هل تمهد "غزوة تل أبيب" لتحول إسرائيل إلى دولة "شريعة"؟
مثّلت المواجهات غير المسبوقة بين العلمانيين والمتدينين اليهود في مدينة "تل أبيب" أثناء الاحتفال بعيد "يوم الغفران"، نقطة تحول فارقة في الاستقطاب بين الفريقين، سمحت باتساع الصدع المجتمعي، الذي بات يمثل أحد أخطر التهديدات الإستراتيجية التي تحدق بإسرائيل.
فقد عكست هذه المواجهات فائض الثقة بالذات لدى التيارات الدينية اليهودية المتطرفة التي قدِم أتباعها إلى تل أبيب، أكبر مدن إسرائيل ومعقل العلمانية فيها، لتحدي أنماط الحياة التي يعتمدها العلمانيون، عندما أصروا على أداء صلاة بمناسبة العيد في "ميدان ديزنوغوف"، أكبر ميادين المدينة في ظل الفصل بين الجنسين.
وقد أثار سلوك أتباع التيارات الدينية سخط الأغلبية العلمانية، الذين عدّوا هذا السلوك تهديدا لطابع المدينة "الليبرالي"، ومحاولة لفرض مظاهر التدين في الفضاء العام فيها، حيث حاولوا إخفاق أداء "الصلاة"، وهو ما نجم عنه اشتباكات بين الجانبين.
لا تقتصر جهود الجماعات الدينية اليهودية على التسلل إلى المدن العلمانية، فقد عمدوا إلى الاستيطان داخلها وتدشين كُنُس ومؤسسات لهم، بهدف تحدي أنماط حياة العلمانيين في عقر دارهم
تديين الفضاء العام
ويجاهر الذين يشرفون على عمليات تسلل عناصر التنظيمات الدينية إلى المدن العلمانية، وتحديدا تل أبيب، بأن هدفهم الرئيس يتمثل في تديين الفضاء العام في هذه المدن، وتحويل أكبر عدد من العلمانيين إلى متدينين.
ويقول يسرائيل زعيرا، رئيس منظمة "العقل اليهودي" التي تدير إستراتيجية تسلل المتدينين إلى المدن العلمانية، إنه وزملاؤه لا يستحيون من الإفصاح عن "تديين" الفضاء العام في إسرائيل، كأحد أهم أهدافهم.
لا تقتصر جهود الجماعات الدينية اليهودية في سعيها لفرض مظاهر التدين في الفضاء العام على التسلل إلى المدن العلمانية، وإقامة "الصلوات" الاستفزازية فيها، بل إنهم عمدوا خلال السنوات الخمس الأخيرة -أيضا- إلى الاستيطان داخل هذه المدن، وتدشين كُنس ومؤسسات دينية لهم هناك، بهدف الحفاظ على وجود يسمح لهم بتحدي أنماط حياة العلمانيين في عقر دارهم.
وقد اتجهت منظمة "الأنوية التوراتية" -وهي منظمة دينية متطرفة- إلى تدشين جيوب لها في قلب المدن العلمانية، حيث تستقدم المتدينين من المستوطنات اليهودية، في الضفة الغربية والقدس والمدن والأحياء التي تقطنها أغلبية متدينة للإقامة في هذه الجيوب.
نفوذ الحركات الدينية في الحكومة
وتعتمد المنظمات الدينية اليهودية في سعيها لفرض مظاهر التدين في الفضاء العام داخل المدن العلمانية على حكومة بنيامين نتنياهو، التي تخضع بشكل كامل لنفوذ وتأثير الحركات الدينية المشاركة فيها، التي لا تتردد في إسناد جهد هذه المنظمات.
فممثلو الحركات الدينية الذين يسيطرون على وزارة المالية والوزارات الخدماتية في الحكومة، يخصصون موازنات ضخمة لتمكين هذه المنظمات من مواصلة تنفيذ إستراتيجيتها في قلب المدن العلمانية.
وحسب الصحافي الإسرائيلي إيلي بيتان، فإن المنظمات الدينية اليهودية تعكف على 3 إستراتيجيات مختلفة في سعيها لاختراق المدن العلمانية.
وحسب بيتان، فإنه إن كانت هذه المنظمات تعكف على اختراق المدن العلمانية الكبيرة التي تضم الطبقة الوسطى؛ مثل: تل أبيب وأمثالها عبر الاستيطان داخلها، فإنها في المقابل تعمل على اختراق المدن التي تحتضن الفئات الفقيرة والضعيفة اجتماعيا، عبر التحكم بالمؤسسات التي تقدم الخدمات في هذه المدن، لا سيما خدمات الصحة، والتعليم، والإغاثة، وتوظيف هذه المنظمات لهذه المؤسسات، في محاولة التأثير في توجهات المستوطنين هناك، واستخدام التعيينات في المؤسسات الرسمية وسيلة لمراكمة النفوذ والتأثير في هذه المدن.
اختراق المنظمات الدينية اليهودية المدن العلمانية يعدّ مكونا واحدا من إستراتيجية شاملة تهدف إلى فرض احترام "الشريعة اليهودية" على العلمانيين
وفيما يتعلق بالمدن المختلطة، التي يقطنها فلسطينيو الداخل واليهود؛ مثل: عكا، ويافا، وحيفا، واللد والرملة، فإن المنظمات الدينية اليهودية، كما يقول بيتان، تعمل على تأمين موطئ قدم لها هناك، عبر السطو على ممتلكات الفلسطينيين الخاصة وعقاراتهم والإقامة فيها. إلى جانب ذلك تعمد هذه المنظمات إلى إشعال مواجهات مع هؤلاء الفلسطينيين، بزعم أنها تدافع عن اليهود الذين يستوطنون تلك المدن، مما يسمح لها بالتأثير في الجدل العام في هذه المدن، وفي إسرائيل بشكل عام.
الفصل بين الجنسين ظاهرة تتسع
لكن اختراق المنظمات الدينية اليهودية المدن العلمانية يعدّ مكونا واحدا من إستراتيجية شاملة، تهدف إلى فرض احترام "الشريعة اليهودية" على العلمانيين.
وقد لوحظ أنه بمجرد أن تشكلت حكومة نتنياهو الحالية، طفت على السطح مظاهر فرض معالم "التدين" في الفضاء العام في جميع أرجاء إسرائيل.
ولعل أكثر مظاهر "التدين" التي يعمل المتدينون اليهود على فرضها على العلمانيين، يتمثل في الفصل بين الجنسين في المرافق العامة. فقد أجبر المتدينون، تحت تأثيرهم الطاغي في الحكومة، المؤسسات العامة على الفصل بين الجنسين في كثير من برامجها ومناشطها. فقد أذعنت جامعة "بن غوريون" لإملاء التيار الديني ودشنت برامج أكاديمية يُفصل فيها بين الرجال والنساء، من أجل تمكين أتباع التيار الديني الحريدي من الالتحاق بها.
وقد عمدت كثير من المجالس البلدية إلى تنظيم الاحتفالات في ظل الفصل بين الجنسين، حيث كان من المفارقة أن بعض المدن التي حرصت على الفصل بين الجنسين، هي مدن تقطنها أغلبية العلمانية؛ مثل: "روش هعاين"، بزعم مراعاة مشاعر المتدينين.
وبناء على تعليمات الحكومة، خصصت بعض المدن الساحلية مناطق سباحة منفصلة للرجال والنساء، لتمكين المتدينين من الترفيه ضمن احترام مشاعرهم الدينية.
وتقود المرجعيات الدينية المتطرفة حملة شرسة ضد استيعاب النساء في الوحدات القتالية في الجيش، حيث باتت تشترط خدمة الجنود والضباط المتدينين، بخلو القواعد التي يخدمون فيها من المجندات.
وقد أجّجت نشاطات التنظيمات المتطرفة الهادفة إلى فرض مظاهر التدين حماسة المستوطنين، لأخذ زمام المبادرة ومحاولة فرض الفصل بين الجنسين في المرافق التي يعملون فيها.
وقد وثّقت وسائل الإعلام الإسرائيلية عددا كبيرا من الحالات التي أمر فيها سائقو حافلات النقل العام النساء بالجلوس في الخلف. وفي إحدى المرات، أمر سائق مجموعة من الفتيات يرتدين ملابس قصيرة بالجلوس في الخلف، بعد أن منحهن قطعة قماش كبيرة لتغطية أجسادهن.
بيئة قانونية مساعدة
وضمن الخطوات التي تعكس توجه الحكومة الحالية للتمهيد لتحويل إسرائيل إلى كيان يحتكم إلى تعاليم الشريعة اليهودية؛ تمكينها المحاكم الدينية التوراتية التي تنظر في قضايا الأحوال الشخصية، من اتخاذ قرارات بشأن قضايا مدنية صرفة.
العلمانيون لا ينوون الاستكانة والتعايش مع توجه المنظمات اليهودية لتديين الفضاء العام، حيث بات العلمانيون يرون في التصدي لمظاهر الإكراه الديني مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم
ومن الواضح أن النظام السياسي الإسرائيلي وفر الأرضية القانونية لإلزام الإسرائيليين بمراعاة تعاليم الشريعة اليهودية حتى لو كانوا علمانيين. فنظرا لأن إسرائيل تعرّف ذاتها بأنها "دولة يهودية وديموقراطية"، فقد أجبر النظام السياسي العلمانيين على احترام بعض التشريعات الدينية.
فعلى الرغم من أن المتدينين يمثلون أقلية مقارنة بالمحافظين والعلمانيين في إسرائيل، فإن القانون الإسرائيلي يعترف بعقود الزواج التي تُسجّل في المحاكم الدينية فقط، وينزع الشرعية عن عقود الزواج المدني.
وحتى عندما لا ينص القانون على احترام بعض التشريعات الدينية، فإن تأثير الموروث الديني في المجتمع يدفع الإسرائيليين إلى احترامها. فعلى سبيل المثال، تشير صحيفة "يديعوت أحرنوت" إلى أنه على الرغم من أن القانون لا يلزم العائلات اليهودية بختان أطفالها الذكور، فإن 97% من العائلات اليهودية تقوم بعمليات ختان لأبنائها.
لكن على الرغم مما تقدم، فإن أحداث الأسبوع الماضي تدلل على أن العلمانيين لا ينوون الاستكانة والتعايش مع توجه المنظمات اليهودية لتديين الفضاء العام، بل على العكس تماما، حيث بات العلمانيون يرون في التصدي لمظاهر الإكراه الديني مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم.
وإذا كانت "غزوة" تل أبيب التي نفذها أتباع التنظيمات الدينية اليهودية، تمثل مقدمة لتحويل إسرائيل إلى دولة "شريعة"، فإنها يمكن أن تقود -كذلك- إلى اندلاع حرب أهلية بين العلمانيين والمتدينين، قد تأكل الأخضر واليابس.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.