها، في نظر مؤسّسيها، كانت وجهة نظرهم أن التجربة الديمقراطية كانت تعمل فقط لصالح أقلية، لم تكن تعمل لصالح الشعب.
أما الدكتاتورية الجديدة، فهي استبداد لا مفرَّ منه، استبداد معقول ومقبول ومبرر؛ لأنه استبداد شريف القصد وطاهر الغرض، استبداد يعمل لصالح الشعب، لا لمصالح الأقلية المستغلِّة.
تم اختصار الموضوع في أن الديمقراطية الاجتماعية- ويَرمز لها رغيف العيش، وتكافؤ الفرص، وتمكين الفقراء- لها الأولوية الأولى فوق وقبل الديمقراطية السياسية، وكان يرمز لها بتنافس الأحزاب على السلطة، وصراعها على المغانم، واستغلال الأغنياء لفقر الفقراء.
كاريزما عبدالناصر
تبرير أنّ الدكتاتورية لصالح الشعب وجد آذانًا مُصغيةً لدى قطاعات عريضة، سحر عقولها السهولة التي جرى بها خلع الملك، واستئصال المَلَكية، وتصفية العهد القديم.
كما سحرها جاذبية القيادة الناصرية التي قدّمت نفسها من بوابات البطولة، في باندونج 1955، ثم في جلاء قوات الاحتلال، ثم أوَّل استفتاء أسس – عمليًا – للدكتاتورية، ثم أفراح تأميم قناة السويس، ثم تصوير حرب العدوان الثلاثي 1956م على أنها نصر لمصر تحت قيادة عبدالناصر، وهو غير صحيح؛ لأن إسرائيل حققت هدفها من الحرب، وهو مرور ملاحتها من مضيق تيران .
وجدت الدكتاتورية في كاريزما القيادة الناصرية- مثلما وجدت في مفهوم الرغيف قبل الصوت الانتخابي- فرصةً تاريخيةً لتتأكد وتستقر في التربة المصرية.
ومثلما كان للاحتلال البريطاني 1882م – 1956م قصة طويلة، فكذلك للدكتاتورية الوطنية 1953 – 2023 م قصة مُماثلة .
بدأت دكتاتورية في شكل استبداد لصالح الشعب، ثم انتهت دكتاتورية في شكل استبداد لا يتورّع عن ازدراء الشعب.
فمن انتخابات 1924 م حتى انتخابات 2024م ينزل تاريخ مصر من أعلى ذُراه إلى أدناها.
وهذا ما يناقشه مقالُ الأسبوع المقبل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.