نجيب محفوظ.. رائد الرواية العربية الحقيقي في ذكرى مولده

روايات نجيب محفوظ في معرض للكتاب (رويترز)

في يوم 11 ديسمبر 1911، دخل "نجيب محفوظ " الدنيا، في حارة من حواري القاهرة، وبالتحديد في بيت التاجر" عبدالعزيز إبراهيم الباشا"، وهو من "البُحْيرة" ـ شمال غرب العاصمة المصرية ـ وتقع مناطق منها على فرع النيل الغربي "رشيد"، ومناطق على البحر المتوسط.

ولكن "نجيب " قاهري المولد والنشأة، ومنها استمدّ أدوات مشروعه الروائي، ذلك المشروع الخصب المترامي الأطراف، الذي استوعب قرنًا من الزمان من حياة "المدينة المصرية"، والمدينة هي " القاهرة" المتحكّمة في كل الأقاليم، و" الإسكندرية "، باعتبارها العاصمة الثانية.

ولم يقترب من "القرية "؛ لأنه لا يعرفها، والقرية الوحيدة التي ظهرت في رواياته – كانت في "القاهرة الجديدة "، التي اشتُهرت باسم القاهرة 30؛ بفضل الفيلم السينمائي المأخوذ عنها ـ هي "القناطر الخيرية" مسقط رأس "محجوب عبدالدايم " العدمي الانتهازي.

إبداع أدب مصري مستقل

وعلى كثرة المكتوب عن "محفوظ" ما زال المؤرّخون للرواية العربية، يتكلّمون عن رائدين؛ هما: "الدكتور محمد حسين هيكل "و "توفيق الحكيم"، ويذكرون "رواية زينب"، ورواية "عودة الروح"، ولا يعتبرون "الأيام "- السيرة الروائية التي كتبها طه حسين- روايةً، ولا يعتدون بها.

أمّا ريادة "محمد حسين هيكل "، فهي حقيقة، لكنها ليست ريادة لفن الرواية، بل هي ريادة للثقافة الوطنية، فالرجل كان من أغنياء العصر الملكي، وكان من قيادات حزب "الأحرار الدستوريين"، وحصل على الدكتوراه من جامعة بريطانية في العام 1912، وتولّى رئاسة صحيفة "السياسة " الناطقة بلسان حال "الأحرار الدستوريين"، وكان من الفاعلين في "نخبة النهضة الوطنية " ـ أي القيادة السياسية للطبقة التي ظهرت في غضون ثورة 1919ـ وهي التي أطلق عليها اسم " النهضة الوطنية ".

إعلان

وكانت رغبة هذه النخبة المثقّفة الملحّة، هي إبداعُ أدبٍ وفنٍ مصري، بعيدًا عن الأثر العثماني أو البريطاني، فقدَّم " السيد درويش" مشروعه الموسيقي المستوحى من موسيقى الطبقات الشعبية.

وقدَّم "محمد حسين هيكل " مناظر ريفية، هذه المناظر الريفية، هي ذاتها "رواية زينب"، ولم يمتلك الجرأة لكتابة اسمه ونسبتها لنفسه، ونسبها لمصري مغترب، وفيما بعد جرى تعديل الوضع، فكتب اسمه، وأطلق على المناظر الريفية اسم " رواية ".

وقام المخرج السينمائي الرائد "محمد كريم" بإخراجها فيلمًا سينمائيًا، شارك فيه "فريد شوقي، وراقية إبراهيم، ويحيى شاهين، والسيد بدير، وفردوس محمد، وعبدالوارث عسر، وسليمان بك نجيب".

أمّا "توفيق الحكيم" صاحب "عودة الروح"، فهو رائد من روَّاد "المسرحية "، وروايته ما هي إلا مسرحية، مكتوبة بلغة متطورة ـ قياسًا إلى السائد في زمن كتابتها؛ أي في أواخر عشرينيات القرن الماضي ـ ولكنها "مسطحة" الزمن، ترصد حيوات مجموعة من المغتربين المقيمين في الحي القاهري "المنيرة"، دون تقديم طبقات من الأزمنة والأمكنة. فهي تحكي عن لحظة محددة، في مكان واحد، والحسنة الوحيدة فيها هي "اللغة الحية " التي هي لغة الناس، في صيغتها المحكية: "العامية" والفصحى المبسطة، وهذا إنجاز ليس بالقليل.

 محفوظ رائد أصيل

لكنّ ريادة "نجيب محفوظ" لفنّ الرواية كانت الأعمق والأهم، والأقرب إلى " الأيام "؛ لأن الأيام – وكاتبها "طه حسين " كانت الأقرب لفنّ الرواية الأوروبية، والرواية أوروبية النشأة، كما هو معروف- ذاتية الجوهر؛ بمعنى أنها نوع من الكتابة المعبّرة عن "أزمة " يعيشها "فرد" أو تعيشها "جماعة " في زمن محدد، في ظل سياق اجتماعي محدد.

وباعتراف نجيب محفوظ، كانت ـ الأيام ـ ملهمته في بداياته، حتى إنه كتب رواية أطلق عليها اسم " الأعوام "، ولم ينشرها بالطبع، وكانت "الرواية " عنده تاريخًا شعبيًا، يختلف ويناقض التاريخ الرسمي.

إعلان

لكنه بعد أن كتب عدة روايات مستندًا إلى المدوَّن من التاريخ المصري القديم: "رادوبيس، كفاح طيبة، عبث الأقدار" قرّر الالتحام بالواقع الحي، فكتب: "زقاق المدق " و"الثلاثية " و"خان الخليلي"، وغيرها من الروايات المعبّرة عن الحياة القاهرية، بصيغة "تسجيلية "، كما في زقاق المدق، أو بصيغة الاستلهام والتصرف، كما في "خان الخليلي" و"الثلاثية : قصر الشوق، بين القصرَين، السكرية ".

مؤسس رواية الواقع

كما لم ينسَ التاريخَ، أو "الثقافةَ الوطنية "، لكنه أسس "رواية الواقع" القائمة على ذكر بطولات الناس، والناس عنده هم "المثقفون والتجار" ـ عصب الحياة في المدينة ـ وبذلك يكون "نجيب محفوظ " هو الرائد الحقيقي لفن الرواية، الذي جعل منه فنًا واسع الآفاق، يستوعب الحياة بتفاصيلها.

ومن يرصد المسيرة الروائية له، عليه أن يراجع ـ أولًا ـ ما قاله " يحيى حقي " عنه في برامج تليفزيونية مصرية أذيعت في ستينيات القرن الماضي، قال حقي عن محفوظ: إنه كاتب عالمي بمقاييس الكتابة السائدة في أوروبا "موطن فنّ الرواية والقصة القصيرة".

وقول " حقي " مهم لعدة أسباب؛ منها أنه مؤسس فنّ القصة القصيرة في الأدب العربي بصورته الحديثة المتطورة، وكان يترجم الروايات عن الفرنسية، وكانت حياته في أوروبا بحكم عمله لسنوات في وزارة الخارجية المصرية تعطيه فرصة الاطّلاع على ما يكتبه الروائيون الأوروبيون، وهو رغم اختلاف نظرته للغة، ووظيفتها في التعبير، عن النظرة "المحفوظيّة"، كان يعرف قدر " محفوظ " ويعرف حجم موهبته وقيمة منجزه الروائي والقصصي.

وإن كان يحيى حقي من أنصار التعبير باللغة المحكية "العامية " في "الحوار"، فإن "نجيب محفوظ" كان حريصًا على "الفصحى البسيطة " في الحوار، وكان مبرره، الرغبة في التواصل مع القارئ العربي خارج مصر.

ورغم أنّ شخصيات روايات "محفوظ" منها مَن لا يستقيم ـ منطقيًا ـ حديثه بالفصحى، فإنّ هذا التصور عن وظيفة اللغة الفصحى منحه مساحات جغرافية في الوطن العربي، وسهّل مهمة المترجمين لرواياته إلى اللغات الأوروبية.

إعلان

ورغم أنّ منطق "يحيى حقي " سليم، ويحقق الصدق الفني ويسهل مهمة القارئ، فإنه لم يحقق الانتشار الواسع، وظل مشروعه قاصرًا على "مصر" وحدها ومتوجهًا للقارئ المصري دون غيره.

ومن المهم القول: إن "نجيب محفوظ"، كان قادرًا على التطور، وتقديم الإبداع المواكب لذائقة القرّاء من أجيال متعددة، وهذا جعله حيًا، يلقى قبول القرَّاء المنتمين لشرائح عمرية مختلفة، ومازال الناس في مصر وغيرها من بلدان العالم العربي والأوروبي والأفريقي والآسيوي يقرؤُون رواياته بعدّة لغات، وما زال أدبه معبّرًا عن الثقافة العربية، وعن "الثقافة الوطنية " المصرية في آن.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان