هل تَرْك النبي لفعل دليل على عدم مشروعيته؟
خلصت –في المقالين السابقين– إلى أمرين: الأول: أن "البدعة" مفهوم وصفي لا معياري، ومن ثم يفتقر إلى صفة تقويمية تحسّن البدعة أو تقبّحها. والثاني: أن معيار التمييز بين حسن البدعة وقبيحها -شرعًا- هو ما وافق السنة النبوية بمعناها الواسع، أي: ما وافق نصًّا أو أثرًا أو إجماعا أو قياسًا، أو اندرج تحت أصل عام أو وافق قواعد الشريعة. ولكن بقي أمر ثالث لا بد من توضيحه حتى يكتمل الأساس المنهجي لتقويم الأفعال المحدثة التي لم تُعهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن السلف، وهو: هل مجرد ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- لفعل ما دليل (أو حجة) على كونه بدعة سيئة؟ هذا ما سأناقشه هنا.
ثمة أحاديث عديدة تتصل بمسألة الترك وتفيدُ بأن الترك تروكٌ، منها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان "ليدع العمل -وهو يحب أن يَعمل به- خشية أن يعمل به الناس فيُفرض عليهم"، ولهذا ترك صلاة القيام في رمضان جماعة في المسجد، وقال: "لم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تُفرض عليكم". ومنها حديث: "من ترك اللباس تواضعًا لله -وهو يقدر عليه- دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء". ومنها حديث: "فمن ترك ما شُبه عليه من الإثم كان لما استبان أَتركَ". ومنها حديث إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الذي قال فيه لعائشة رضي الله عنها: "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت". وثمة أحاديث تفيد بامتناع النبي عن أخذ الصدقة (أو الأكل من مال الصدقة)، وامتناعه عن الصلاة على من قتل نفسه، وتركه قيام الليل ليلتين أو ثلاثًا، وتركه أكل لحم الضب.
تحيل الأحاديث السابقة -وغيرها- إلى معانٍ مختلفة للترك، وهي بحسب ترتيب الأمثلة المذكورة:
- الترك لدفع المشقة عن المؤمنين.
- والترك تواضعًا لله، وترك المشتبهات تورعًا.
- والترك لدرء مفسدة متوقعة.
- والترك لأجل كون الحكم خاصًّا به.
- والترك لأجل الإنكار.
- والترك لمجرد الطبع، أو لأجل المرض.
- أو لأجل بيان مشروعية الترك وعدم وجوب الفعل وإن كان الفعل المتروك فضيلةً.
- وقد يكون الترك طلبًا للأعلى فضيلة، وغير ذلك.
ولا بد من ملاحظة أن هذه الأمثلة غير الحاصرة لألوان الترك، جميعها وارد على سبب، ومن ثم فهي -في الواقع- لونٌ من ألوان الفعل (نسميه الترك الوجودي). أي أنها فعل على جهة السلب أريدَ به تحقيق معنى معياري يندرج ضمن مفهوم "السنة" التي هي مفهوم معياري، ولكن ليس جميع التروك من هذا القبيل، فضلا عن تعدد احتمالات الترك كما سبق، كتعدد احتمالات الفعل، كما أوضحت في مقال الأسبوع الماضي. وهنا لا بد من توضيح ثلاثة أمور رئيسية:
- الأمر الأول: أن مجرد الترك عدميٌّ ولا يقال للعدم فعلٌ، فضلا عن أن يُحتج به، خصوصًا بين المتناظرين، بل لا بد أن ينضم إليه شيء آخر من مقصد أو سبب، فيخرج الترك من الأمر العدمي إلى الأمر الوجوديّ، ويسمى كفًّا عن الفعل. ولأجل أن مجرد الترك عدمي، درج الفقهاء والأصوليون -فيما أحسب- على تعريف "السنة" بأنها قول أو فعل أو تقرير، فلم يذكروا الترك؛ لأن التروك تحتمل معاني عديدة، الأمر الذي أضعف دلالتها، ومن ثم لا يقال فيها: سنة.
- الأمر الثاني: أن الترك الوجودي (وهو الكفّ عن الفعل بقصد أو لسبب) فهو من صور الأفعال؛ لأن الكف عن الفعل فعلٌ؛ ففيه معنى القصدية والغائية. وبما أن الترك الوجودي يندرج ضمن الفعل فلا حاجة لإفراده بالذكر، ولكن بعض العلماء -كبدر الدين الزركشي مثلاً- فصّلوا في صور الفعل، فذكروا منها الترك (بمعنى الكفّ)، ورأى بعض المعاصرين أن يضيف إلى تعريف "السنة" الترك إلى جانب الفعل، وقد عنى بالترك هنا الترك الوارد على سبب؛ لأن مطلق الترك لا يدخل في مفهوم "السنة" بالمعنى المعياري.
- الأمر الثالث: أن دلالة الأفعال أضعف من دلالة الأقوال عند علماء أصول الفقه؛ لأن الأفعال تحتمل معاني متعددة أشرت إليها في مقال الأسبوع الماضي. فإذا كان هذا في الفعل الصريح فما بالك بمجرد الترك الذي هو عدميّ، ومن ثم لا بد من البحث في تفاصيل الترك للحكم عليه، أما مجرد الترك فليس حكمًا.
ترك النبي تغسيل الشهيد والصلاة عليه، وترك الجهر بالبسملة في الصلاة، وترك التنفل قبل صلاة العيد، وترك الاستعانة بالمشرك في الحرب، وهذه المسائل وقع الخلاف فيها بين فقهاء المذاهب، ومع ذلك لم يُبدّع بعضهم بعضًا
ولتحرير حجية الترك لا بد من توضيح مفهومين مركزيين:
- الأول: مفهوم السنة، وهو -عند الفقهاء- يتسع ليشمل السنة النصية (ما ورد به النص قولاً أو فعلاً أو تقريرًا) والسنة الاجتهادية، وهي ما ثبت بالحمل على نصوص الشريعة وقواعدها من خلال مصادر التشريع المتعددة، سواء المصادر الأربعة المتفق عليها (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) أو المصادر المختلف فيها (ويسمى الاستدلال: أي البحث عن دليل من خارج تلك الأربعة كالمصالح والاستحسان والعرف وغيرها). وعلى هذا المفهوم الواسع للسنة تأسس كثير من فروع الفقه التي لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا ورد بها نصّ، ومع ذلك يقال: إنها مسنونة أو مستحبة.
- الثاني: مفهوم التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو مندوبٌ، ويحيل إلى تحري الكمال والبحث عن الأفضل أو الفاضل لا المفضول، ولكن التأسي لا يُخرج المفضول عن المشروعية. وهنا وقع الخلاف بين العلماء: فهل مطابقة صورة فعل النبي تكفي لتحقق التأسي كما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنه، أم لا بد من مطابقة صورة الفعل والكيفية والقصد معًا كما ذهب إليه عامة الأصوليين؟ وهذا الرأي الثاني هو ما عبروا عنه بقولهم: "أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل لأجل أنه فعل".
وللذهول عن هذين المفهومين، دخل أناس في متاهة البدعة، وزلت أقوام بتبديع خلق الله وتضليلهم؛ فخرجوا عن قانون الفقه. وقد ساعد على هذا المسلك إحداث شيخ الإسلام ابن تيمية -وتبعه الإمام الشاطبي وغيره- قسمة لا تستقيم مع طريقة فقهاء المذاهب الفقهية، وهي التمييز بين الترك؛ لأنه لا باعث يقتضي الفعل، وبين الترك مع وجود المقتضي له. ولكن أئمة المذاهب لم يراعوا مثل هذا التمييز، ولذلك استحب جمهورهم -مثلاً- التلفظ بالنية في الصلاة؛ رغم أن النبي تركه مع وجود المقتضي.
وخلاصة الأمر أن الترك لا يفيد الوجوب، كما أن الفعل -أيضًا- لا يفيد الوجوب عند الفقهاء، ومن ثم حكموا على الأفعال المُحدثة بحسب كل فعل، وأسوق هنا أمثلة توضح قانون الفقه من جهة، كما توضح خطأ من توهموا أن مجرد ترك النبي دليل على تحريم الفعل أو أنه بدعة ضلالة:
- المثال الأول: ترك النبي تغسيل الشهيد والصلاة عليه، وترك الجهر بالبسملة في الصلاة، وترك التنفل قبل صلاة العيد، وترك الاستعانة بالمشرك في الحرب، وهذه المسائل وقع الخلاف فيها بين فقهاء المذاهب، ومع ذلك لم يُبدّع بعضهم بعضًا.
- المثال الثاني: أنه لا أذان ولا إقامة لصلاة العيدين، وقد وقع الإجماع على ذلك، ولكن ثمة من جاء وخلط بين وقوع الإجماع على عدم سنية الأذان والإقامة، وبين القول بتبديع من يفعل ذلك بدعةَ ضلالةٍ؛ رغم أنه لا تلازم بين الأمرين. فهذا الإمام الشافعي يقول: إن أذن وأقام للعيد كرهته، بل إن الحنابلة يرون أنه لو غير صيغة النداء لصلاة العيد يُكره فقط، أي أن هذا الفعل غير المعهود هو بدعة مكروهة فقط.
- المثال الثالث: أن قيام الليل جماعة في رمضان هو "بدعة مندوبة" كما قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري. وهو سنة عند جمهور الفقهاء؛ رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها، بل ذهب الإمام ابن حزم الظاهري إلى استحباب صلاة الجماعة في عموم النوافل. أما صلاة النوافل في جماعة خارج رمضان فقد اعتبرها الحنفية "بدعة مكروهة"، لأنها "خلاف المتوارث".
- المثال الرابع: أن بعض متأخري المالكية أدرجوا صوم يوم المولد النبوي ضمن أنواع الصيام المكروه؛ إلحاقًا له بصوم يوم العيد؛ لأن المولد يوم عيد، وصوم يوم العيد مكروه، وهو قول أحمد بن عاشر السَّلَوي (ت. 765 هـ) وابن عبّاد النّفري (ت. 792 هـ)، ونقل هذا القول أحمد زروق (ت. 899 هـ) وشمس الدين الحطاب (ت. 954 هـ) وأقراه. بل قد اختلف فقهاء تونس في القرن التاسع الهجري حول أيهما أفضل: ليلة القدر أم ليلة المولد النبوي؟ وكتب كل منهم في ذلك رسالة ينصر رأيه.
- المثال الخامس: أن العلماء اختلفوا في الإكثار من الاعتمار (أداء العمرة)؛ رغم أن النبي لم يفعل ذلك، وظاهر قول السلف أنه يُكره الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما، ومع ذلك ذهب بعض الحنابلة -كما نقلته كتب المذهب- إلى أنه يستحب الإكثار من الاعتمار. وقد نقل الإمام ابن مفلح (ت. 88 هـ) عن ابن تيمية أنه كره الخروج من مكة لعمرة تطوع لأنه بدعة؛ لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابي على عهده -سوى عائشة- لا في رمضان ولا في غيره اتفاقًا. ثم ضعف ابن مفلح قول ابن تيمية فقال: "وفيه نظرٌ".
فلاحظ كيف أن فقهاء المذاهب هنا أطلقوا البدعة المندوبة والبدعة المكروهة على أفعال تعبدية غير معهودة، وكيف أن مجرد الترك لا يعد حجة على تحريم الفعل كما لا يعد حجة على وجوب ترك الفعل، وإن كان الترك قد يدخل في الفعل الفاضل، والله تعالى أعلم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.